شارك هذا الموضوع

تجليات الأدب القرآني في القصيدة الحسينية

منذ أنزل الله كتابه الحكيم ولا يزال محمد (ص) وأهل بيته يوصون الناس بالتمسك بهذا الثقل الأعظم ... وكانت سيرة أهل البيت شاهدة على تعلقهم به أي تعلق ... هذا زين العابدين (ع)يقول في مضمون حديثه لومات من في الأرض جميعا وكان معي القرآن لما استوحشت ... بالطبع فللقرآن إشعاعات وإشراقات ونفحات تطل على النفس فيشرق سموها...
ولا يخفى علينا ما للقرآن من بعد أدبي وأثر على النتاجات الأدبية سيما على الأدباء الإسلاميين ...وهاهو الأدب الحسيني يضخ في شرايين عاشقيه أسمى صور تجليات الروح القرآنية متمثلة في أبياته الداعية الناعية الراثية ...


الحركة القرآنية
من خلال تجوالي في أفنية القصائد الحسينية والبحث في أروقتها وجدت كثيرا من الشواهد الثمينة .. ولعله لو كان بيدي عدد أكبر لكان يمكنني التحصل على المزيد ...وجدت الشعراء الحسينيين غير مغفلين للجانب القرآني ...فهم يرونه صفا إلى صف الحركة الحسينية ...تأمل في قول الشاعر عيسى العصفور:
ختمتُ أجزاءاً من القرآنِ لكن
سأختمُ الباقي بأرض الغاضرية
لعمري هو يرى المقاتلين في كربلاء إلى صف الحسين متعلقين بالختمات القرآنية كماهم متعلقين بالشهادة ...وكأنني به يصور مصارعهم ختماً لباقي الأجزاء القرآنية ...فالشهادة إتمام للرسالة القرآنية ... ولك أن تحلق في فهم النص كما تريد ...
وأحسب أن الشعراء يتنافسون في هذه الإضافات وتختلف القدرة الأدبية من شاعر لآخر... هاهو الشاعر الآخر يقول :
وجه حبيبٍ فوق ترابٍ
يقرأ بالأحزان السُورة
قدرة الشاعر استطاعت أن تدمج القراءة بالأحزان بالمصرع ... فهذا حبيب المتمسك بتلاوة القرآن لا يُجلسه الموت والتقلب على الرمال عن أن يتلو سور القرآن ..وكأن الموت في سبيل الله تلاوة قرآنية في حركة عملية تصاحبها الدماء والأحزان ..


أما الشاعر حسين حبيب فيرصد الأثر النفسي للقرآن في قارئيه وتجليات الهدوء والاستقرار المنبعثة من التلاوة القرآنية فيقول في خطاب بلسان الحال من الحسين (ع) إلى إبنته :
رتلي القرآن كي لا تجزعي في النائبات


ومع السير في إيقاع هذا الوزن السابق نلمس مدى دفقات الاستقرار النفسي المنبعثة من ترتيلنا للبيت وندرك مدى قوله تعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب ...فتلاوة القرآن هي أعلى ذكر ...ونستشف من النص حض على مداومة التلاوة القرآنية كما نلمس عمق الترابط بين الشخصيات الكربلائية والقرآن الكريم ...الشخصيات التي لم يتمكن الجزع من التسلل إليها في أقسى المواقف فهي متسلحة بالقرآن ..


المضامين القرآنية
أما أمثلة الأخلاق القرآنية في القصيدة الحسينية فهي لاتعد ولا يمكن إحصاؤها ...والفيض القرآني متمكن من الشعراء الحسينيين ...ولا يجنح بك استغراب إذا سمعت الشاعر حسين الجني يؤكد على البرويقول :
ماسمعت (الأفَ) ولامنك شفت قسوة
هذا المضمون ينبيك عن شاعر تسلح بالثقافة القرآنية منطلقا من قوله تعالى :ولا تقل لهما أفٍ ... وهي بلا ريب ثقافة تتمكن من النفوس لتضعها على مشهد من مشاهد البرالكربلائي وعلى ما يجب على الشاب أن يقتدي به...


ولثقافة الطاعة للقيادة العليا شواهد مستقاة من القرآن... فعندما يخبر إبراهيم (ع) إبنه إسماعيل بأمر ذبحه ويمتثل إسماعيل طائعا للأمر الإلهي ..وقال لأبيه.. افعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين... ترتسم أمامك صورة الطاعة المثالية ...طاعة الأب لربه وطاعة الإبن لأبيه والصبر المصاحب للبلاء ...من هذا المشهد القرآني يستوحي الشاعر الدكتور إسحاق المعاميري معطيات نصه :
وأنا منك إليــــك اليوم خذني
يا أبي واصنع بنا ما أنت تؤمر
فهذا خطاب الإبن يؤكد أنه من الأب بالأصالة وهو إليه بكل ما يملك من وجوده وهو خاضع لأمر أبيه ولما يؤمر وهو رهن إشارته ... هذه الصورة تجسيد للموقف الإسماعيلي تجاه الأمر الإبراهيمي ... نلاحظ هنا أن الشعراء في بعض النصوص لا يتمكنون من إدراج النص بتمامه ... إلا أنهم يستطيعون الإشارة إليه بما أوتوا من قدرة أدبية وملكات شاعرية ... وكلما أوغلنا في قراءة القصيدة الحسينية تتحفنا بالمزيد من عناصر الأمثلة ...الشاعر حسين حبيب يتوجه بثقة استلهمها من القرآن ليقول :
ليس لكل امرئ إلاكما قد سعى
في هذا النص وإن كان الشاعر قد وفق في إدراك مايريد من معنى إلا أنه حاول التقرب من النص القرآني ولم يتمكن لما للوزن من هيمنة على النص ... ولا ريب أن التقرب من النص القرآني بما يشابهه يخلق وهما لدى الكثيرين فكانت الإشارة أو تضمين النص القرآني تاماً أفضل من المقاربة الناقصة....
وإذا علمنا أن النص القرآني يقول (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) نعلم مدى قرب النص من الآية الكريمة وما يصنعه من إرباك التشابه ...


