شارك هذا الموضوع

الديهي في الليلة الثامنة عشر من رمضان 1436 هـ

أكمل سماحة الشيخ الدكتور عبدالله الديهي سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس و ذلك لليلة الثامنة عشر من شهر رمضان المبارك لعام 1436 هـ ، حيث بدأ المجلس بآية من سورة الإسراء " وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " الجانب الأول ، دائمًا يتكرر على ألسنتنا وفي القرآن وفي السنة وفي لسان المعصومين والعلماء الحق ، فما هو الحق الذي أقره الله؟ و جعله حيًا في كل زمان ، الجانب الثاني تعريف الباطل وما هو الباطل الذي حكم عليه القرآن الكريم بأنه زهوق ، أي لابدّ أن يزول وينكشف ويفنى . الجانب الثالث ، تلى النبي ( ص ) هذه الآية مشجعًا لعلي ( ع ) حينما حطّم الأصنام وكانت شعارًا تعطي ( ع ) النشاط والقوة في تحطيم الوثنية ، ما هي المعاني التي يمكن أن نستنبطها من هذا الموقف النبوي ، هناك استراتيجية أي الأهداف البعيدة وهناك " تكتيك " أي الحركة والهدف القريب .
الحق يمكن ان يطلق له بكلمة مطلقة و هو الجامع لصفات الكمال المحض ، العدل حق و الرحمة حق و الإنصاف حق والقدرة الإلهية حق ، و العلم الصافي الذي يؤخذ من منابعه الصحيح حق والحكمة حق ، أول ما تطلق كلمة الحق تطلق على الله عزّ وجل ، الله هو الحق المبين ، وكل حق في الدنيا لا يمكن أن ينفصل عن الله ، اذا انفصل حق عن الله لا يكون حقًا ، واذا اطلق الحق على البشرية فالبشرية هم عيال لله ، واذا كانوا عيالًا لله فإنهم يستحقون صفات الحق ، من صغات الحق الرحمة والتسامح ، والقرآن الكريم يشير الى هذه الحقيقة ، من سورة الحجرات " ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " هذه الآية تلاها ( ص ) أيضًا يوم فتح مكة . يصنّف الحق على تصنيفين ، القسم الأول هو الحق الذاتي أو التصنيف الذاتي أي أن صفة الحق لا تعطى الا لله تعالى ، أو من يتصل بالله ، او ما يتصل بالله ، و لهذا حتى الهداية ننسبها لله ؛ لأن الهداية مهما تعددت أنواعها فهي راجعة لله ، وتقسم لأربعة أقسام ، القسم الأول هو الهداية التكوينية ، من سورة طه " قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " الحقٌّ لمّا خلق هذا الوجود جعله كله حق ، و السُكّة التي يسير عليها الوجود هي سكة الحق والعدل ، و السير على قسمين ، سيرٌ موجب ، أو المسار الجبري ، الشمس والقمر والنجوم لهم مسير ، و الليل والنهار لهما مسير ، من سورة يس " والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " ، الإمام الصادق يلتفت للمفضّل بن عمر ، و يقول له " يا مفضل ، انظر للنجوم في مساراتها فهذه تسير مجتمعة وتلك تسير منفردة " كل ذلك بتقدير الله العزيز العليم ، كل الوجود من ذرة ومجرة وما بينهما من انسان وطير ونبات يسير على سكة الحق ، " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " لقد شرّفنا الله بعملية الإختيار و لم يجبرنا ، من سورة البلد " وهديناه النجدين " أي الطريقين ، ومن سورة الشمس " ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها " ، أمّا تلك المخلوقات وحتى الحيوانات من خلال الغرائز والطبائع فهي مجبورة ، فكلّ لابد ان يسير على سكة الحق .
يقول الإمام الرازي أن الفطرة مأخوذة من فطر يفطر ، أي شُقّ من الأعلى ، اشارةً الى الفطرة المركوزة داخل النفس الإنسانية ، الفطرة التي تهدي لله تعالى ، من سورة الأعراف " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ، وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون " ويسمونه علماء الفلسفة انجرار المعلول الى علّته ، أي أن الله يُعرف من خلال مخلوقاته ، والفطرة تهدي للأخلاق والقيم والمبادئ . الحق هو المثل والقيم والمبادئ ، ونحن لا نثبت القيم من خلال الأدلة العلمية والفلسفية بل بالفطرة . القيم والمبادئ فطريةٌ ؛ لأن الله خلق الخلق وفطرهم على ذلك ، وكل ما في الوجود حقٌ ، من هنا نعرف ان الحقّ حيٌّ نابضٌ في حياتنا ، فلا محبة و لا عدل و لا انصاف و لا حقوق من غير حق . أمّا الباطل فهو ما بعد الحق ، من سورة يونس " فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون " الباطل له تسميات عدة ، الشيطان او الضلال أو الفجور او الفساد او الظلم أو الحروب العبثية ، فلا يراد منها اقام الحق و لا ابطال الباطل . الفعلُ تارةً يكون حقًا وتارةً يكونُ باطلًا ، اكل المال مثلًا يمكن أن تطلق عليه حق اذا أكلت من الطيبات ، من سورة البقرة " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون " ، لكن اذا اكلته عن طرق الغش والرشوة يكون باطلًا ، من سورة البقرة " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون " فتحوّل الأكل من حق الى باطل ، نكاح المرأة ، اذا كانت المرأة صالحة ذات أصول صالحة وعفيفة و لديها حياء و ادب وعلم يكون حقًا ، من سورة النساء " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " ، وتارةً يكون حرامًا اذا كان زنى ، من سورة الإسراء " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا " والفعل واحد ، احدهما صار في طريق الحق و الآخر في طريق الباطل .
أحدٌ يعبد صنمًا وآخر يعبد شخصًا و آخر يعبد المصالح ، من سورة الجاثية " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه " ، و من سورة الصافات " قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم " حينها تكون العبادة باطلًا ، وتكون العبادة حقًا حين نعبد الله ، من سورة البينة " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء " فتتحول العبادة الى حق ، الباطل هو كل انواع الفساد والفجور والحرب العبثيات ؛ الباطل لا يمكن معالجته بالعقل و بالأخلاق فقط ، فلم تستطع مدارس الاخلاق والعلم ان تعالج لنا الإنحرافات ، فالعلم ليس قاصرًا ، و لم يؤثر العلم في هؤلاء ، العلم ليس رادعًا بذاته ، ولا القانون يستطيع أن يردع الانحرافات ، فنجد أن أول من يخالف القانون هم من وضعوه ، والبعض يرى أن التقاليد الإجتماعية هي التي تمنع من الإنحراف ، فيستقيم في محيطه و ينحرف في خارجه ، و البعض يقول الضمير ، فلا يمكن أن يقال أن هناك ضمير انساني في بعض الفئات التي تستهدف النساء و الأطفال من دون وجه حق ولا يتأثرون بذلك ، الذي يمكن أن يكون رادعًا عن الجرم هو خوف الله جل وعلى ، لا يمكن للعقل ولا الأخلاق أن تكون بحد ذاتها رادعًا ما لم يتدخل الدين ، الدين هو الرادع الأقوى الذي يمنع من الإنحراف .
النبي ( ص ) أمر الإمام علي ( ع ) أن يُحطّم الأصنام ، وكان النبي يقول " ايه ايه جاء الحق وزهق الباطل .. إن الباطل كان زهوقا " ، من المعاني التي يُمكن أن نستوحيها من تلك الحادثة ، أن قيادة مكة تحوّلت الى قيادة المسلمين بعد ان عاثت فيها قريشٌ فسادًا ، والله أنبأ وأخبر أنها سَتقع في أيدي المسلمين و بشّر النّبي ( ص ) بذلك ، الأمر الثاني ، تحولت هذه المنطقة الى أن تكون قيادة العالم بيدها ، وتثبيت الأمن العالمي يجب ان ينطلق من مكة ، فما كان خلاف ذلك فهو باطل ، وحّد ( ص ) مكة لتكون تلك منطقة أمان لكل البشر وينبعث منها الأمان و لا ترى فواصل بين الأعراق وبين الألوان و اللغات والقوميات . الأمر الثالث ، حين فتح النبي ( ص ) تلك المنطقة كأنه أراد أن يقول أن الإسلام حي نابض الحياة ، وهذا النبض سيمتد الى يوم القيامة وستكون هذه البقعة منطلق الحركة العالمية لصاحب العصر والزمان . الأمر الرابع ، أن هذا الفتح يعتبر فتحًا استراتيجيًا ، واستخدم النبي الهدف القريب والبعيد ، استخدم " التكتيك " وهو الحركة الآنية ولكنها تحقق أهداف بعيدة المدة ، وعلي ( ع ) كانت له اليد العليى في هذا الجانب .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع