القصيدة العزائية يتصارع على صدارتها اثنان , اللحن والكلمة , هناك من يرجح تقوية اللحن وإضفاء الحماس عليه على حساب تغييب الكلمة وحبسها في زاوية بعيدة. الإنصاف يقول أن اللحن والكلمة كالوالدين للقصيدة العزائية ولا يمكن تهجير أحدهما ونكران فضله في مقابل إبراز الآخر , ولا يمكننا أن نخفي على المتتبعين النزاع القائم بين الشاعر والرادود حول الكلمة واللحن.
الشاعر يدعي أن ألحان الرادود أضاعت تواتر إلهامه بأوزان كان اللحن هو المسيطر عليها , مما جعل من وزنه بحراً لا تستقر الكلمات في تفعيلاته وإن استقرت لا تأتي بنص ينسجم مع السليقة السليمة وفي النهاية هي أوزان تقلق الخليل بن أحمد الفراهيدي في قبره ويتنكر لها حتى الأخفش من تلاميذه . والرادود يزعم أن الشاعر يضغط عليه ليذهب ببهاء لحنه أمام جمهوره والجمهور متردد في قبول حجة أيهما.
وبالعودة للجمهور علينا أن نشخصه لنعلم حقيقة جمهورنا ما هي ؟ هل أن الجمهور جمهور كلمة ويتذوق الجمال في النص ويتتبع مواقع القوة لدى الشاعر ليثني عليها أم أنه جمهور تستهويه دوافع اللطم على إيقاع ينقله إلى أجواء حالمة تغيب به عن إدراك النص وما يحمل من رسالة.
وإذا أردنا أن ننصف الجمهور فنقول هناك من الجمهور من لا يرضى إلا بالنص المفعم بالقوة والمتدفق بجمال السبك اللغوي وقوة البيان , هذه الفئة من الجمهور موجودة ولها دورها في إرشاد الشاعر والرادود إلى ضرورة تفعيل الكلمة ولكن مع هذه الفئة كذلك يوجد شريحة واسعة من الجمهور يطربها اللحن ولا سواه وتعيش الكلمة إذا عاشتها من خلال اللحن وإذا لم يكن اللحن فيها يحيي التفاعل فلا حياة للكلمة في شرعها نعم اللحن من مقومات القصيدة وله دوره الذي لاينكر ولايمكن للقصيدة أن تنهض دون لحن حي يحيي فيها جذوة الوصول ولكن هذه الضرورة لا تحتم أن يكون اللحن انسيابياً حالما تبرز فيه ظاهرة التركيز على اللطم السلس . اللطم الذي تنتهي اللطمة الأخيرة في البيت مع انتهاء الكلمة بالضبط .
يكفي في اللحن أن يكون مؤثراً يصل إلى الأعماق ليوصل إليها الرسالة التي يحملها فوق موجات أثيره .
اللحن في الحالة السابقة يصبح قاتلاً للكلمة مع فرض التأكيد على ضرورة كونه بهذه الطريقة . وإذا استمر بتلك الطريقة كان وضع الكلمة مهدداً بالإنقراض من أولويات القصيدة الموكبية وبغياب الرادود عن معرفة البحور الشعرية والتفعيلات الصحيحة يكون المشوار مستمراً إلى مالا تعلم عقباه .
ولاندعي المعرفة التامة ببحور الفراهيدي ولكن تكفي السليقة السليمة والتردد على الشعر العربي مرات ومرات ليكوّن الرادود كماً وافراً من المخزون المعرفي .
ولربما يسأل البعض لماذا نرجح الكلمة على اللحن ، أقول ينبغي علينا أن نكون بارين بالكلمة في المقام الأول ونعطف بالبر على اللحن ثانياً في مجال الأداء الفني ، هذا لما للكلمة من الدور في رفع رسالة الموكب ، الكلمة تحيي الموتى وتوقظ الغافلين وتعيد الشاردين من حضيرة الإلتزام ، الكلمة رسالة لايسعنا التخلي عن مزاولتها . الكلمة هي الغاية واللحن وسيلة فليس من العدل أن تشغلنا الوسيلة عن الغاية .