وهكذا تتوالى النصوص الحسينية في إبراز ارتباطها بالقرآن الكريم ومفاهيمه ... ويتنوع التوظيف بحسب الموقع ...الشاعر عندما يحاول إنزال الرعب في نفوس الخصم السفياني يستخدم فحوى النص القرآني القائل (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها) وهي صورة في غاية الرعب يستخدمها الشاعر يوسف يعقوب المعاميري :
يصير أولهــــا تاليها
وسافلها اعلى عاليها
فتراه يبرع في خلخلة نفوس خصومه بتصوير الخلخلة المتمكنة من جيشه في زلزلة ثوابت جيشه وقلب الأول للآخر والسافل للعالي كما صنع الله بالقوم الظالمين ...
النصوص القرآنية
أما في المرحلة العليا من التوظيف القرآني فتجد الشاعر متمكنا من ترصيع نصه بآية قرآنية تضفي على المعنى قدرة في بعده ونفاذا إلى النفوس ... الشاعر منصور مرهون يعكس الصورة القرآنية بصفاء ملامحها على الفتية الكربلائية فيقول:
(كرامٌ بررة) بوجه الكفرة
شبابُ الطف لا تهاب المجزرة
ولا أتم من هذه الصفات تتبرعم في رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ...بينما الشاعر فيصل النوري فإنه يرمي فعال الجيش الأموي بخطاب إلهي يقرع سلوكهم اللاإنساني ويبكت قلوبهم المتحجرة في قتل الطفولة البريئة :
لبتك أيتامُ الهدى (بأي ذنبٍ قُتلت)
وقد يحسب البعض أن تضمين الآيات في النص الموزون أمر سهل وطيّع ... إنها مهمة شاقة وتتطلب عناءاً وجدّاً من الشاعر كي يجري معادلة حساب الوزن والمعنى والتوظيف الصحيح ...سيما وأن الشاعر عليه أن يدرجها بين مجموعة من الأبيات ... البعض يتمكن من جعلها في القافية بينما آخرون يكون نصيب الآية في وسط البيت الشعري أو في مطلعه كالشاعر علي غريب وتضمينه هذه الآية الكريمة في قوله :
(بسم الله مجراها ومرساها) تجلت فينا
وهي دعوى قرآنية لجعل الابتداء متشرفا بسم الله في كل شيء من الأمور ...أما الشاعر السيد ناصر العلوي فإنه يوقع النص القرآني على الكَذَبَة الظَلَمَة أشدما يكون الإيقاع فيجعل الآية في عجز البيت حاكمة خاتمة ليقول :
إنهم يكذبون (ساء مايحكمون)
أما استخدام النصوص القرآنية في القصيدة الشعبية فذلك أصعب من تضمينه في القصيدة الفصيحة وهذا الأمر بحاجة لعناية ورعاية وتمعن في الاستخدام وإليك أن تتمعن في ماقاله الشاعر فياض العالي :
متى ايجينا ونسمع دقة الواثق
يدق ثاره (وما أدراك ما الطارق)
ففي هذا النص ترى الشاعر يقابل بين معنيين متجانسين (يدق) و (الطارق) فمن يدق هو نفسه من يطرق والمعنى المؤدي إلى طريق واحد بألفاظ مختلفة لكنه فضل أن يستخدم مفردة (يدق) لتكون دلالتها أقرب إلى النَفَس الشعبي على أن يختم البيت بالآية الكريمة ليقرّب المعنيين وإن كان مفهوم الآية في التفسيريتجه لطريق آخر إلا أن الشاعر تمكن من توظيفها توظيفا سلسا مقبولا يصل الذهن بسهولة ....


ختاما ليس ما ذكرته هوحصر لهذا الفن في القصيدة الحسينية إنما هو بعض من كثير لا يمكن حصره ...وإن النهج القرآني له بالغ الأثر في رقي القصيدة الحسينية وتتويجها بالإلهامات والإفاضات ...وأسأل الله أن يبلغنا للبحث في مفاهيم ومضامين أخرى مشتركة بين القرآن الكريم والقصيدة الموكبية...




عبدالشهيد الثور -23 أغسطس 2017م

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع