شارك هذا الموضوع

الصفا ليلة الرابع عشر من شهر رمضان عام 1437هـ

واصل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا مجالسه و ذلك لليلة الرابعة عشر من شهر رمضان المبارك لعام 1437 هـ ، و تحت عنوان " اغتيال العقل " ، إبتدأ سماحته بآية من سورة البقرة " ذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " ، القرآن الكريم كان ولا زال من خلال أحكامه يأمر بضرورة التعقّل في الأمور ، آيات كثيرة تؤكد على مسألة اعمال الحجة الباطنية ، النبي ( ص ) طالما أكد في نصوصه على أن لله تعالى حجتين ، حجة ظاهرة واضحة ، وهم الأنبياء و الأوصياء و حجة باطنة و هو العقل ، لو نتتبع الآيات التي تأمر بضرورة اعمال العقل نجد أنّ النصوص القرآنية تضجّ بتلك الآيات ، من سورة آل عمران " ن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " هذه آيات يتعقلون من خلالها فيصلون الى الله ، الآية 24 من سورة محمّد " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " ، التدبر من وظائف العقل ، وتارة أخرى يعبر القرآن عن التعقّل و التدبر بالنظر ، من سورة العنكبوت " قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير " و المقصود بالنظر ليس النظر الحسّي بل النظر العقلي ، أي بمعنى التدبر و التعقّل و التأمّل ، العقل هو حجة الله عز وجل على الإنسان .
في الروايات عن النبي محمد ( ص ) ، لما خلق الله العقل ، استنطقه ثم قال له : أقبل فأقبل ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن احب ، أما إني إياك آمر ، وإياك أنهى وإياك اعاقب ، وإياك اثيب " ، نجد من الحديث الشريف أن الله جعل العقل هو مناط التكليف و المسائلة والمؤاخذة ، مطلوبٌ من الإنسان التدبّر و التعقّل لأنه يوصل الخليقة للخالق ، والتدبّر في مخلوقات الله و اعمار الأرض يزيد المعرفة ، من آيات سورة الغاشية " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض كيف سطحت " ، كلها من دلائل اعجاز الله تعالى على الإنسان ، و هناك نوعان من التعقل ، تعقّل سلبي ، و تعقّل إيجابي ، و هو اعمال العقل مع ملاحظة النصوص فهو حسن ، اما التجرّد بعيدًا عن الواقع فهو خطأ ، التعقّل الإيجابي هو الذي يزيدُ الإنسان بصيرة وعلمًا ودينًا وهدايةً في دينه .
مجالات التعقل واسعة ، المجال العقائدي قوامه و روحه العقل ، فعندما يُقسّم فقهائنا الفقه ، يقسمونه الى فقه أكبر و فقه أوسط ، وفقه أصغر كما ذكرنا في محاضرة سابقة ، الفقه الأصغر لا ريب و لا شك أن التقليد فيه جائز ، إما أن تكون مجتهدًا فقيهًا ، واما ان تكون محتاطًا ، أو تكون مقلّدًا للفقهاء ، الفقه الأكبر و هو الأمر العقائدي ، هذه الأصول الإعتقادية فإن مشهور الرأي العقائدي أنه لا يجوز التقليد فيها ، ولابدّ أن تُعمل عقلك فيها وتقيم الدليل فيها ، يجب أن يقيم المؤمن دليله العقائدي بالعقل ، القرآن الكريم هو دستور التشريع المحكم ، عندما نأتي لنفتّش في أبعاده العقائدية فإننا نحتاج لأهمية التعقّل ، و القرآن الكريم أشار الى صفات الله الذاتية ، مثل القدرة والحياة والعلم ، و ذكر الصفات الخبرية ، وهي الآيات القرآنية التي تنقل صفاتُ لله لا يقبلها العقل مثل ، من سورة الفتح " إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ " ، من سورة المائدة " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " ، لا يقبل العقل ان يكون لله يد ، من سورة القصص " كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ، من سورة طه " الرحمن على العرش استوى " ، من سورة الفجر " وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى " ، لا يمكن ازالة هذه الآيات من القرآن ، هنا يأتي التعقل العلمي ، القرآن الكريم قطعيّ الصدور ، ظنيّ الدلالة ، لا توجد آية في القرآن ليست من عند الله ، ولكن دلالة القرآن ليست قطعية بل ظنيّة ، يختلف عليها الفقهاء في فهم مضمونها ، فتلك الآيات القرآنية التي تنقل الصفات الخبرية نأتي بالتأويل فيها وهي في مقام التعبير الكنائي ، وهذا يحتاج الى إعمال العقل ، وأن نُحكّم الرؤية العقلية بإحكام ، وليس كما ذهب اليه المجسّمة .
كل قوم لهم رؤية كونية وفلسفية ، ونحن كمسلمين لنا رؤية فلسفية وكونية للحياة وتحتاج لمنهج علمي ، و للأسف الشديد استعان الغرب على المنهج التجريبي ، وهذا لا يصلح في تكوين رؤية تكوينية ، لأنه لا يمكنهم أن يقيموا التجربة على الله و على الروح ، فالوجود مفهوم عام ، وهناك تفاوت رتبي في الوجود ، مفهوم الوجود يتفاوت رتبةً ، المنهج الحقيقي هو المنهج العقلي الذي من خلاله يمكن وجود الله و الملائكة والأرواح والبرزخ وضرورة وجود الآخرة ، لا ينبغي أن نترك جنبة التعقّل ، ولذلك شدد الله عزّ وجل على التعقل و التدبر ، من المجالات الأخرى في التعقّل ، التعقّل في المسائل الفكرية والعلمية ، هناك الكثير من القضايا العلمية التي يتداولها الناس ولا وجود لها ، و العقل مجردًا لا يصلح أن يُكوّن مرئيةً في الدين ، بعض الأمور الدينية يجب ان نأخذها أخذ التعبّد ، وعلينا التسليم فيها ، تشريعات الله تنطلق من قاعدة المفاسد و المصالح ، و لا علم لنا بها ، علل الأحكام ليست بأيدينا وخارج عن معرفتنا ، ما نعرفه ان كل ما أوجبه الله وراءه مصلحة ، وكل ما حرمه الله وراءه مفسدة شديدة .


التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع