شارك هذا الموضوع

الصفا : القرآن ومعالم المجتمع المدني لعام 1436 هـ

أكمل سماحة الشيخ إبراهيم الصفا سلسلة محاضراته بحسينية الحاج أحمد بن خميس وذلك للّيلة الثالثة عشر من شهر رمضان المبارك لعام 1436 هـ ، و تحت عنوان " القرآن ومعالم المجتمع المدني " ابتدأ سماحة الشيخ بآية من سورة الحج " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " ، القرآن الكريم ومن خلال آياته الشريفات والسيرة النبوية وما جاء فيها من نصوص عظمية جميعها أشارت الى معالم الدولة الإسلامية الموعودة ، تلك الدولة التي تقوم بفضل الله ورعايته ونصره لأوليائه ، هذه الدولة التي تحقق من خلال التمكين الالهي لأولياء الله ، أو التي يشير اليها سيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان " اَللّـهُمَّ اِنّا نَرْغَبُ اِلَيْكَ في دَوْلَة كَريمَة " ، معالم و مظاهر هذه الدولة " تُعِزُّ بِهَا الإسلام وَاَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وَاَهْلَهُ، وَتَجْعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ اِلى طاعَتِكَ، وَالْقادَةِ اِلى سَبيلِكَ ، وَتَرْزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنْيا وَالاْخِرَة " تلك الدولة الموعودة التي تحقق مجتمعًا اسلاميًا يقوم على قواعد السماء و المجتمع الديني هو الذي تحكمه مبادئ الله في الأرض
قبل أن نتحدّث عن معالم المجتمع الديني ، نبدأ بمقدمة حول معالم المجتمع المدني الذي تطالب به الدول الديمقراطية والمعاصرة ، وجدت مفردة المجتمع المدني لفظًا قبل 2500 عام ، مرّت هذه المفردة التي طالبت بوجود مجتمع مدني عبر التاريخ بمنعطفات تاريخية بعيدة وتعددت مفاهيمها و تلبست بألوان ونشير الى ثلاثة منها ، أول تلك المفاهيم هو أنّ المجتمع المدني هو عبارة عن المجتمع الذي يُقابل المجتمع البدوي الذي تحكمه الفوضى ، والمجتمع المدني هو الذي يتحرّك أفراده من خلال القانون ويُهيمن عليه . الإرادة الشخصية هي من تحكم في المجتمع البدوي ، فكلّ يُعاقب ما يشاء .. كيف يشاء ، أمّا المجتمع المدني يخضع لحاكميّة القانون و أن الجميع تحت ظل القانون . المفهوم الثاني المراد منه هو عبارة عن المجتمع الذي ينهض أبنائه صغارًا وكبارًا و ينهضون بواجباتهم طواعية من تلقاء أنفسهم ، وتكون الدافعية ذاتية عند أبناء المجتمع لتطبيق القانون ولو كان من خلال مؤسسات المجتمع المدني ، فلا يحتاج لهم رقيبًا ولا عصا ، و يتحرّكون لمعرفة واجباتهم وحقوقهم وحقوق الآخر سواء كان حاكم او محكوم ذاتيًا .
المفهوم الثالث الذي تطالب به الأفكار الليبرالية والذي يطالب به الفكر الغربي العلماني و كثير ممن يلبسون ثوب الديمقراطية هو المجتمع الذي يُدار من خلال مؤسسات المجتمع المدني من خلال الأحزاب والمنظّمات والنّقابات ، لا يحتاج الفرد أن يتحدث الى الحكومة وأن يطالب بحقه ، فالمنظمات والتيّارات والمنقبات تقوم بإدارة المجتمع من خلال المنظمات ومؤسسات المجتمع المدني ، و لا يوجد اتصال مباشر بين الرعية والحكومة الا من خلال تلك المنظمات ، هذا النمط فيه بعض الإشكاليات الخطيرة ولا سيّما في هذا الزمان ، و له عدة مرتكزات . المرتكز الأول أنه يقوم على العلمانية ، كل مؤسسات المجتمع المدني تُقصي الدين وتُبعده ، و تُسيّر كل حكومات و مؤسسات و منظمات المجتمع على ضوء الفكر العلماني الذي يدعو الى التحرّر من القيود الدينية في أنظمة الحكم أو مؤسسات الحكم المدني بغض النظر عن كون الدين اسلاميًا ، مسيحيًّا ، أو يهوديًا ، المناط هو إيجاد منظمات و أحزاب لتدير المجتمع بعد التحرر من هيمنة الدين و فصل الدين عن الميادين الفكرية والسياسية والإجتماعية . المرتكز الثاني هو محورية الإنسان ، كل الأنظمة والقوانين والمؤسسات والمصالح تصبّ في مصلحة الإنسان فقط ، حتى الدين ، اذا كان الدين يُعطي راحةً نفسية للإنسان نُقرّه واذا كان الدينُ يُسبّب مشقةً للإنسان نرفضه ، فالدين تابع للانسان . المرتكز الثالث هو نسبيّة المعرفة ونسبية القيم وعدم وجود حقائق ومعارف ثابتة لا تتغيّر مع اختلاف العقول طول الأزمان ، وبالعكس اذا قلنا بأن القيم لها قيمة مطلقة فهي تبقى على حالها لكل مكانِ وزمان ، امّا اذا قلنا بنسبية القيم ، قد يكون العدل مثلًا حسنًا في زمن معيّن وقد يكون قبيح في زمنٍ آخر ، فلا توجد معرفة مطلقة في إطار المجتمع المدني . المعرفة الراسخة توجد على دلائل علمية تقوم على الدليل العقلي القطعي او الدليل النقلي القطعي ، وهو غير موجود في المجتمع المدني ، فكل شيءٍ في المجتمع المدني قابلٌ للنقاش حتى الحقائق المسلمة مثل إمكانية وجود ذات الله وهذا أمرٌ في غاية الخطورة .
القرآن الكريم تحدث عن معالم المجتمع الديني الذي يؤسس تحت مظلة السماء في الآية المذكورة بداية المجلس ، أول معالم المجتمع هو حاكمية الله ودينه وليس الإنسان كالمجتمع المدني ، المحور التي تطوف حوله القوانين والسنن هو الله والهيمنة لحكمه ، من سورة المائدة " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " . الحكومة على المستوى السياسي وحتى العلاقات الزوجية يجب ان تكون مُنسجمة مع حقوق الله ، و أن تكون الحاكمية منسجمة مع مبادئ السماء ، المجتمعات الوضعية تقومُ على أساسِ المُجتمع المدني تحكمهُ قوانين وضعية ما هي الا صنيعة فكر انسانٍ قاصر ، والذي وضعه قد يكون فقيهًا من فقهاء القانون القاصرين ويمتلك صلاحية التنظير لتأسيس البنود و القوانين ويأتيها من خلال ذاته ، وقد تأتي من قمة البرلمان و هم يملكون صلاحية إقرار القوانوين وهم قاصرون في العلم والحكمة ، لا ريب في أن يؤسسوا لقانون فيه كثير من القصور ، القوانين الوضعية قد تصلح لسنة أو سنتين .. لشخصٍ أو شخصين فتفسد و توجد فراغًا ، أمّا قوانين العالِم الحكيم تصلح لكلّ زمان ومكان . الميزة الثانية مما تتمّيز بها المجتمع الإسلامي هي تعميق مبادئ الرحمة وهي من أبرز السمات ، من سورة الفتح " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما " ، المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يقوم على الرحمة بين أفراده وليس فقط بين المؤمن على المؤمن بل الرحمة على الإنسان ، عن أمير المؤمنين ( ع ) " الناس صنفان ، إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق " .
الرحمة تنطلق على الصعيدين الإنساني والإسلامي ، من سورة الأنبياء " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون " النبي كان رحمة للخلائق جميعًا وليس فقط للمسلمين ، المجتمع الإسلامي يؤكد على تأصيل الرحمة فيه ، والمجتمع الذي لا رحمة فيه ويوجد فيه أنين للمحرومين و الباقي يتفرجون ، فهناك خللٌ في إيمانهم وإسلامهم ، الميزة الثالثة هي التكافل الإجتماعي ، المجتمع الإسلامي يؤكد على ركيزة رئيسية وهي اثبات التوحيد وعبادة الله ، و المجتمع المتدين هو المجتمع الذي يكسر طوق ال"أنا" ، النبي ( ص ) أسس مجتمعًا يؤسس على الشراكة الاجتماعية ويعيش الترابط ويعيش الألم والوجع على بعضه البعض . وقد حذر القرآن الكريم من انعدام التكافل الإجتماعي بين الناس ، من سورة الماعون " أرأيت الذي يكذب بالدين ، فذلك الذي يدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين " وقد دعى النبي ( ص ) الى التكافل الإجتماعي فعنه ( ص ) " أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ " وهذا كله تحفيز على التكافل الاجتماعي في المجتمع الديني . الميزة الرابعة هي ترسيخ مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد أسس القرآن الكريم نوعين من الاحكام ، أولًا الأحكام الجزائية هي الأحكام التي يستحقها المكلّف لمخالفته لحكم من أحكام الله مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر ، كحكم قطع اليد أو القتل أو الجلد أو الرجم تسمّى أحكامًا جزائية ، عقوبةً لما فعل من مخالفة لاحكام الله ، النوع الثاني هو الأحكام الوقائي والتي يشرّعها الله وقايةً لمفاسد أعظم ، مثل قوله تعالى في سورة النور " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن " . المؤمنون مطالبون كذلك بتجنّب الخلوة بالأجنبية وحكم الخلوة حرام و حكم النظر الى الأجنبية حرام كذلك ، الاحكام تكون رادعةً من الخضوع للمعاصي ، ومن ضمن الأحكام الوقائية هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، فهما قانونان وقائيان لوأد الفتنة والمعصية و لا تدب وتنتشر في المجتمع الا اذا تساهل الناس عنها ، فلو تكاتف أبناء المجتمع الواحد على وأد الفتنة ، لعاشوا النقاء والاستقامة والطهارة والعفاف . لا تتسواى المجتمعات رتبة عند الله ، فالمجتمع الأفضل هو المجتمع الأكثر استقامة والذي يخضع لهيمنة الحكم الإلهي والقيم الالهية و أحكام الدين سواءً كان سني او شيعي ، وهو من يحافظ على نقاء وطهر المجتمع .




التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع