كل ماتدونه أيدينا الناحلة فوق طلاء الجدار ، تأتي عليه الرطوبة في ليلتين .... تأتي عليه الرطوبة فتمسحه ولاتبقي له إلا أثراً خافتاً وظلاً باهتا .... آه ماذا تصنع تلك الرطوبة بأجسامنا؟ .... أجسامنا ذات البنى المتقشفه رغم إرادتها .... أجسامنا تضمر بنيتها ويستطيل الشعر في أعضائها ...
لا بد لنا من وسيلة نقلص بها امتداد هذا الشعر ، لا بد من حيلة تطرأ على الواقع المر هذا فتغير شيئا بما فيه .... بحثنا حتى في المروحة فوجدنا بعضاً من الأدعية مكتوبة على ورق (كارتون) بالإضافة إلى قطعة منشار صغير بطول الكف . بهذه المنشار سنبدأ المشوار .... مشوار ألف ميل يبدأ بخطوة ، وبشيء من المحاولات غير الناجحة نتوصل إلى المحاولات الناجحة .
إبتدأ (م) في العمل استل قطعتين من الألمنيوم ، ولربما استلفناها من الزنزانات المجاورة ، ثقب القطعتين في وسطهما بواسطة الطرف الناتئ منهما .... صار في كل منهما ثقبا ... بدأ يبرد القطعتين من مقدمهما لتكونا قادرتين على القطع بإلتقائهما .... وبقطعة صغيرة من الأطراف الناتئة بين القطعتين ،وبالطرق المتواصل بقطعة من البلاط وآخر يراقب كي لايفاجئنا الشرطة بالاستدلال على مصدر الصوت ... واصبح المقص جاهزاً ، لكنه يحتاج إلى مقبض ، وبطريقة الحياكة حاك على الطرفين قماشاً سميكاً .
جربنا المقص في شعورنا ، راح يقطع بطلاقة ونجحت التجربة إذن وأصبح بحوزتنا مقص ... نستخدمه ونعيره لجيراننا .
لا نستطيع أن نصرح بإسم المقص جهراً ... كنا نسميه (عبود) لنقله وإيصاله من مكان لآخر ... كان مقصاً بدائيا بل وأقل من بدائي ولكنه يفي بالغرض ويقضي حاجة نفوسنا ويؤدي واجباً تجاه أجسادنا المعذبة .
في الصيف كان لنا ( ترمس ) نملأه بالماء البارد من المبرد الخارجي كنا ننادي الشرطة ، فيفتحون لنا الباب ..... يذهب أحدنا يملأ ( الترمس ) بالماء فيعود ..... يبقى الترمس يمدنا بالماء شبه البارد ، وتبقى أجسادنا تنضح عرقاً لاهباً لاتقف افرازاته ليل نهار .... نستخدم ( فوطة ) صغيرة تعيش ملازمة لكفوفنا لمسح العرق المتدفق من الوجوه والأجسام ....
في ذلك الحر القاتل لاتستطيع أن تلبس أكثر من نصف سروال تغطي به مايجب ستره من الجسد , وتترك الصدر عاريا .... كنا نموت في اليوم ألف مرة ونبعث من جديد .
أصبح المقص (عبود ) عزيزا ومطلوباً للإستخدام .... يجب إيصاله للزنزانات المتباعدة ! وفي آخر الأمر ابتكرنا طريقة تمكننا من إيصاله .... ننادي الشرطي لنملأ الترمس بالماء ..... حين يفتح الشرطي البوابة ، يذهب أحدنا بالترمس بعد أن يكون قد خبأ (عبود) تحت ملابسه ، يصل للمبرد .... أثناء امتلاء الترمس بالماء ... يرفع اللوح الموجود فوق المبرد ويخبأ المقص تحته ، أما الآخرون في الزنزانة فيكون دور أحدهم اشغال الشرطي بوجه من الوجوه بالكلام .... حتى لايتسنى له الذهاب مع صاحب ( الترمس ) ولا مراقبة حركته وعمله هناك .
