شارك هذا الموضوع

الديهي في الليلة السابعة عشر من شهر رمضان 1436هـ

أكمل سماحة الشيخ الدكتور عبدالله الديهي سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس و ذلك لليلة السابعة عشر من شهر رمضان المبارك لعام 1436 هـ ، حيث بدأ المجلس بآية من سورة آل عمران " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ، إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين " ، هذه الليلة تصادف ليلة واقعة بدر ، وهذا يستدعي منّا أن نعيد النظر في ما هو فيها ، هل أن الأصل في الإسلام الحرب والقتال أم السّلْم ، هناك آيات قرآنية تحث على القتال فما هي الشروط التي تشترط فيها القتال ، ومتى يكون القتال ؟ قد تتحول الحرب الى حرب عبثية تهلك الحرث والنسل اذا لم يكن هناك عقل وحكماء في الأمة ، إن ما نشهده في هذه الأيام شيءٌ تدمى له القلوب ، قد حقّق العلماء على أن الأصل هو السلام ، و أن الحرب ما هي إلا ظرفٌ استثنائي . الجانب الثاني هو القرآن الكريم دائمًا ما يربط نبوة الأنبياء بالنصر ، وما يبدو على أن كل الأنبياء منصورين ، فما المقصود من هذه النصرة ؟ هناك قسم من الانبياء قُتل وقسمٌ هُجر ، وهكذا من هم على خط الأنبياء إمّا مسجونون و إمّا مطرودون وامّا مخفيون وإما مقتولون . الجانب الثالث أن واقعة بدر هي الإنطلاقة في الإنتصار لرسول الله ( ص ) ، ولقد نصره الله في مواطن كثيرة ومن جملتها بدر ، فكيف يمكن لنا أن نتحسّس هذا النصر مع قلة العدد والعدة ، ومع قلة الأسلحة ، و ما هي الدروس التي يجب أن نستنبطها من هذه الواقعة كي نستفيد منها في الحياة العملية ، ويستفيد منها أهل الحروب ، فهل أهل الحروب في مواقفهم مع رسول الله ، أم مناهضة له ؟
الجانب الأول ، أن الحرب هي حالة استثنائية وليست حالة اعتيادية ، المبدأ في الإسلام هو السلام ، ومن أسماء الله السلام ، و دار السلام اسم من أسماء الجنّة التي وعد بها المتقون ، و تحية أهل الملائكة لأهل الجنة السلام . من سورة يونس " وتحيتهم فيها سلام " ، ونحن في حياتنا الإجتماعية نسلّم ، من سورة النساء " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا " ، يجب ان يكون السلام هو العملة المتداولة بيننا ، كل شيء قائم على السلام . يجب أن نفتح قلوبنا للناس وأن لا نتحول الى انسان يريد الحرب في أي لحظة ، وليس المقصود بالسلام بالإستسلام ، بالعكس .. الشخص الذي يعامل الناس بالسلام انسانٌ قوي ، و قلبه قوي ، و عواطفه حبٌّ ، و يشعر بالأخوة الإنسانية . من سورة الحجرات " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " . لتتلاقح الحضارات وتنتج زادًا انسانيًا ، الحروب تنتج الكراهية والضغينة والحرام ، والدم يجرّ الى الدم حتى بعد قرون من الزمن . و لنستفيد في ذلك من أئمة السلام ، علي بن أبي طالب يقول " ولاتكن عليهم سبعاً ضارياً تغنم أكلهم فانهم صنفان : إما أخ لك في الدين أونظير لك في الخلق " ، زين العابدين رب العطف والحنان يقول " الإنسان أخو الإنسان أَحَبَّ أم كره " و من سورة البقرة " ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين " ومن سورة الأنفال " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم " . الحرب مهلكة ، فيها تهلك النفوس ويهلك الحرث و نسل و الإقتصاد ، و ينعدم الأمن الغذائي ، و ينعدم الأمن التعليمي و الأمن الصحي ، لم نجد في الإسلام ما يدعو للحرب العبثية ، وإنما فرضت الحرب من أجل الحفظ ، هناك حروب مالية و حروب اعلامية وفكرية واقتصادية ، فهي كلّها حروب عبثية بالشكل الأعم و تُفتت الأمة ، المال والإقتصاد والسياسة وكل شيء يعمل من أجل التفريق وليس من أجل التوحيد وقد سعى الإمام علي الى الإصلاح " لنرد المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ؛ فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطلة من حدودك " و ما نجد اليوم إلا ملايين من المشردين بسبب ابتعاد أصحاب الحروب عن أهل البيت ، ونجد أن النبي في كل الحروب التي قامت ضده كانت حروبًا دفاعية أو وقائية والتي تُدعى استباقية ، و بدر لم تكن ابتدائية وانّما كان أول الخروج من أجل الإستيلاء على القافلة وذلك لأنهم تجبّروا ، وأخذوا أموال المسلمين وبيوتهم و عقاراتهم وكان ذلك من باب الرد بالمثل ، و أراد النّبي أيضًا أن يستبق الأمر كي لا يتقوّوا تجاريًا .
كثيرٌ من الآيات تُشير الى أن الأنبياء منصورون أو غالبون ، لكننا نجد في الواقع الخارجي غير ذلك ، فكثير منهم قُتلوا وشُرّدوا وهُجّروا ، فنبي الله زكريا نُشر بمنشار وقُطّع لنصفين ، و نبيّ الله يحيى قُطع رأسه أمام ملك جبّار ، ونبيّ الله اسماعيل قُشّر جسده تقشيرًا ، و نُتِف شَعرُ رأسه ، وما بقيت الا عِظامُ دماغه . واقع النصر يمكن أن يحمل على عدة أمور ، الأمر الأول هو النصر الظاهري أو المادي ، و يمكن أن يصل نبي الى الحكم كداوود وسليمان ، وقد نال (ص) الحكم أيضًا وانتصر في كثير من الحروب التي شُنّت عليه ، من سورة التوبة " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم " بعض المحققين يقولون أن النبي ( ص) نُصر في ثمانين موضع ، والمقصود به هو النصر المادي العسكري ، الأمر الثاني النصر الذي يأتي آخر الزمان على يد صاحب العصر والزمان الذي يقيم دولة التوحيد ذات الإقتصاد الواحد ، و الثقافة الواحدة ، و الدين الواحد . الأمر الثالث ، ليس من المهم الإنتصار المادي ، بل المهم هو انتصار المبادئ والقضية التي تقوم من أجلها ، و أن تكون القضيةُ قضيةَ حق ، و أهدافها حقٍ ، ووسائلها حق ، والقادة الذين يتزعمون هم قادة حق ، هناك قاعدة فلسفية يقولها العلماء " الحق يعلو ولا يُعلى عليه " والحركة كالإنسان ، أول الحركة هو الحركة الشأنية وبعدها تولد الحركة ، وبعدها تبدو كالطفل الضعيف وبعد مدة تقوى ، ثم تصل الى أوج قوتها ، ثم تتضاعف شيئًا فشيئًا ، الا نهضة الحق ، فقد تراها أحيانًا في الظاهر ضعيفة ولكنها لا تموت أبدًا ، و نهضة النبي ( ص ) ومن ساروا من خلفه لا تصاب بالشيخوخة وتبقى . واقعة بدر فيها انتصارات مادية وانتصارات معنوية و هي أقوى ، القرآن الكريم في الآية التي ابتدأ بها المجلس لم يقصد الذل بالمهانة بل المقصود بها هو القلّة وهي نوع من الذلة والصَّغار ولكنه ليس صغاراً مذمومًا .
الدروس كثيرة ، فقد كانت واقعة بدر بين عهدين ، بين عهد الشرك وبين عهد الإسلام ، بين قيادة الكفر والفرقة وبين قيادة الإيمان والوحدة ، وقد انتصرت قيادة الإيمان والوحدة وانتصر رسول الله وعلي ( ع) والحمزة وعبيدة بين الحارث ، واندحر قادة الشرك أبوسفيان و أبو جهل ، وطعيمة وعتبة وشيبة و سبعون من هؤلاء قُتلوا ، واستشهد من المسلمين ما يعدّ بالأنامل ، الدرس الأول أن الله يريد أن يحثنا على صنع المقدمات ، فلا نصر بلا مقدمات وهي أولًا دراسة الموضوع ، فلا تُقبل على نهضة أو حركة من دون أن تضع لها خارطة طريق ، ثانيًا أن تشارك أهل الفكر وأهل العقل وتشاورهم وتضم آرائهم الى رأيك ، ثالثًا إذا إجتمع أهل الرأي و أهل الفكر وكوّنوا غالبية ، يكون الرأيُ واحدًا بالأغلبية . رابعًا أن يكون هناك قيادة حكيمة تُشخص الآلية وتُشخص اسلوب العمل ، وتُشخص ما تريده الساحة في هذا الوقت ، فمتى ما اكتملت هذه الأمور حين ذلك يثبت الله اقدامهم وينصرهم ، الدرس الثاني استمرار الصراع بين الحق والباطل وهذا الصراع غير محدود كما يظن البعض ، فالحق والباطل موجودان دائمًا . الدرس الثالث أن الله لا يعطي النصر الا لمستحقّ النصر ، ومن تكون عنده قيادة حكيمة و خطة متقنة ومشاعر موحدة وهدف واحد ، و الإختلاف أمرٌ صُحّي ، ولكن لابد أن يكون الإتفاق على رأي صائب . وأن نستلهم الإيمان الذي كانوا يتميّزون به في بدر ، و البذل الذي كانوا يتميزون به من بذل مادي وروحي وطاعة وتسليم للقيادة وثبات ومقاومة ، الدرس الرابع هو انتصار المعنويات على الماديات ، الدرس الأخير ، أن هؤلاء جاهدوا عدوّيْن ، عدوٌّ داخلي وهو النفس ، وعدوٌّ خارجي وهو الأعداء ، وهذا سر الإنتصار ، فيجب نسيان الذات في سبيل القضايا والمصلحة العامّة .


التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع