هل ما قاله السيد عبد العزيز بنيس السفير المغربي في طهران صواباً عندما سُئِل عما يجمع إيران والمغرب ؟! باعتقادي إن ما قاله ليس صواباً فقط بل إنه فقأ عين الفتنة، وأضع تحتها عشرون خطاً . السيد بنيس قال " إن ما يجمعهما (أي إيران والمغرب) كثير، وقد لا تستطيع بضع كلمات أن تعده أو تحصيه، فمن الثقافة والعادات المشتركة بين شعبيهما إلى كون إيران المركز الحامي للدين الحنيف في أقصى الشرق " وقد تكون مثل هذه اللغة العاقلة هي سترة النجاة لتكوين علاقات عربية عربية أو إسلامية إسلامية تمنع من وقوع المحظور، كما أنني أعتقد أيضاً أن خطاب السفير لم يكن كلام ترف أو قيل بلغة دبلوماسية أو حتى مُجاملة يُلقيها في الصحافة الإيرانية على اعتبار لأنه سيغادر طهران بمناسبة انتهاء فترة عمله، فالمغرب كان عاقلاً في علاقاته مع إيران، فقد نشأت بين البلدين علاقات اقتصادية واجتماعية ودبلوماسية أفضت إلى توقيع مجموعة من الاتفاقيات والبرتوكولات أهمها الاتفاق على تصدير النفط الإيراني إلى المغرب مقابل استيراد مادة الفوسفات والذي ُوقّع خلال انعقاد اللجنة الرابعة المشتركة في ديسمبر/كانون الثاني من العام 2004 في العاصمة الرباط، إضافة إلى وجود مشروع اتفاقية تخص تشجيع وحماية الاستثمارات بين البلدين واتفاقية منع الازدواج الضريبي وتسديد المبادلات التجارية بالعملات القابلة للتحويل، وعلى الصعيد الاجتماعي فإن الجامعات الإيرانية تضم اليوم عدداً لا بأس به من الطلبة المغاربة الذين يتابعون دراساتهم العليا في اختصاصات الطب والهندسة والعلوم الإنسانية والذين يتلقون منحاً من الحكومة الإيرانية، وكان للمغرب موقف جيد من موضوع الملف النووي الإيراني عندما أكّد على حق إيران في امتلاك التقنية النووية السلمية من أجل خدمة شعبها وضمان تقدمه وازدهاره باعتبار ذلك شيئاً تكفله كل القوانين والمقررات الدولية ومواثيق الأمم المتحدة، إذن ما قاله السفير بنيس هو من حكمة الرأي الذي يدعونا إلى التفاؤل بوجود شخصيات عربية مسؤولة تُؤمن في علاقاتها الخارجية بالأشياء كما هي بدون رتوش أو انجرار نحو التنافس الديني أو المذهبي المفضي إلى سوق التكفير والتنابذ والتنافر والاقتتال، وهو ميزان عقلي يجب أن يتنبّه له أمراء التحشيد الطائفي ضد ما يُسمونه بالمد الصفوي ضد المصب الرئيس، وهو نعت يُشَمُّ منه الرغبة في توصيف الواقع بأنه حرب شيعية سنية، ثم إنه انتقاء لمُفردة حقبة تاريخية جدلية، تائهة في تاريخ الحضارة الفارسية، التي شِئنا أم أبينا أنها ساهمت في إثراء الفكر البشري قبل آلاف السنين .
حضارة تُحتَرم
أقصى ما توصلت بحوث التاريخ وبالتحديد ما ذكره المؤرخ أمين شحاته، هو أن إيران المنسوبة أصلاً إلى الأقوام الآرية التي قَدِمَت من موطنها الأصلي جنوبي بحر الأورال إلى الهضبة المرتفعة الواقعة أسفل بحر قزوين، هو أن هذا البلد وخلال العصر الحجري الحديث كان جزءً مهماً من منطقة الشرق الأوسط التي شهدت نمواً في نمط الحياة الزراعية الريفية المستقرة، وقبل حقبة الأخمينيين (8000 ق م) تمكنت الثورة الزراعية من إقامة مستعمرات دائمة وتكوين حضارات مزدهرة، حتى أصبحت شبه الهضبة الإيرانية مهداً لواحدة من أقدم الحضارات في التاريخ، ويُشير المؤرخون إلى أنه وفي (3900 ق م) شُيّدت مدينة سيلك بالقرب من كاشان، وهي أول مدينة بُنيت على الهضبة الإيرانية، وفي (1500 - 800 ق م) كانت طوائف الميديين والفرس، وهم من البدو الآريين الرُحَّل الذين سكنوا شبه الهضبة الإيرانية قادمين من آسيا الوسطى، قد استقر بهم الحال في غرب إيران، وأصبحوا هم والفرس في الجنوب خاضعين في البداية للدولة الآشورية، ولكنهم سرعان ما استقلوا عنها لاحقاً، ومع تكوّن الدولة الأخمينية أسّس كورش إمبراطورية فارس عام 550 قبل الميلاد، وكانت أول إمبراطورية عالمية، وفي عصر الملك دارا شهدت إيران ازدهاراً اقتصادياً باعتماد النظام المرزباني، حيث عُرِفَ أقدم شكل من أشكال العملة في التاريخ (الداريك) بالإضافة إلى توحيد الموازين والمقاييس وتنظيم القوانين التجارية وتشجيع التجارة العالمية وأسّس الطرق والموانئ والبنوك، كما بنى نظام الري الأرضي ورفع من اقتصاد الإمبراطورية الفارسية إلى مستوى لم يسبق له مثيل من الرخاء، فهيمَنت إمبراطورية فارس على العالم لما يزيد على قرنين من الزمان، وكان لها دورٌ بارز في تقريب الشرق بالغرب والغرب بالشرق، وتعددت بها الكثير من اللغات والأعراق والديانات والثقافات، وسيادة القانون، وإنشاء جيش مركزي قوي، وحكومة دولة فعالة ونظامية . وفي (334 ق م) غزا الاسكندر الأكبر المقدوني فارس المتمثلة في الدولة الأكمينية وأسقطها، وأحرق مدينة برسيبوليس إلاّ أنه قلّد عادات البلاط الفارسي وحاول تكوين ثقافة جديدة مَزَجَت بين الفارسية والإغريقية (الهلينية) .
وبقيام حركة أردشير الأول تأسست الدولة الساسانية التي قامت بإحياء الحضارة الفارسية والزرادشتية، وأنشأ ابنه شابور الأول (مركز جندي شابور للتعليم العالي) وأقام سد شستر، وأنشأ العديد من المدن، منها نه شابور (نيسابور الحالية) . وفي سنة (642 م) انتصر المسلمون على الفرس في موقعة نهاوند وانتهى حكم الأسرة الساسانية بعد مدة بلغت 416 عاماً ودخل الشعب الإيراني في الإسلام وقَبِلَ ولاية العرب المسلمين، واستُخدِمت الحروف العربية في الكتابة الفارسية إلى يومنا هذا، وقد بَرَزَ في حقبة ما بعد الفتح نخبة من علماء المسلمين الأفذاذ مثل سيبويه، مؤسس علم النحو، والخوارزمي، في الفلك والجبر، والرازي، والفردوسي، وابن سينا، والغزالي، وعمر الخيام، و الشاعر الصوفي الكبير جلال الدين الرومي، وعالم الفلك والفيلسوف نصير الدين الطوسي، وصاحب ديواني البستان والجولستان سعدي، وظهر عالِم البصريات الشهير كمال الدين فارسي صاحب نظرية الانكسار والانعكاس، والشاعر الغنائي البارز شمس الدين حافظ الشيرازي، كما ظَهَرَ من الفرس ثلاثة من فقهاء الإسلام الكبار وهم زعماء المذاهب الإسلامية السُنّية الحنفي والحنبلي والشافعي وغيرهم كثيرون، وأصبحت فارس مركزاً للفن والأدب والعلوم .
أقلام أم أفعى صناجة
من يُراقب الخطاب الإعلامي في صحافتنا هذه الأيام لا يُمكنه إلاّ أن يتحسّس وبدون أدنى عناء أو مشقّة حجم النفس الطائفي الفاقع والمناكفات البيزنطية المُتَأَسِّسَة أصلاً على دوافع أخرى غير ما تبوح به تلك الأقلام الساقطة والأفواه النتنة، التي لا زالت تعتقد بأن العالم مُتلهف لسماع وقراءة قرطاسها البائس الذي ما فتئ وهو يقتات من حُقبٍ تاريخية متناثرة من البطولات المُرسلة، لقد نست تلك الأقلام قضايا الناس الاجتماعية كالفساد وتدني الأجور ونمو الفئات الطفيلية ونظام المحسوبيات التي تنخر في مجتمعاتنا وتفرغت لإذكاء الفتن وتزييت عجلة التأليب المذهبي، الذي بدأ أواره يضرب في الخطوط السياسية والاجتماعية الحمراء التي كانت وليومٍ ليس ببعيد مُقدسات لا يقربها أحد .
أقولها جهاراً ما دام الحال لا يُفرق ما بين خطاب العامة والنخب وما بين الإخفات والجهر أن الأكثر إيلاماً على النفس هو اندفاع أؤلئك البؤساء نحو تخريب ميزان التناغم الاجتماعي والتجاور الحميم بين المذاهب، فضلاً عن تخريب الميزان الإقليمي الذي بات مُهدداً بالإنفراط بالدفوع السياسية المتلاحقة والتي تزداد وهجاً بموجات التحريض وصب الزيت على النار، ففي الوقت الذي نجد الملفات الساخنة تُسَخّر لجر المنطقة إلى احتراب وتقاتل وخصومات بينية من قِبَل الولايات المتحدة نجد من الجُهّال من يسعى جاهداً للقضاء على كل الجهود المضادة لتلك السياسات النيوإمبريالية، وباتت كلمات الصفوية والتفريس والتدخل الإيراني تُتَداول أكثر من الشعارات المناهضة للكيان الصهيوني، بل الأكثر أُعيدت ذات الأبجديات التي كانت سائدة إبّان الحرب العراقية الإيرانية والتي كانت تتحدث عن جولة من الصراع التاريخي بين العرب والفرس، أو وَهْم الأطماع الفارسية في الخليج، فمن قال لكم أيها التُعساء أن المعركة هناك مع الإيرانيين، أم أن عاهة الإعاقة العربية لا زالت تُلاحقكم، لماذا تُلوون أذرع الحقيقة وتُطوعونها لخدمة مساعٍ شيطانية مسكونون أنتم وحدكم بها، إلى متى ستُحسنون القراءة أيها الأميون المستعربون .
قد أدعي هنا أنني أرقب الملف الإيراني جيداً لذا فإنني أملك الحق في أن أقول، أنني لم أجد خطاباً في الداخل الإيراني يدعو إلى التناقض بين القومية الإيرانية والديانة الإسلامية، بل وجدت أناساً وكتباً وثقافة تقول أن الإسلام والمسلمين من مقومات البنية التي تقوم عليها القومية الإيرانية بل اعتبروها من أهم الخصائص والمشخّصات الأساسية كاللغة والتقاليد والآداب والسُنن الأصيلة، كما وجدتهم يمتنعون عن المدح المفرط لإيران القديمة ويعتبرون سقوط الدولة الساسانية نتيجة لضعفها وانحطاطها أمام قوة إيمان المسلمين العرب، ولم يعودوا يعرضون في الكتب المدرسية لقصة شابور ذي الأكتاف الذي ثقب أكتاف العرب ورَبَطَهم من خلالها وأسَرَهُم؛ بل رأيتهم يعوّضون عن ذلك في مناهجهم الدراسية بذكر قصص إسلامية وتبيان الحوادث المتعلقة بزمن النبي محمد (ص) وما يتعلق بالوقائع المرتبطة بالمجتمع العربي، والإشارة لعلماء عرب كبار كابن الهيثم وأشعار أبي القاسم الشابي وقصيدة (لامية) لابن الوردي وإسهامات الشريف الرضي ودعبل والفرزدق وصفي الدين الحلي، واستحودت القضية الفلسطينية على كم هائل من كتبهم الدراسية في الصف الثاني والثالث والرابع والخامس الابتدائي والأول والثاني المتوسط والعربية للصف الثالث الإعدادي للعلوم الإنسانية، لذا فإنني لا أستطيع أن أقرأ عداء هؤلاء المستعربين لإيران إلاّ من ثقب العداء الطائفي، وإذا كان ذلك صحيحاً (وهو كذلك) فإن المسؤولية يتحملها الجميع لتجنيب الناس والمنطقة ويلات احتراب أعمى، لأن النفخ في هذا الاتجاه سيعني إشعال نارٍ سوداء مُرعبة، كما أن جولات الدهس في البطون قد ترجع بنَفَسِ جنوني لن يستطيع أحد إيقافه أو حتى ترويضه.
التعليقات (0)