هذا لايعني التقليل من شأن اللحن وقيمته الجمالية ودوره في ربط المستمع بالنص في حالات كثيرة . ولكن أن تصبح السيطرة للحن على الكلمة في عالم القصيدة فهذه حالة توحي بوجود سيطرة لاعقلانية على مسيرة الموكب ، على اللحن أن ينصاع للكلمة بطريقة ما وليس العكس ، وقد يمكننا إيجاد طرق كثيرة لحل هذه الأزمة القائمة بين اللحن والكلمة وهذه بعض الحلول :
1- يمكننا إدخال الرادود في دورات تدريبية تحسن تعاطيه مع البحور الشعرية المتعارف عليها وتمكنه من إيجاد الطريق إلى الذوق السليم في تركيب التفعيلات في بيت القصيدة الموكبية ، مع هذه المحاولة يتمكن الرادود فيما يتلو هذا من ابتكاره لحنه على التفعيلات المنسجمه لإنضباط سليقته على الأوزان الصحيحة ولايمنع هذا من وجود بعض الحالات الشاذه ، ولكنه يقلل من استفحال ظاهرة الألحان القاتله للكلمة .
2- نستطيع أيضا جمع الأوزان الصحيحة والسلسة لوظيفة كتابة النص وإدراجها في قائمة وتوزيعها على الرواديد وتوجيههم إلى ضرورة إجراء عملية التلحين في حدود هذه الأوزان وله مطلق الحرية في اختيار الأولوية لأي منها وأي عدد دون إفراط في التعدد لما له من سلبيات سنستعرضها لاحقاً .
3- ومن ضمن الحلول لهذه الأزمة حل قد يتطلب جهداً ما من الشاعر والرادود ، على الشاعر أن ينشئ قصائده مبكراً قبل المناسبة بشهر أو أكثر في المناسبات العامة ، وقبل شهرين على الأقل بالنسبة لموسم عاشوراء والمناسبات الكبيرة0 يستخدم الشاعر مطلق الحرية في اختيار الأوزان وبعد إتمام القصيدة يرسلها لأكثر من رادود يتمكنوا من إضفاء اللحن على نصها في وقت مبكر .
4- الحل الرابع يحتاج لتواصل بين الرادود والشاعر من أجل إجراء التعديلات على أوزان اللحن قبل اعتماده وهذا يحتاج من الرادود سعة صدر لريثما يتمكن من إمساك زمام الأوزان . مع أن في هذه الطريقة وفرة التأسف على ضياع جمال الألحان وانسياب إيقاعها .
هذه بعض الحلول التي قد تساهم في إزالة الخلل في القصيدة الموكبية الآيلة إلى التدهور أخيراً ، وهذه الحلول المقترحة لاتمنع من وجود الثغرات فيها ولاتحجب الحلول الأخرى التي ربما يتوصل لها المعتنون بالقصيدة الموكبية .
هذه الأزمة ساهم فيها بإعتقادي الإفراط في تعدد الأوزان مما حدا بالجمهور المعزي إلى انتظار اللحن الأكثر جمالاً أو الأكثر حماساً في القصيدة . وإذا كان للجمهور دور في فرض هذه الحالة فهو دور ثانوي وليس رئيسيا وإنما الدور الرئيسي للرادود ، فهو المعلم الأول للجمهور وتعويده على هذه الطريقة .
وللأسف هذه الحالة خلقت جيلاً لاتعنيه الكلمة بقدر مايعني له اللحن الشيئ الكثير وهذه ظاهرة لاتبشر بمستقبل طيب في طور المحافظة على إيصال الكلمة وأصالتها . وهذه الظاهرة لاينتظر منها أن تولد لدينا نهضة حقيقية للموكب ، بقدر ما هي حالات من الإنبهار المؤقت فيحتاج الجمهور والرادود إلى كثير من المراجعة لإعادة الموكب إلى الجادة الحقيقية لمسيرته الرسالية . ويحتاج الرادود للتخلي عن شيئ من التماشي مع رغبات الجمهور الغير لازمة ، والجمهور مطلوب منه الضغط على قناعاته وإعادة ترتيبها لصالح الموكب بالدرجة الأولى .
وماهي إلا الكلمة نستدر بها الدموع فوارة من أماقي المؤمنين وماهي إلا الكلمة نمطر بها المنحرفين عن مسيرة الرسالات ونتحصن في كنفها من جبروت المتغطرسين الجائرين ، فإذا فقدنا الكلمة في خضم التولع باللحن ضاعت ا لكلمة ولن نجني شيئا من اللحن بالجري وراءه ، فاللحن هو السلك الموصل للكهرباء وليس الكهرباء .
التعليقات (0)