شارك هذا الموضوع

القِيَم العُليا في المَوكِب

لم تعُد القصائد الموكبية مُخصّصةً لأغراض الرثاء والنعي والمدح في السنوات الأخيرة ... فبقليل من تسليط الضوء تجد هُناكَ سيلاً غامراً مِنَ النصوص المُتنوعة ذات الأغراض الجميلة الجليلة ... هُناكَ في تلك القصائد نماذج رائعة في تمرير الأغراض السامية وترسيخ الرسالة المُتوخاة من النص الموكبي ... الموكب ليس للنعي فقط وإنما للتأكيد على رسالة الإمام الحسين (ع) وإبراز قِيَمهِ السامية من خِلال إظهار جميل مواقفه والإشارة إلى سمو مبادئه وأهدافه ...
في هذه المقالة المُقتضبة حاولت قراءة مجموعة من القصائد الموكبية مُتصيداً ما فيها من القِيم العُليا الكربلائية ... واستطعت أن أتحصّل على مجموعة من الشواهد الدالة على القيم السامية المخبوءة بين الأبيات في القصيدة الموكبية .



1-القِيم السامية:
في قصيدة للشاعر يوسف يعقوب وهو يُمعن في تشكيل صفات المُوالي لأهل البيت (ع) السائر على خُطى الإمام الحسين (ع) تجده يضع يده على السمة الأولى في تقوية وتأصيل هذا الولاء وجعله متماسكاً راسخاً فتقرأه يقول :
شَحذَ المِنبرُ همَّتهُ بحديثٍ ورثاء
هذا السُمو المنبري جعله شاحذاً ومُغذياً للنفوس المُوالية ومبرزاً لِهِمَمِهَا العالية لمعالي الأمور من خلال كفتين في أدائه ... كفة الحديث تُغذي الجانب العقلي وكفة الرثاء تُغذي العاطفة فتكتمل قواعد الهمة من خلال توفر قوة العقل والعاطفة والدفع والتأييد للدور الكربلائي ...


بينما نجدُ الشاعر علي غريب يضعُ اصبعه على سبب من أسباب خلود الثورة الحسينية ... فهي راية خفَّاقة في كل الأصقاع مُلعلعة بمبادئها التي خرج الحسين من أجلها فاسمعه يقول :
حسينُ رايةٌ رفّت معاليها


وظلَّت تملأُ الدنيا معانيها
هذه المبادئ الإصلاحية هي التي بقت وتخلَّدت وكانت راية تخفق على الدنيا بعُلُوِ قِيَمِها ونُبلها الحسيني ... معاني النُبل والشرف والصدق والنزاهة والكرامة واليقين بما عند الله من نعيم في السير على أوامره ... بينما ينتقل الشاعر نفسه (علي غريب) في قصيدة أخرى إلى مرحلة أوسع من خلود المعاني والقيم الحسينية فها هو يقول وهذه المرة في قصيدة باللهجة الدارجة:
حسين بعاشرك خذ قلبي ويّاك
في انسانيتك شكل صفاتي
منها ينطلق ليبرز النفس الصادق للحب الحسيني في جعله النفس مطواعة بيد المبادئ الحسينية لتشكلها كما يشكل الحدّاد المعدن كيفما يُريد ... إنما هنا يشكلها عاشر محرّم بما جاء به من نهج إنساني يجعل الصفات مُقولبة في إطار إنساني راقٍ بما في المدرسة الكربلائية من قيم إنسانية عالية المفهوم ...


2- القِيمُ الرُوحية:
أمّا القِيَم الروحية فلها أبعاد متعددة في القصيدة الموكبية ... فمعالجة وصقل الروح بالتفاعل مع عاشوراء مهمة بارزة واضحة لذا ترانا نسمع صوت الرادود يتلو نصاً من قريحة الشاعر السيد ناصر العلوي:
ونلطمُ لطمةَ الوعي ونفتجعُ


ونبكي واحسيناهُ الذي ظلماً
فلم يكن اللطم في يوم من الأيام طقساً فارغاً وتأديةُ ممارسة تقليدية ... إنما هو حركة واعية لها بُعدها ومدلولاتها ... اللطمُ الواعي المصحوب بالإفتجاع هو الجامع بين الحس والإحساس وهو المؤدي بالشعور بحجم المظلومية الحسينية التي تقود إلى النُضوج والوعي وذلك من خلال ظاهرة اللطم البسيطة في النظر إليها بالنظرة الأولى ...


وتتعدد مفاهيم القيم الروحية لدى شعراء الموكب وفي جنبات مختلفة تجدها في نص آخر للشاعر حسين المادح نلمس فيه تأكيداً على جهاد النفس وربطه ربطاً وثيقاً بكربلاء فهو يقول:
فجِهادُ النفسِ أصْلٌ كربلائي
ومن الطبيعي أن يكون جهاد النفس قيمة روحية تنبعث إشارات كثيرة لترسيخها من تراث كربلاء ... هناك من قاوموا المُغريات والمُشتَهَيات الدنيوية لينتصرواعلى وسوسات النفس وينضمّوا إلى الجيش الحسيني لمُحاربة ومُجاهدة الجيش الأموي بعد الفراغ من جهاد النفس ...


بينما شاعرٌ آخر يستلهم من موقف العبّاس وإيثاره مدرسة يتعلم فيها المنخرطون في المواكب ... هذا هو الشاعر علي فضل يقول في قصيدة باللهجة الشعبية:
وتعلّمنا من اچفوفك


چفوفك مدرسة يا بو المكرُمات
بِرُؤيةٍ بعيدةٍ جداً يرى في تلك الكفوف المقطوعة إيثاراً لإيصال الماء إلى خيمات أبي عبدالله (ع) مدرسة ينتمي لإيثارها العظيم كل اللاطمين حيث يستقون منها فيضاً من نهر الكرامات العبّاسية متمثلين وفاءه وخلقه العظيم ... وفي مشهدٍ آخر يؤكد الشاعر علي فضل على أنَّ عاشوراء مدرسة على المُحبين أن يتعلموا منها الدروس المنقطعة النظير ومن كل مواقفها على الإطلاق فاسمعه يقول :
خُذ مِنَ القاسمِ درساً في الإرادة
وتعلَّم كيفَ عُشَّاقُ الشهادة
حقاً إنَّ الإنطلاق إلى ساحة الشهادة تحتاجُ لِمِراسٍ على ملكة الإرادة ولتوفيق للوصول إلى تلك المرتبة ... فعلى عشاق الحسين (ع) أن يبحثوا عن هذه الدروس في أيامه الغرَّاء المُباركة ... عليهم أن يأخذوا من موقف القاسم الفتى اليافع درساً يتعلم منه الكبار كيف يكون السالكين في ركاب عشَّاق الشهادة ... متأملين إصراره على اللحوق بركب الشهادة متسلحاً بإرادةٍ فولاذية ...


3-القِيمُ التربوية:
لَرُبَمايعتبر البعض عاشوراء قصة مُعَسْكَرَين تقاتلا وانتهت القصة ... كلا إنها ملحمة قِيَم طاهرة متعددة تواجه قِيماً مُدنَّسة متعددة فعندما تقرأ نصاً للشاعر سعيد زين يقول فيه:
أنا روَّيتُكم بالأمسِ ماءً


وأنتم تقطعونَ الماءَ عني
هذا البيت في إشارة للتفاوت الأخلاقي بين المُعَسكَرَين وليس هو استجداء للماء كما يفهمه البعض ... إنه يرسم خارطة السُمو الأخلاقي لدى الحسين (ع) بهذه النفس الإنسانية الحانية وبنفس الوقت يقدم صورة للتدنّي الأخلاقي لدى معسكر الخصم ... وتبقى في الواقعة لَفَتات دقيقة لا تفوت أي مُدقق فيها ليجد الحسين (ع) مُربّياً إنسانياً ترفَّعَ بسموّه عن دناءة خصمه ...


ولا يحسبنَّ متأمل أن تدفق القِيم الكربلائية ينتهي من أحداثها ومن مدرسة أيامها ... ففي نصوص المواكب الكثير الكثير من القِيَم التربوية السماوية ... شاعر آخر هو السيد أحمد العلوي يقول:
إذا أصلحتَ ذاتَ البينِ حُبّاً
خيارُ الصلحِ من طبعِ الكريمِ
قيمة تربوية أخرى هي إصلاح ذات البين ... ويمكنني أن أستخلص من هذا البيت دعوة للإنطلاق الذاتي للصُلح بين المتخاصمين أنفسهم ...وتلمس في النص دعوة لإشاعة الحب كركيزة للصلح وكونه من أجْلى مظاهر الطبع الكريم ... أمّا الشاعر عبدالمنعم مرزوق فإنه يُشير إلى الوفاء ويجعله مبدأ معجوناً مع الذات ومن مكونات الروح فيقول:
والْيواعد يوفي لو


مگطوعة ذرعانه
وهو في هذا النص يُشير إلى وفاء أبي الفضل العبّاس (ع) كذلك يُشير إلى تغلُب الملكات الروحية على المقدرة الجسدية فأبو الفضل بوفائه وعدم تهنؤه بشرب الماء مع مقدرته ضرب مثلاً رائعاً في الوفاء حتى وإن قُطعت ذراعاه سيَّما وأنه قطع وعداً ولا يُحب أن يُخلفه وإن حالت دونه الظروف ... وللشاعر حسين حبيب رؤية أخلاقية أخرى في جانب آخريضعنا عليها فهو يؤكد:
الله أوصى بطاعة الأم ورضاها
لا شكَّ أن طاعة ورضا الأم من المهمات الجليلة وتوخيها من الملكات الروحية السامية ... هي من مطالب المدرسة الكربلائية وهي من القِيم الأولى في صناعة جيل كربلائي يتحلى بالرضوان الإلهي والتمسُك بأوامره بالسلوك في إرضاء وطاعة الأم ...


وفي أعلى هرم المعاني الروحية السامية نجدُ التوبة موضوعاً يستأثر برقعة واسعة من نصوص الموكب ... الشاعر علي غريب ينطلق من المعصية ليصل إلى التوبة من خلال طريق محرم المربي:
حتّى الّلي عنده معصية


بمحرّمك له تربية
وايحثّه يتوب


باستذكار موقف الحُر الرياحي يستذكر الإنسان معاصيه وأخطاءه ... وبالسير في أحداث ووقائع عاشوراء وبالضغط على النزعات الشيطانية وتهذيب الذات في محرم الحسين (ع) وبتربية النفس في مجالسه ومواكبه يجد المؤمن نفسه سائراً إلى درب التوبة مقتدياً بالحُر الرياحي حين جاء يطلب التوبة ... فكان الإمام الحسين (ع) يشرع له باب البدء من جديد قائلاً:((إن تُبت تابَ اللهُ عليك)) ...


4- القِيمُ العملية:
ومن الدروس العملية المستوحاة من كربلاء البِرُّ العملي وخفْضُ جناح الذُل للوالدين ... فَبِرُّ الأكبر بوالديه كان نموذجاً يُحتذى ... الشاعر حسين الجني قال:
ياأبني لينا بكل مذلة تخفض جناحك
الكلمات الواردة عن لسان حال الإمام الحسين (ع) محتفياً بابنه في بِرّه غاية البِرّ والطاعة التامة لهُما وهو المثال الحي للشباب الكربلائي الحسيني ... أمّا الشاعر حسين المادح فإنا نسمعه في نصٍ فصيح آخر يستلهم من مواقف الحسين (ع) يوم عاشوراء التزاماً جاداً في المُحافظةِ على الصلاة عمود الدين ...
فالتزامي بالحسين في حياتي


