أكمل سماحة الشيخ إبراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية ، وذلك لليلة الرابعة من شهر رمضان المبارك لعام 1438 هـ ، وتحت عنوان " شروط الصلاة الخاشعة " ، إبتدأ سماحته بالآية المباركة " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ " القرآن الكريم و في الكثير من آياته تحدث حول الإنسان ومكانته ، و أبان فلسفة وجوده في الحياة كما تعرّض القرآن الكريم الى كثير من الأحوال العارضات على الإنسان ، الإنسان له أحوال عارضة منقلبة من ظرف لظرف ومن زمان لزمان ، و لهذا الإنسان أحوال نفسانية تتقلب باختلاف ظروفه ، الظروف و الأحوال الخارجية ( الغناء و الفقر ) حالة عارضة على الإنسان ، قد يكون الإنسان في زمانٍ غني وقد تعرضه حالة من الفقر في زمان آخر ، هذا حال وليست صفة لازمة لا تتغير ، على مستوى البعد النفسي يوجد للإنسان حالات ، تارةً يكون قلبه قاسٍ و تارةً يكون في غاية اللين و الرقة و الشفقة ، قد يكون جريئًا في موقفٍ و قد يكون جبانًا في موقفٍ آخر ، ما ينبغي الوقوف عليه و انطلاقًا من الآية المتقدّمة ، عنصر العروج الى الله ألا وهو الخشوع ، قد يكون المؤمن في زمن خاشعًا ، و قد يكون بعيدًا كلّ البُعدِ عن الخشوع ، محلّ بحثنا يدور حول كيف نحقق الخشوع في الصلاة ؟ ، ما أكثر من يصلي ولكنّه لا يتذوّق طعمَ العبادة وملذّة المناجاة ، أين الخلل في عدم الخشوع ، في الصلاة أم فينا ؟
أذا أردنا أن نُحقق قاعدة العروج ، الصلاة معراج المؤمن ، هذه الصلاة تعرج اذا حصلت على القوة والدافعة وهو الخشوع ، لا يكاد أثرُ حضورِ العبد يتجاوز المكان ، اذا ما تسلّلت طاقةُ الخشوع الى مفاصل بدنه والى جنبات قلبه وروحه وفكره وانعكست على جسده ، تجد لها مكانًا روحيًا ، ما هو الخشوع ؟ الخشوع هي حالة نفسانية تنعكس اثارها على البعد الجسماني ، منشأها قلبي و أثرها جسماني ، اذا خشع قلب المؤمن خشعت جوارحه ، الخشوع على صاحب لسان العرب أي رمى ببصره نحو الأرض و غضّه وخفض صوته وطأطأ صدره وتواضع ، من سورة الفرقان " وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا " ، وهو مؤشر للخشوع ، أما الخشوع الحقيقي هو استحضار العبد في قلبه حالة الخضوع و الذلّة والإنكسار و الإستكانة لله ، متى ما تحصّلت هذه المعاني كلها في القلب فإنه يفجر طاقة للجوارح ، لأن القلب إمام الجوارح ، الخشوع ليست حالة خارجية ، بل منبعها هو القلب ، والقلب يومٌ مقبل و يومٌ مُدبر ، " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " .
الخشوع مطلوب في عامة الأمور وقد عاتب الله في سورة الحديد " أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ " كيف نحقق الخشوع في الصلاة ؟ ، نحتاج لثلاثة أمور ، الأمر الأول اعرف حقيقة الصلاة فمتى ما عرفت حقيقتها و قيمتها ستجد نفسك مندفعة ، ستجد نفسك تعطي للصلاة قيمة و أهمية أكثر من غيرها ، الصلاة ليست ركوعًا وسجودًا وتشهدًا وتسليمًا ، هذه هي الصورة الفقهية ، لكن لها حقيقة باطنة أبعد من ركوعك و تشهدك وتسليمك ، عندما ينطلق الإنسان ويندمج و ينصهر مع الأفعال الخارجية ، هذا من ضمن الآداب و السنن والشرائط التي تنعكس على الصلاة ، يجب أن نعرف حقيقة الصلاة كي تندفع القلوب ، الصلاة أفضل و أهم عبادة بعد معرفة الله سبحانه وتعالى ، وهي وديعته عند الأنبياء وهي أمانة عند الخلائق .
