أشهر تفوت ولا نعلم مايجري بالخارج حقيقة... الوجوه الآدمية نسينا تفاصيلها ... ليس سوى وجوه الشرطة ... نوبة الشرطة تبقى بصحبتنا يوماً كاملاً ... من الفجر إلى الفجر في اليوم التالي ، ثم تتلوها النوبة الثانية .... ثلاث نوبات متتابعة ، ثم تعاد النوبة الأولى .... كل ثلاثة شهور يستبدل طاقم الشرطة بأكمله ... كي لانألفهم ، ويألفون اللطف معنا .
العالم الخارجي في كوكب ونحن في كوكب آخر ... ولاسفن فضاء تنقلنا إلى هناك .... أجل ذلك عالم أصبح في حكم الأحلام ، وكل مافيه بات ماضياً يحن إليه ، أو مستقبلاً مجهولا ... حتى الإستحمام بالماء البارد في الصيف صار حلماً يداعب نفوسنا ... المياه تتدفق من الحنفية كالحميم ... كأنها تخرج من قدر على النار ولكن لاسبيل للهروب منها .
في ذلك الجو المستعر وقفت أتجاذب الحديث مع جارنا (ف) بالزنزانة المقابلة الذي غاب طويلاً في حكم الغيب .... نتكهن بمصيرة فلا نصل إلى نتيجة مرضية ، كان ذلك قبل أشهر من وقفتي للمحادثة تلك ... أعادوه لنا بعد عدة أسابيع ... ذابلاً مرهقاً وفي عينيه جوع للرقاد ... وكأنما جفناه ماذاقا غمض منذ فارقنا .
أطلق العنان للسانه يسطر في أذني قصة غيابه المجهول ... تلك الأسابيع الفائتة كان ضيفاً على اللجنة .... عاشها بين واقف وجالس ... قضوا عليه وعلى العشرات من فرائسهم بالوقوف ساعتين والجلوس نصف ساعة ... هكذا حتى منتصف الليل ما أرخص الإنسان ! ... وما أرخص العبث بصحته وكرامته !
حياة لاتشبهها إلا حياة البرزخ أو العيش في وادي برهوت ... ذلك الوادي المعد للأرواح المعذبة .... هذا برهوت الأجساد وذلك برهوت الأرواح .
تورمت قاع قدميه من وجبات العصا المتتالية عليها .... ما إن تبرد ويهدأ أزير الألم في كعبيه إلا ويحين دور الوجبة الثانية ... هنالك تعلق الأجساد مجموعة الأرجل والأيدي في ربطة واحدة , ينزل ثقل الجسم بأكمله على الظهر .... لساعات طويلة تبقى الأجساد مدلاة هكذا ... كالذبائح تنتظر القصاب .
قلوب لم تبرمج بالرحمة مطلقاً ، قلوب لاتعرف للمشاعر معنى ولا طعما ، ولا تقيم للدين وزنا ولا احترام ... هم يعترفون وكما يقول المتحاورون : ( من فمك أدينك ) ... سمعهم (ف) من الحجرة المجاورة يتحادثون في نهار شهر رمضان ... أحدهما يأكل في وضح النهار ... استنكر صاحبه أن يأكل في شهر رمضان قائلاً : ألست صائماً ... أجابه : وأي صوم لنا ونحن نأكل من لحوم البشر من الصباح للمساء! ... ألا يعد هذا العذاب المبرح بأجسادهم أكلاً في لحومهم ؟! ساد الصمت والدهشة على صاحبه ... وبعدما قضوا من جسده وطراً بعصيهم عاد ليحكي لمسامعي قصته المترعة بالمعاناة .... ولا زال يعاني من مخلفات عبثهم بجسده .
تذكرني معاناته بمعاناة عشتها قبل الإعتقال بشهور .... تم استدعائي وإيقافي بسبب تلك القصيدة العزائية .... التي ذكرتها للجنة , جاءوا بالشريط وأسمعوني قصيدتي ... طلبوا مني كتابة نصها .... كانوا كتبوا نصا قبل ذاك لايمت للقصيدة بصلة ... ضمائرهم واسعة وتحتمل التلفيق ... كتبت النص كاملاً ... الآن هم يبحثون ما في باطن النص ... القصيدة كانت تقول ( باعوا عقايدهم منهو يأيدهم ).... أصروا على أني أحرض على إتباع الشيخ الجمري والنيل من ( الشيخ ... ) لم يكن المعنى في قلب الشاعر كما يقول أهل الأدب .... إنما المعنى في قلب ( المخبر) مخبرهم قال ( إخلص .... كل مافي القضية تدفع 300 دينار وتطلع ) التهمة جاهزة سلفا والحكم معد بلا قاضي ... لم أسلم لهم بما قالوا ... جاء العقيد .. ذاك الذي يدعي أنه لم يمسس أحدا ، وكل من يدعي غير ذاك كاذب .... جاءني وعبيد أوامره يحيطونه .... ألقى بعض كلمات بذيئة بوجهي .... وراح يوجه بقبضة يده لكمات إلى صدري .... لكمات بقوة ومتتالية ... حتى شعرت بأضلاعي أصدرت أصواتاً من تكسرها .... شعرت بموقع ضرباته ينزف دماً .
جمع العقيد نجومه من أجساد المظلومين ... كلما أسال مزيدا من الدماء وأشاع جوا من الآلام قفزت نجمة إلى كتفه ... حتى استوى التاج على كتفه ... وصاحب التاج لا يسئل وهم يسئلون .
كتبوا الإفادة لنا نحن الثلاثة ... أنا بمعية (مهدي ) و ( الشيخ مجيد ) بنفس التهمة ( الشيخ ) كتب القصيدة و ( مهدي ) ألقاها ... وأنا كتبت وألقيت قصيدة أخرى لاتعجبهم ... ولسوء الحظ جاءت في نفس الشريط .... تم التوقيف حتى ينبلج نهار جديد ... في اليوم اللاحق أحالونا على المحكمة ....القاضي هناك كالمخبرين يعمل للأوامر . ليس لشرف المهنة به من صلة 0
يسألك أسئلة يعلم بأنك مجبر في الإجابة بما لا تعتقده ... مع هذا حكم بغرامة 300 دينار دفاعا عن حق المساواة بين ( الشيخين ) أو تأديباً لمن يتفوه .
أعادونا إلى حصنهم مسرعين .... وأشغالهم تلاحقهم ... اتصلوا بأهالينا .... أبلغوهم بضرورة إحضار 300 دينار غرامة ... عليهم إحضارها ولو من قوت أطفالهم لايهم ... عليهم تلبية الأوامر دون مناقشة ... ذاك قانون أمن الدولة ، المخبر والعقيد والقاضي ، أحجار شطرنج يحركها الشيطان لصالح قضاياه .
كنا في المحكمة بإنتظار المثول أمام القاضي ... أحد المخبرين جالس بيني وبين (مهدي) يسأل ( مهدي ) : من الذي ألقى قصيدة ( جاءوا في ظلام الليل ماذا ياترى يبغون ) ؟! ماعاد المخبر بإجابة شافية .. ولو استدار برأسه شمالاً .. للجهة الأخرى لوجد ضالته محاذيا له ... كنت أنا من ألقى القصيدة .
قصيدة تمثل دورهم البشع بقتل الراحة واستلاب الطمأنينة من أجفان الآمنين ...دورهم منذ خلق الله الخلق حتى يومهم هذا ... تتعدد صورهم ولا تختلف قساوتهم إلا زيادة وتنوعاً ... يخطفونك من أهلك ومأمنك ويعودون يتحدثون عن أهلهم وراحتهم كالبشر ... ولكن لابشر .... البقية تأتي .
التعليقات (0)