شارك هذا الموضوع

مكونات الأدب الحسيني.

إحبيب آل حيدرن أول مستلزمات دراسة الظاهرة هو توصيفها التوصيف الدقيق حتى يستطيع الراصد أن يمسك بها ويكتشف ما فيها من أبعاد ورؤى ويقدم قراءته ونقده على ضوء إلمامه بالظاهرة وحدودها الأساسية، ولذلك فإن هذا المقال القصير يهدف إلى وضع توصيف أولى لمكونات الأدب الحسيني كظاهرة تحتاج إلى توثيق ودراسة وقد قدمت في ذلك أشتاتا من الأوراق المختلفة، والتي هي عبارة عن اجتهادات شخصية، ليست فرضا على أحد، وليست نهاية المطاف والقول في الأدب الحسيني، ويمكن مراجعتها في مواقعها.


لنا أن نتساءل أولا ما المقصود بالأدب الحسيني وما هي مكوناته.   


العنوان في الأعلى تجاوز افتراض الظاهرة إلى وجودها وأشار مباشرة مكونات الأدب الحسيني وبهذا صار من فاضل الكلام السؤال عن المصطلح، وذلك لما لهذه الظاهرة من مساحة واسعة على أرض الواقع، مما يجعل منها أمرا واقعا لا حاجة لإثباته، وما الاصطلاح إلا عنونة للتأطير والتعريف بما هو واقع، ورغم ذلك فمفردة الأدب الحسيني ليست اجتراحا من كاتب الأوراق بل هي أمر سائر ألفت فيه الكثير من المصادر والمراجع وأترك معالجة أمر المصطلح إلى موقع آخر.


ومن خلال الإطار الزمني كمسوغ منهجي فقط وفي هذه اللحظة الراهنة المهمة، فإن مفردة الأدب الحسيني حين تطلقها ستشمل كل المجالات الفنية التي تستخدم كأداة فاعلة في التعبير عن تعاطي المجموع الشيعي مع قضية الإمام الحسين وما تعبأت به من قيم إنسانية تتطلع للفضيلة والعدل والخروج على الظلم والتغيير والإصلاح والثورة، وذلك في إطار إبداع سنوي يتصف بحالة احتفالية من خلال الشعر وفنون الصوت، والخطابة والرسم والخطوط والمسرح والتجمهر الاحتفالي الاستعراضي.


إن الرابط بين كل هذه المكونات هو الحدث التاريخي وما ولده عند المجاميع الشيعية من تفاعل خاص مبتدعا الكثير من التنويعات على المستوى الأدبي والتي تمثلت في شكل دائرة يكون مركزها الحدث وقيمه المضمونية، ويتمثل قطرها المتواصل ببعضه في المكونات السابقة المتمثلة في أدوات الإحياء من شعر وخطابة وفنون صوت إنشادية "1" ومسرح وخطوط ورسوم، وسينما ومازالت الدائرة تتسع لأدوات أخرى قد تستدعيها محاولات التجديد والتطوير المستمرة.


الشعر الحسيني
أما الشعر فهو يمتد امتدادا عميقا في الظاهرة ويكاد يكون مؤسسا أوليا على المستوى التاريخي من خلال استدعاء ومراكمة القصائد التي قيلت في رثاء الإمام الحسين والتأليف على منوالها حيث يتحول الرثاء وهو الغرض الشعري القديم الذي يبكي على الفقيد ويستعرض صفاته ويفديه بالنفس والولد، إلى حالة إحيائية كلما مرت الحادثة بالذاكرة يجيء الشعر ليحيي صورة المشهد، منطلقا من الحالة الرثائية مع الأخذ في الاعتبار بحاجات الجماعة على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي.


إن القصيدة الرثائية التي قدمها شعراء أهل البيت وشجع عليها الأئمة ليست قصيدة رثاء عادية بل عبارة عن بنية مضمونية ذات محورين المحور الأول هو رثاء الشهيد والمحور الثاني قضية الصراع مع قاتليه "2" تمثيلا لحالة الولاء والبراءة ولذلك فقصيدة الرثاء الحسينية ليست قصيدة بكائية فقط ويكفيك أن تلقي نظرة في قصيدة دعبل الخزاعي وغيرها لتجد في مقابل الرثاء والبكاء على الحسين التعريض بالقاتل واستبداد سلطاته الجائرة، بما يؤكد الحالة المضمونية التي تتسع لها قصيدة الرثاء الحسينية، التي لا تكتفي بالبكاء الشجي بل تنطلق لتسجيل الموقف وإشاهر كلمة الحق في جرأة وشجاعة، ولذلك فإن المتلقي ينطلق بها ليعديها إلى زمنه فيتمثل فيها أهداف الإمام الحسين من الثورة والخروج على الظلم ويقف بها على راهنه المعاش موقفا عمليا جريئا من غير مواربة.


وقد قدم الشعر في هذا المنحى عطاء زاخرا فتنوع بين العمودي والمتعدد الأوزان وشعر التفعيلة سواء بحسب الفترات الزمنية التي يمر بها أو بحسب صانعه وتوجهاتهم أو بحسب طريقة الإحياء فمن شعر عمودي في فترة العصرين الأموي والعباسي كان يلقيه الشاعر في رثاء الحسين ويشجع عليه أئمة أهل البيت في مجالسهم وكان التزامه بالعمود كإطار للنموذج الإبداعي المعتمد في ذلك العصر ثم انتقل إلى شعر في صورة الأزجال والموشحات ذات القوافي والأوزان المتعددة وذلك لطبيعة تطور الإحياء حيث تقدم أبيات القصيدة الحسينية من خلال ألحان متعددة وأداء صوتي مؤثر في مجالس الخطابة أو في المواكب العزائية، فكان تعدد الأوزان والقوافي متولدا من تعدد الألحان، والتنويع في تمثل الحالات الإنسانية أثناء الخطابة ومسيرة العزاء، وقد جاء القليل منه في الشعر الحديث الحر على منوال شعر التفعيلة كطريقة للتجديد على مستوى الشكل والإيقاع حيث تنطلق الدفقات الشعرية إلى ما لا نهاية.


ومما يلفت الناظر كثرة الإصدارات في مجال دواوين الرثاء الحسيني ويكفي أن شعر الرثاء الحسيني في البحرين يجعل من الدراسة البيبلوغرافية تتخذ له مكانا خاصا لسعة حجمه من الإصدارات والدواوين كما فعل ذلك د. منصور سرحان حين أعد له مكانا خاص في تصنيفه السنوي لإصدارت البحرين من الكتب والمؤلفات، حتى ليكاد شعر الرثاء الحسيني يمثل حركة شعرية مستقلة لها ما يميزها من مظاهر خاصة تختزن رؤية وتجربة متفردة يمكن دراستها بشكل مستقل لنرى امتداداتها ورؤاها وأثر كل ذلك في الساحة الشعرية البحرينية وفي الشعرية العربية.
  


الرسوم والخطوط


أولا: الرسوم
وكذلك من مكونات الأدب الحسيني الرسوم الفنية التي تتزين بها البيارق واللوحات والأقمشة المحمولة أو الجدارية حيث تجسد تلك الرسوم طريق للتفاعل الفني البصري مع كربلاء وتتشكل في نوعين فهي إما تجريد لفكرة من أفكار كربلاء وقيمها أو تصوير لمشهد من المشاهد القارة في الذهن عن الثورة الحسينية.


أما النوع الأول فهي رسوم التجريد وهي عادة تتمثل في رموز مستجمعة من الحادثة ومن أدوات المعركة وشخوصها وأفكارهم وهي علامات وإشارات مستقطعة بدقة لتشتغل في الفكر كرموز دالة على كربلاء عند المتلقي الخاص حتى أصبحت قادرة في ذهنه على أن تنشحن بما أمكنه أن يشحنها من معاني وترميز دال في شكل استعارات تدمج بين الماضي والحاضر من خلال الفكرة والرمز."3" ويكفيك أن تلقي نظرة على أي موكب من مواكب العزاء لتجدها ماثلة أمامك.


أما النوع الثاني فهي رسوم المشاهد وهي في العادة عبارة عن مواقف تمثل حالة الثورة والمأساة وذلك من خلال إعادة رسم مشهد المعركة كاملا بحسب ما يصوره الذهن من خيول منطلقة وفرسان متشابكة ورؤوس مقطوعة وأيدي تتهاوى وسهام ورماح مصوبة، ودماء تضمخ الصورة ونظرات تعمق الموقف ووجوه متقابلة بين شدة الجمال والنور والبراءة وبين شدة القبح والغلظة والقسوة وكأنك لست أمام مشهد جامد بقدر ما أنت أمام قصة ذات مشاهد عدة حتى أنك لتستطيع أن تجزئها وتتابعها زمنيا المشهد تلوى الآخر، وهي رسوم ناتجة من السرد المتصور لأحداث المعركة. " 4"


 وقد تقدم في اللوحات مشاهد مستقطعة فتقوم كل لوحة بتصوير كل شخصية على حدة وأبرز موقف لها في الذاكرة السردية، وذلك لاستدعاء المعاني التي انشحن بها كل موقف من المواقف في كربلاء. " 5"
   
وهناك من الرسوم واللوحات ما يمثل بعض المقولات المشهورة لشخوص كربلاء، وذلك لما تتسم به هذه المقولات من محورية في المأساة أو الثورة والتضحية، والاستشهاد. "6"
 
ومن جميل من ابتكرته المخيلة الإبداعية في السنين الأخيرة في هذا المجال فكرة المرسم الحسيني الذي جاء ليستجمع تلك الجهود الفنية ويبرزها في تظاهرة خاصة تحتفي بهذا الإبداع وصانعيه ومتلقيه وتتطلع لأن تقدم كربلاء في صورة أكثر إشراقا وأكثر ألقا.


ثانيا الخطوط
ومن مكونات الأدب الحسيني كذلك الخط العربي بجمالياته الخاصة حيث يبرز في البيارق والأعلام واليافطات واللوحات والأقمشة الجدارية والمحمولة و التي في تتقدم الموكب وتتشح بمقولات الحسين وشهداء كربلاء وتقوم بوظائف عدة منها عنونة الفعاليات وإبرازها إعلاميا، والتدليل على كل منطقة ودورها واستعدادها للإحياء المتميز حيث ترفع على الجدران مع بداية اليوم الأول من عشرة محرم أقمشة سوداء بمختلف أنواع الخطوط من خط النسخ إلى الخط الديواني إلى الرقعة وحتى الثلث بجمالياته وتداخل حروفه، يكتب بها مجموعة من أقوال الرسول وأهل بيته والمقولات التي تبين أهداف ثورة الإمام الحسين، بما يجعل من موسم العشرة بيئة خصبة في توظيف الخط العربي حيث تحتفي المناسبة بهذه الخطوط وتبرز جمالياتها وقدرتها على توصيل الرسالة المعبأة فيها والمكتوبة بشكل جميل وفي حروفية متناسقة متمكنة، خصوصا حين أصبحت تتداخل مع فن الرسم وألوانه الجميلة الخلابة. 


المسرح الحسيني وأنواعه
ومن مكونات الأدب الحسيني كذلك المسرح وأن المسرح ليقف كمعلم أصيل بين هذه الفعاليات حيث أن ما يقدمه الشيعة من تمثيل واقعة كربلاء يعد أبعد نقطة تاريخية لتاصيل المسرح العربي، كما هي إشارات بعض المستشرقين والباحثين العرب"7"، ومن هنا لابد من المحافظة على أصالة هذا العنصر والاعتزاز به كقيمة إبداعية متميزة وأصيلة لهذا المجموع، ناهيك عن أن هذا المكون يعتبر من أهم المكونات قدرة على تقديم صورة مؤثرة وفاعلة في التغيير لما للصورة والتجسيد من قدرة على التغلغل في أعماق النفس البشرية، فالمشاهد حين يتلقى صورة القاتل يرفض أن يكون مثله وحين يستبطن صورة أهل الخير والإصلاح فإنه يطمح أن يسلك سلوكهم من أجل التغيير، ومن خلال دراسة مسحية سابقة قمت بها لما يقدم من مسرحيات في شهر محرم في البحرين وجدت أن المسارح العاشورائية تنقسم إلى خمسة أنواع الأول مسرح احتفالي وهو الذي يكون فيه الفرد مشاهدا وممثلا في نفس الوقت ومثاله المسيرة الموكبية وما فيها من تمثل لمشاهد كربلاء والحركات الثورية الإصلاحية التي أعقبتها واستلهمت خطها في الخروج على الظلم والثورة، وأما النوع الثاني فهو مسرح القصيدة الموكبية حيث اعتمدت بعض قصائد الموكب على الشكل الحواري ثم تطور هذا الشكل بتوقف الموكب في ساحة  مفتوحة لتمثيل أحد مشاهد القصيدة مما يزيد من مستوى التفاعل، ومن أمثلة هذا النوع مسرحية سيد الفرات وغيرها والتي قدمت في ليلة العاشر من محرم.
 
وأما النوع الثالث فمسرح شعبي وهو ما يقدم في يوم عاشر وما بعده من مشاهد المعركة وحرق الخيام ويعتمد كثيرا على ذاكرة الأبيات الحسينية. " 8"


وأما النوع الرابع فمسرح تسجيلي تاريخي يقوم فيه الممثلون بتقديم مشاهد تاريخية مستمدة تتبع سيرة الشخصيات والأحداث ذات العلاقة بكربلاء المعركة بحسب الوثائق التاريخية. "9"


وأما النوع الخامس فمسرح إبداعي حيث يتخذ من الحادثة ومضامينها مجرد منطلق ليقول ما يريد متجردا من عنصري الزمان والمكان فينطلق في الماضي والحاضر والمستقبل ويحلق في قيم كربلاء ومعانيها من غير أن يلتزم بالصبغة التاريخية الموثقة أو الصورة الشعبية المتخيلة. "10"


وبقي من المكونات الأخرى الخطابة وفنون الصوت والسنما وهو مما أتمنى أن يأتي عليه القلم في فسحة قادمة.






الهوامش:


1- "الشيلات الرداديات".


2- وهو ما دعم في الفكر الشيعي قضية موالاة أهل البيت  البراءة من أعدائهم في وما عرف "بالتولي والتبرؤ" كمسألة من مسائل علم الكلام الشيعي.


3- كما هي صورة اليد الخارجة من تربة متشققة مثل الجراح ومضمخة بالدماء والتي ترفع إصبعا بما يدلل على القوة والتحدي والتي يشع من خلفها النور مثل شمس مضيئة وكأن كل شعاع يمثل قيمة من القيم التي تتضمنها الثورة الحسينية مثل الوحدة العدل السلام الحرية، توجد هذه اللوحة في موكب السنابس وهي عبارة عن فكرة رسمها وخطها الأستاذ أحمد الإسكافي وطورها كل من الفنان جعفر عبد الحسين والفنان عقيل حسين وخطها عبد الشهيد الثور، وعديدة هي الرسوم التجريدية التي تمثل صورة يد أو سيف أو كفن وشموس وأقمار.


4- كما هي لوحة الفنان عقيل الدرازي والتي تعرض في المنامة مقابل مأتم بن زبر.


5- كما فعل الفنان عبد الكريم البوسطة في رسومه في مأتم راس رمان، فناك لوحة تمثل العباس وهو يمتطي فرسه حاملا قربة الماء في طريقه للنهر لسقي الأطفال العطاشى وهو يتلقى رشقات السهام والسيوف وتقطع يده وما إن تشاهد اللوحة حتى تستدعي كل معاني الشجاعة والإيثار وتستحضر أبياته الشهيرة.


يانفس من بعد الحسين هونني
هذا حسين وارد المنون
والله ما هذا فعال دين
وبعده لا كنت أن تكوني
وتشربين بارد المعين
ولا فعال صادق اليقين


6- كما هي اللوحة التي توشحت بمقولة إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني في أكثر من منطقة.


7- محمد عزيزة،  والإسلام والمسرح،


- د. علي عقلة عرسان رئيس أسرة الأدباء والكتاب العرب في دراسته حول الظواهر المسرحية عند العرب.
- د. محمد الخزاعي ، دراسات مسرحية.


8- كما في قرية بي جمرة وقرية المصلى وكذلك عزاء بني أسد سابقا في السنابس .


9- وقد قدمت في هذا النوع بعض المحاولات مثل مسرحية نكث العهود حيث تروي قصة مسلم بن عقيل رسول الحسين لأهل الكوفة وحدث استشهاده،


10- كما هي مسرحة الملحمة الخالدة، التي قدمت على مسرح النادي الأهلي.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع