أمام الحركات الإصلاحية والمصلحين عموماً خياران في التعامل مع الحال الإجتماعي السائد ، وخصوصاً أمام المشكلات الحقيقية التي تلمّ به ، فإمّا أن يتغافلها ويؤدّي وظيفته المجرّدة من دون الإصطدام بمشكلات الواقع ، وإما أن يواجهها ويتعامل معها بحكمة ، فمن يتغافل المشكلات الإجتماعية هو في الحقيقة يبتلى بها وبعوائقها ، لأنه يتحرك ضمن المجتمع المصاب وقد لا تنجو الحركة من الإصابة بتلك المشكلات ، والذي يختار خيار المواجهة فيحتاج إلى الحكمة ، فإن الطاغي والظالم يسعى للإستفادة من مواطن الضعف عند الناس لكي يدخل منها للتأثير على أي حركة تروم الإصلاح والتغيير.
ونتيجة لذلك نواجه بعض الأحيان بعض الحقائق المرّة في مسيرة العمل الإصلاحي لدى بعض الذين لا يراعون الحال الإجتماعي ولا يضعونه في حساباتهم من أجل المعالجة والتقييم ، فيتم شراء الذمم ، والضغط على الشخصيات من خلال التهديد بالفضائح الإخلاقية وغيرها ، مما يؤثر سلباً على مسيرة الحركة وقد يؤدّي ذلك إلى انحرافها ، فضلاً عن ضعفها وعدم تأثيرها الواقعي.
إن معرفة الحال الإجتماعي يعتبر شرط من شروط التحرّك (فالعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس) ، فالخطوة الأولى هي التشخيص الواقعي والحقيقي لما يعانيه المجتمع من مشكلات ، ثم التوجّه بمعالجات حكيمة تتناسب معها ، أمّا ما قد يفهمه البعض من انفصال ما هو عمل سياسي عن العمل الإجتماعي والثقافي فهو محض وهم، لأن كل تلك الجوانب يؤثّر بعضها في الآخر إيجاباً وسلباً ، وقوّة وضعفاً وسعة وضيقاً، لما لها من اشتراكات في المفاهيم العامّة والأصول الفكرية ، ولما لها من اشتراك في موطن التفاعل والتحرك ، وهو المجتمع ذاته.
إن الإمام الحسين (عليه السلام) في مجمل حركته كان يقوم بإشاعة المفاهيم الصحيحة في موازين الناس ، فيذكّرهم بأن الدنيا دار مفر والآخرة دار مقر ، وأن الخير والأمان الحقيقي هو خير ألاخرة وأمانها ، هذا بشكل مجمل ، أمّا بشكل خاص في حدود واقعة الطف في كربلاء من المواجهة الفعلية ، فإن يزيد وبن زياد انتهزوا ضعف الناس أمام الوعود الدنيوية البرّاقة ، فاشتروا الذمم ووجّهوا الناس لعبادة الدنيا وأثنوهم عن التفكير في الآخرة ، هذا الواقع الذي حكاه بعض الأشخاص من الذين كانوا قادمين من الكوفة عند لقائهم الإمام الحسين (ع) في منزل يقال له (عذيب الهجانات) في طريق الكوفة ، عندما سألهم الإمام عن الكوفة وأهلها قالوا : (أمّا أشراف الناس فقد عظمت رشوتهم ، وملئت غرائرهم يستمال ودّهم ، ويستخلص به نصيحتهم ، فهم ألب واحد عليك ، وأمّا سائر الناس بعد ، فإن أفئدتهم تهوى إليك ، وسيوفهم غداً مشهورة عليك..).
وقد عبّر الإمام (عليه السلام) عن هذه الحقيقة التي شاعت في أوساط الناس عند نزوله بأرض كربلاء في الثاني من المحرم، بعد أن اقبل على أصحابه، فقال: (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون). وهذه الكلمة الشاملة هي تشخيص دقيق لما كان يعاني منه المجتمع آنذاك من أن الدين بالنسبة إليهم ليس أكثر من صور ومظاهر وألفاظ ، خال من أي محتوى وسلوك وإيمان حقيقي ، لذلك تجدهم ينساقون خلف المادّة والمنفعة الدنيوية ، فإن كانت مع الدين كانوا معها ، وإن كانت مع الكفر والطغيان كانوا أيضاً معها.
وكانت هذه الحالة متشخّصة بعمق وبوضوح في شخصية عمر بن سعد (عليه لعنة الله) الذي وعدوه بمنطقة الري ، ليكون حاكماً عليها وهي ذات الثروة الهائلة ، عندما جاء إلى كربلاء ليدفع الإمام عن مسيرته وبعد أن استقر به المقام مع عسكره في أرض كربلاء ، أرسل إليه الإمام ليتحدّث معه ، فاجتمع به الإمام مع بعض الخواصّ ليدعوه لنصرته فدار بينهما هذا الحوار :
قال له الحسين (عليه السلام): ويلك يابن سعد أما تتّقي الله الذي إليه معادك أتقاتلني وأنا ابن من علمت؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي، فإنه أقرب لك إلى الله تعالى.
فقال عمر بن سعد: أخاف أن يهدم داري!
فقال الحسين (عليه السلام): أنا أبنيها لك.
فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي،
فقال الحسين (عليه السلام): أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز.
فقال: لي عيال وأخاف عليهم.
ثم سكت ولم يجبه إلى شيء فانصرف عنه الحسين (عليه السلام) وهو يقول: مالك ذبحك الله على فراشك عاجلاً ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله انّي لأرجو أن ﻻ تأكل من برّ العراق إلاّ يسيراً.
فقد حاول الإمام أن يعالج المشكلة الإجتماعية من خلال عمر بن سعد ، بوصفه قائد لجيش عظيم ، وشخصية عارفة بقدر الإمام (ع) ، إلا أنه أبى ذلك فاستحق الخسران المبين ، وكانت المسيرة الحسينية شاهدة على طغيان الحكّام وانحراف الناس من خلال قيمها التي بقت خالصة بنورها إلى يومنا هذا.
التعليقات (0)