الأمر الثاني أن الصلاة لها صورة ملكوتية وراء ركوعها وسجودها ، لا تدرك بسمع و لا بحس ، ولكنها تدرك بالعقول وبأقوال المعصومين ، نقف جميعًا للصلاة ، ولكن مسكين هذا الإنسان لا يدري ما يُراد به ، وما يحيطُ به ، لو علم ما يحيط به من آثارٍ ملكوتية لما انفلت من صلاته ، كثير منا يصلي وعينه على السلام ليأدي واجبًا فقط و على عاتقه ثقلٌ ليرميه ويتخلّص منه ، هذا الشعور سلبيٌّ جدًا ، الصلاة ميعاد بين العبد و ربه ، يجب أن يقبل عليها بروح عالية ، ولابدّ ان نتعرّف على صوارف العبادة من أجل تحقيق البُعد الوقائي ، مطلوبٌ منّا صلاة خاشعة ، تحتاج أن تتعرف الى صوارف الخشوع ، لماذا تزول حالة الخشوع من نفسنا ؟ وكيف لنا أن نتخلّص منها ؟ الصارف الأول هو الصوارف الفقهية التي ذكرها علماؤنا في الرسالة العملية وقالوا بكراهية وجودها في الصلاة وهو صارف عن حضورِ القلب ، منها مدافعة الخبثين ، ( الريح و البول ) أي طوال صلاته يُفكّر في الحفاظ على وضوئه لا ينتقض وعلى جهازه الهظمي ، أيَضا من الصوراف الصلاة في المواضع المزخرفة ، ولذلك يُكره أن تُزخرفُ المساجد بوجود الزخرفة و الصور ، نحتاج لحالةٍ بعيدةٍ عن كلّ بهرجة الحياة لتكون مع الله ، تُكره الصلاة وبين يديك مرآةً أو جسمًا يعكس ، تُكره الصلاة وبين يديك من يقابلك وجهًا لوجه أو النائم أمامك كصلاة الميت ، من المكروه أن تستقبل بابًا مفتوحًا ، الإنسان المؤمن يجب أن يلتفت الى باب المكروهات و هي في الواقع صوارف لتكون قادرًا على تحقيق الخشوع .
الصوارف النفسانية ، ليس كل شيء من الشيطان ، فالإنسان له وسوسة أي حديث النفس ، لابد للإنسان أن يركّز في الصلاة ومعانيها ، و مع من تناجي ، وصلّ بالخشوع و كُن في الصلاة كالمودّع . يجب أن نقطع أحاديث النفس وهذه يحتاج الى سيطرة ، الخيالات النفسانية ، الخيالات هي صور مُنطبعة في صور الإنسان المدركة بالحواس ، و تمتلأ أذهاننا بالصور ، و ذهن الإنسان عادةً ما يبني على آخر مدركه ، لتتجاهل شواغل الحياة فمتى ما دخل وقت الصلاة اترك ما بين يديك ، من مقدمات الصلاة ان تهيا نفسك لها ، الإمام الخميني خالف العلماء في قوى الخيالات وقال حالها تلك القوى حال بقايا القوى ان دربتها أطاعتك ، الصارف الثالث هو الشيطان و الإنسان لا ولاية له على الشيطان ، فلا ولاية لأحد على أحد الا ولاية الله على عباده ، نعم أعطي النبي و الوصي و الأب ولايةً على حدود - أي بالحكم الثانوي - ، إنّما دور الشيطان تزيين و اشعال النار وقدحها والقاء الفكر ، أما الاستمرار في التفكير بها هو من شغلنا نحن ، بوسعنا أن نُزيلها من عالم الفكر و بوسعنا الانسياق لها .
يجب أن نعرف ثمرات الصلاة ، الصلاة تشكّل لك حاجبًا مانعًا ، يعبّر عنه بجهاز المناعة الروحي ، من سورة العنكبوت " اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ " . أي تجعل نفسك تنفر عند المعصية ، الصلاة الخاشعة تعطي قوة للجهاز المناعي ، فلا يفكر الانسان في المنكرات و المعاصي اذا كانت صلاته صلاة خاشعة ، الصلاة معيار الفرق بين المؤمن و الكافر ، وهي ميزان بين الإيمان بالمعنى الأخص وبين غيره ، عن الصادق ( عليه السلام ) " امتحنوا شيعتنا عند مواقيت الصلوات كيف محافظتهم عليها " ، و الحديث الآخر " لا تنال شفاعتنا مستخفٌ بصلاته "
التعليقات (0)