هكذا يعود صاحبنا وتنتهي نصف المهمة ، بعد دقائق تبدأ الزنزانة الأخرى المحتاجة لإستلام المقص .... تبدأ في طلب الماء البارد .... وهكذا يفتح لهم الشرطي الباب ويقوم الآخر بإشغاله ريثما يتمكن زميله من التقاط المقص .... وبات المقص لايكفي هذا العدد من الأفراد لإستخدامه لا سيما بعد كلله وضعف شفرته .... إذن كان المطلوب إعادة تهيئة شفرته وإلا نفذت صلاحيته .... أعيدت للشفرة حدتها ........ وبادر (م) في صنع (عبود) آخر في مصنع زنزانتنا ..
محرم وصيف وحاجة ، كلها محيطة بنا تجعل صدورنا فوهة بركان على أهبة الإنفلات بأتون سعيره الناري ... عاشوراء مضت أيامها الأولى ونحن هنا ، محجوبون عن مشاركة أهل البيت في رزيتهم .... لايستطيع أي سجان أن يحجب عنا الحسين أو يحجبنا عن الحسين .... فلا يستطيع أحد أن يحجب أحدا عن قلبه .... الحسين جرح في صميم قلوبنا ..... نحييه بتعداد الأنفاس ولاتصدر خفقة إلا وعليها ذكر الحسين ... الكريات في الدم معنونة بإسم الحسين ,الكريات الحمراء ترفع شعار الثورة في وجوه المستبدين .... والكريات الحمراء ترفع شعار السلام للعالم ، وأي رمز للسلام غير الحسين .
الشعراء في المعتقل يغرقون في فيض من نزيف قرائحهم ، قرائحهم لاتفتئ تعطي من غزير عاطفتهم إبداعات في عاشوراء الحسين . يكتبون ويكتبون ولكن ياترى أين يكتبون ؟ وبماذا يكتبون ؟ ... في أول الأمر يكتبون في الحيطان الواقفة حولهم .... الحيطان التي تحجزهم عن الحسين في مآتمهم يكتبون عليها حب الحسين في حجزهم .... لايستطيعون تدوينه في القرطاس لو توفر .... الكتابة المتكتمة في الحيطان وسيلة من لاوسيلة له .... تلك الزنازين لو أذن لحيطانها بالكلام لباحت بدياوين لاحصر لعددها .
كتبت قصيدة من شعر التفعيلية أبوح فيها بمكنون اعتقادي بنهضة السبط الشهيد في اصلاح واقعه الفاسد ، والتنديد بسلطة يزيد الفاسدة .... أقول في مبتدأها .
حسين ياقيثارة القلوب
يا أمل الشعوب
ياوتر اللحن الجهادي على الخافقين
يا نغمة العبرة والعبرة في حنجرة الثائرين
يانغمة إن عرفت أو عزفت تعصف بالجائرين
حسين ياحسين
في ودج الحزين
ممزوجة في ألم الدروب
يا أمل الشعوب
الوسيلة الوحيدة الفريدة في حفظ القصائد من أيدي العابثين الباحثين عن الحروف المدونة ... الوسيلة الوحيدة حفظها في القلب ... لهذا رحت أحفظ ما نظمته عن ظهر قلب .... حفظت القصائد كلها .... أعود عليها أسبوعياً بالقراءة كي لا يمحوها تعاقب الأيام .... إن عثرت أيديهم على الورق ، لا يعثرون على ماتحتوي القلوب ..... أنى لهم بالتوصل إلى خفايا القلوب .
كما دأبت أكفهم على مصادرة قصائدنا ، دأبت قلوبنا على الإنتصار على وسائلهم واستطاعت تجاوز قضبانهم ... لتنقل للمنتظرين خارج الأسوار قصائدها .... قلوبنا مجبولة على التمتع بخصال الحسين ، الحسين الذي لايهزم ، الذي يحرك الزمان ويأخذ منه مايريد .... البقية تأتي .
التعليقات (0)