إذا قيل لك يوماً أن سجاناً شاخ على سجين ولم يتمكن السجين من النفوذ إلى مايريد ولو بالقليل فلك أن تعتمد الشك أساس...تتالى الأيام على اعتقالنا ونحن في صندوق من الخرسانة ... جدار عن يميننا يفصلنا عن أصحاب لنا في المصير وجدار آخر يقع على شمالنا ويفصلنا عن أصحاب آخرين أيضاً ....ساعات السجن الفارغة تجبرك على شحنها بالمغامرات.
قرعنا الجدار بقبضات متتالية .... عادت لنا القبضات المتتابعة برد يخبرنا بالتجاوب .... لغة الأيدي تلك كانت معبراً للتواصل والتغلب على قهر القامعين لغة يحكمها الصمت البليغ .... الحيطان الخرسانية كانت وضعت لتكون حاجزاً منيعاً يفصل الأجساد والأرواح ... لكنها أصبحت مطواعة في التعاطي مع قبضات الإستئناس وكأنها استولدت إحساساً يشاطرنا...وكأنها أذابت كتلها الإسمنتية شيئا ما لتتناغم مع حرارة شقائنا .
أربعة جدران تفصلنا عما يدور حولنا ، أربعة كما أرادوا لها أن تكون ...بعددها كانت لنا سبل نقفز بها على جدرانهم .... أربع وسائل للتنفس بحريتنا أمام أربعة جدران جاهدة في وأد حريتنا .
البوابة الحديدية ذات سمك يتجاوز 3 بوصات ، لاتترك ثغرة للولوج منها ... إلا أنها تقصر عن القاع بثلاث بوصات ... ثغرة صغيرة وظفناها لإمتاع أنظارنا بكل ما هو خارج زنزانتنا .... نستلقي بكامل الجسد على الأرض ، ونفرش الخد على الأرض محاذياً للبوابة ... نتواصل بالكلمات المقتضبة من الزنزانة المواجهة لنا ... مع جهد مضني نتمكن من رؤية زنزانتين أخريين على جانبيها ... تنطلق الكلمات في التنفيس عن كبتها تاركة للعيون مسئولية مراقبة الممر ، وللأذن مساندتها في إرسال رسالة الخطر لدى بروز وقع أقدام الشرطة .... مع قدوم الأحذية تحتفظ الألسنة بمكنون لواعجها .... وتنطفئ الحروف فوق الشفاه ....أصواتنا تزعجهم وتقلق سكينة أمنهم .
إذا تحقق الشرطي من مصدر الصوت وأدرك وجودك أسفل البوابة تلاحق خطواته ، ركل الباب ليصك مسامعك صوت الحديد ... بمجرد إنصرافه تعود الحياة للكلمات ... وتستمر العيون في التردد والإستئناس حيث لاتعرف ممن تخاطبه إلا العيون .
أطلقنا للأصابع حرية التجول والتخاطب مع أصابع مخاطبيها تعويضاً عن اللمس والأحضان وعند السحر تنهض الأجساد عن البوابة لتقضي حق من بالداخل من الكلام .
النافذة في الزاوية اليمنى نستطيع الوصول لها برجل على طرف السرير وأخرى فوق الجدار... عن يميننا الزنزانة 45 ... نافذتها تقع عند الجدار الفاصل بيننا وبينهم ... للأحاديث الخاصة نتسلق السرير ونستدعي من نريد ... إذا تمادينا في الأمر نستطيع المصافحة المختزلة العاجلة ... الطريق الخلفية يرصدها برج المراقبة ... لسوء حظنا ربما, يقع البرج قريباً منا ,الشرطة لهم أيضا جولات خلف زنزاناتنا يتنصتون أحياناً ويراقبون أحياناً علهم يظفرون بتائق للحرية وجدوا صورته في النافذة .... الويل لمن تحفظ ملامحه ويستدل على رقم زنزانته ... ماعليه إلا الهبوط والإستعداد لوجبة دسمة من الأحذية الملمعة والأهواز الملساء .
ومن الضيق القاتل ذاك مابرحت أجسادنا عالقة في النافذة ... تتعب الأيدي , والأرجل تتشنج الدماء فيها ، ولا نكل من سكب قرائحنا في مسامع أصدقائنا ..... ولانمل من زرع التواصي بيننا .
تسلقت النافذة بنداء عاجل من (م) .... تجاذبنا أحاديث حياتنا في الخارج .... اتفقنا في رؤانا كثيراً وأختلفنا كثيرا ، في خاتمة الكلام دلت لهجته على قلق ينهش تفكيره .... حاول التخفي بإختلاق موضوع آخر ، قسمات وجهه لا يمكنني الجدار من كشفها ، ولكن في بطء كلامه سقم يشير إلى هم يداخله ... ختاماً باح لي بسره الخافي .... أودى به سوء تفكيره وتدبيره إلى الزواج سراً للمرة الثانية في إحدى الدول العربية ، والندم لايترك له راحة سالمة .... يخشى من أهلها إن فارقها وربما طلبوا منه مبلغاً كبيراً عند الطلاق .... وهنا يخشى من زوجته الأولى ...
يداي تتناوبان في حمل جسدي مرفقاً بالنافذه ... يد تستريح والأخرى تبدأ مهامها .... استقبل (م) مني جرعة وافرة من اللوم وإبتلعها بجناح خافض ... ما أجمل العائلة مهيئة لحمل أعباء حياتها بالتقاسم والتعاون ... وما أصعب أن يجمع الرجل بين ضرتين الأولى في أرض والثانية في أرض لايطئها بدون جواز سفر .... حياة إحداهما على حساب الأخرى ومابينهما أبناء ضحايا .
انتصر الندم في قرارة (م) وعزم على إصلاح الأمر بعد الإنعتاق من أزمة السجن الغامضة ,الزنزانة (49) على شمالنا لابد من وسيلة للتواصل معها ..... الشرطة يتركون لنا كوباً كبيراً من أكواب الشاي والحليب ..... كوب بمقاس راحةا ليد ... طلاؤه أبيض ذو حافة زرقاء كحلية داكنة .... قاعه مثخنه بالصدمات والتعرجات ، نوعية تسميها النساء ( شمندر ).
نحدد من جدار الحمام عدة أشبار ونبدأ عملية الإتصال ... بالقرع بالكوب على الجدار عدة طرقات ,فيصل الصوت إلى الزنزانة (49 ) بمثابة رنين الهاتف ..... هم كذلك كما نحن يضعون الكوب , فوهته بإتجاه الجدار ، في حالة نصف إغلاق .... نمكن فمنا من النصف المفتوح من الكوب ... نبوح بما يجب نحو الفضفضه .... الطرف المقابل يلوي أذنه في الجزء المفتوح من الكوب ، وتستمر الأحاديث في تفصيل واسع ، واسهاب مترامي المعاني ... عند الإنتهاء من مأرب الكلام يختم المتحدث المكالمة بإشارة (حول) ويقرع الجدار بالكوب مرتين متتاليتين ، فيستلم الخط المتحدث الآخر بعد القرع مرتين متتاليتين على الجدار أيضاً .
في مرة من المرات القليلة جداً التي كنت أستخدم هذا الهاتف العصري .... شاقني الحديث مع الأخ ( جعفر الدرازي ) حيث هو وشقيقه صالح في زنزانه ( 49 ) ... أصبحا زميلين في قفص واحد ... أظنها هفوة من هفوات الشرطة هناك .... بل علامة من علامات النباهة لديهم .... وإلا كيف يتسنى لضيق عواطفهم أن تضم أخا الى أخيه في مأوى واحد . حين يريان بعضهما البعض ينبعث التلاحم والتوادد وينصرف القلق مولياً عنهما . هذه الحالة لايرضاها شخص يحمل قلب سجان .
في تلك المرة باغتني الشرطي بفتح الباب .... ألفاني منكبا على الجدار أرسل كلامي في الكوب المقلوب .... ما حسبته أدرك صنيعتي ، لكنه بفطرة الذئب لايميز علاقة بين الهجوم والفائدة العائدة على معدته جراء هجومه .... إنما هي فطرة الهجوم وتمكين الظفر والناب ، بهذه الفطرة السبعية انقض علي ..... وبشحنة من الغضب المتدفق قال : ( أنت شنو يسوي ) ؟ كان الصمت أفضل وسيلة للخروج بأحسن النتائج وكانت مصادرة الكوب من زنزانتنا أقل جزاء لما اقترفته يداي .
الأكواب في منازلنا ( على قفا من يشيل ) لكنها في ظرفنا ذاك كانت تعني لنا الكثير .... كنا نخزن فيها الشاي لإستخدامها اثناء الجوع الطاغي بين الوجبة والوجبة .
ولها وظيفة الهاتف بعد الفراغ ... وتكفي هذه الوظيفة لتكون عزيزة على مقطوعين يتوصلون بها إلى تقليم أشواك الغربة من أحشائهم ..... البقية تأتي
التعليقات (0)