يتجلّى في التزامي بالصلاةِ
خُلاصة معنى البيت تقول أنَّ الإلتزام الحقيقي بالحسين (ع) لا يتحقق إلا بالإلتزام الصادق بالصلاة في الحياة ... فالحسين (ع) صورة حية ومثالٌ واقعي للحفاظ على الصلاة التي لم تشغله عنها السيوف والرماح الموجهة لصدره ... وحريٌ باللاطمين على الحسين (ع) السير على خطاه ونهجه السلوكي ...
ومن الصلاة الواجبة إلى صلاة الليل يُعبّر الشاعر حسين الجني حين يُصور مشهداً تحكيه الأم ليلى عن ابنها وهي تتصوره يفرش لها سجّادة الصلاة لتؤدي صلاة الليل ...
أنتظر تفرش مُصلّاتي بصلاة الليل
فالأمُّ التي عوّدت ابنها على تهيئة مُصلاها لصلاة الليل ستطبع حُب صلاة الليل في نفسه لتكون ديدناً في سلوكه العملي ... وهذه قيمة سلوكية أجاد الشاعر في الإلفتات إليها وهي تحث على التعلق بهذه النافلة المؤكدة المربية ... كذلك هذه قيمة عُليا استطاع شعراء الموكب إدراجها في نصوصهم لتكون منهجاً للوافدين في رحاب الحسين (ع) ...


وهكذا بالبحث في النصوص الموكبية والبحث عن مواقع القِيم نجد فيضاً زاخراً يصعُب الإلمام به وإنما يمكننا التنبيه إلى شيئ مما يمكننا ...
وفي دروب الحياة الأُسرية أيضاً تدخل النصوص الموكبية لتعالج بعضاً مما يطرأ على الأسرة من أمراض وخلل ... الشاعر فيصل النوري يُحاول هذه المحاولة حين يروي عن لسان حال المعصوم فيقول:
لا ليس يُرضيني الذي


عن أهله في انشغال
التأكيد على هذا الجانب يُعزز دور أهل البيت (ع) في التهذيب والتأديب والتوجيه ... وإدراج هذه التوجيهات في المواكب يصنع حساً مُتيقظاً للمسؤولية ويجعل المواكب في عمق مسؤوليتها ودورها ... فالأسرة لَبِنة أساسية يُعنى بها الإسلام ... ولا يرضيه الإنشغال عنها حتى بالمُهمات الهامة ... وهكذا تتوالى الدعوات إلى الخصال الحسنة والخطوات الإصلاحية في المجتمع ... يقول الشاعر سعيد زين:
إنَّ الحسين جامعٌ للناس طُراً


لذاك فالحسين شعار الوحدوية
فعلاً فالذين عرفوا الحسين (ع) سعوا لجمع الناس ولتوحيدهم ... فكل من يعرفه يسعى بهذا الشعار وأمّا الذين يُنابذون هذا الشعار فهم في مسلك آخر مهما كانت مُبرراتهم ... فإذا أرد الإنسان طريق الحسين (ع) فهو الحُب والجمع والوحدة والترابُط ...
ولا يخفى أنّ المُنكرات كثيراً ما تستشري في جسد المجتمع ولا بدَّ من صوت صادع لرفضها وإنكارها كما صدع بهذا علي الأكبر (ع) في وجوه الأمويين ...
فكُن أكبرياً رافضاً كلَّ مُنكر
هكذا يتمنى الشاعر السيد ناصر العلوي أن يكون المُحب للحسين (ع) وأن يتمثل دور الأكبر الشبابي في إنكار المُنكر ... وإن ترديد هذه القِيم على الآذان المُصغية يُحدث ثأثيراً وتفاعُلاً لا ريب ... وهاك اسمع الشاعر عيسى العصفور يقول:
لا تشُقّي جيباً على قتلي واذكريني


فلا تشُقّي الجيبَ يا أخت ولا لا تجزعي
أراني وأرى الشاعر يشغله القائلون بشق الجيب فيكرر عبارته(لا تشقي ) مؤكدا ما يرمي له من قيمة أخلاقية....هذا هو الحسين (ع) وهذه هي أخته في حقيقة واقعها ... هو أوصاها بالتزام الصبر والإبتعاد عن الجزع وعمّا يُقلل من شأنها ... وهي نعم من التزم فلم تشق جيباً ولم تخمش وجهاً ولم تنشر شعراً ... وإنما القائلون بهذا يتحدثون بعاطفة هشة ولعمري هم أرادوا أن يعظموا أمراً جليلاً فصغَّرُوا شأنَ سيدةٍ جليلةٍ ما أبرزت من دلائل الضعف حركة ...





عبدالشهيد الثور -13أغسطس 2017م

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع