شارك هذا الموضوع

شهر رمضان.. محطة الشّحن فلا تضيِّعها

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. البقرة:183
• ضياع يتكرّر لفقدان الاستعداد
يقبل علينا في كلّ عام شهر رمضان المبارك، وما أنْ يبدأ حتى ينتهي سريعًا، لنبدأ في آمال جديدة في أْن يكون تعاطينا مع الشّهر في العام المقبل أفضل من هذا العام.
ولكن الواقع أنّ الحال في تكرّر دائم، إذ تقبل رمضانات متعدّدة دون أنْ يحدث شهر رمضان أيّ أثر في نفوسنا، أو أنّ ما يحدثه قليلاً.
فما هو سبب هذه المشكلة؟
إنّ السبب وراء هذه المشكلة يكمن في عدم الاستعداد الجيّد لهذا الشهر الفضيل الذي جعل الله تعالى فيه عطاءات متعدّدة وكثيرة، ورحمات ومغفرات تتنزل في أيّامه ولياليه.
فحالنا كمثل مَن يتفاجأ بامتحان لم يعدّ له العدّة، فحتمًا ستكون نتيجته إمّا الرّسوب وإمّا الدّرجات المتدنية التي لا تؤهله للدخول في الدّراسات العليا والمراحل المتقدّمة، بعكس ما لو أعدّ الإنسان نفسه لدخول هذا الاختبار، فإنّ النتيجة ستكون في تصاعد مستمر مرّة بعد أخرى.
فإذا أردنا أنْ نستفيد ممّا جعله الله تعالى في شهر رمضان، وما قسمه من رحمات ونِعَمٍ، فلا بدّ لنا من أنْ نستعدّ الاستعداد الجيّد لهذا الشهر الفضيل، ونعدّ الخطط والبرامج له قبل فترة مبكرة.
والاستعداد هذا الذي أكّدنا على ضرورته لا بدّ وأنْ ينسجم مع الهدف الرّبانيّ المجعول لهذه الفريضة، أي فريضة الصوم.
إذ نجد خططًا واستعدادات لدى البعض، وبرامج مبكرة ربما تسبق الشهر الفضيل بشهرين أو أكثر، ولكنّها خطط لا تنسجم مع الفريضة المجعولة في هذا الشهر الفضيل، بل تتصادم مع الشّهر وتتنافى وهدفه، خطط قوامها المجون، والقمار، والمعاصي.
هذا النوع من الاستعداد هو استعداد منهيّ عنه أصلاً، ويتضاعف النّهي عنه في شهر رمضان المبارك.
• التّعرف على الهدف أوّلاً، ثم وضع الخطط والبرامج
لكي يعرف الإنسان الخطط والبرامج التي تنسجم مع الشهر الفضيل لا بدّ له من أنْ يتعرّف على الهدف الذي جعله الله سبحانه للصوم المفروض في هذا الشهر الفضيل.
فدعونا نلقي نظرة على الآيات التي تحدّثت عن هذا الموضوع.
يقول الباري سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. البقرة: 183
والفقرة التي تستوقفنا في هذه الآية هي قوله سبحانه: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
إذ أنّ المولى جعل الصيام سببًا موصلاً ومحصلاً للتّقوى التي تعني الامتناع عن المعاصي والمحرّمات.
فكيف يكون الصيام محصلاً لها؟
الصّيام يعني الكفّ عن مجموعة من المفطرات بشروط، ولو تأمّلنا في المفطرات سنجد قسمًا كبيرًا منها من نوع الأمور والأشياء التي تلبِّي غرائز وشهوات الجسم كمثل الأكل والشرب والجماع ونحوها، والإسلام لما فرض الكفّ عن هذه الأمور أراد أنْ ينبّه النّفس على أنّ بمقدورها متى ما قويت في إرادتها وعزمها أنْ تكفّ نفسها عمّا تريد وقتما تريد، فهي في الصّيام كفّت جشعها وشهوتها عن قسم من المباحات المحلّلة في سائر الأوقات، فهي إذًا تقوى على أنْ تكف نفسها عن المحرّمات والمعاصي متى ما قويت. وعندها الصيام يهدي النّفس إلى ما يجب أنْ تبدأ به ألا وهو الإرادة والعزم.
كما وأنّ الصّيام يُرشد إلى أنّ الاستغراق في تلبية احتياجات الجسد يكون غالبًا على مصلحة الرّوح وهو حاجب عن الارتقاء بها في سلّم الكمال.
يقول السيد الطباطبائي في تفسيره الميزان: "كون التّقوى مرجوّة الحصول بالصّيام ممّا لا ريب فيه فإنّ كلّ إنسان يشعر بفطرته أنّ مَن أراد الاتّصال بعالم الطّهارة والرّفعة، والارتقاء إلى مدرجة الكمال والرّوحانيّة فأول ما يلزمه أنْ يتنزّه عن الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم، وينقبض عن الجماح في شهوات البدن، ويتقدّس عن الإخلاد إلى الأرض، وبالجملة أنْ يتّقي ما يبعده الاشتغال به عن الرّب تبارك وتعالى، فهذه تقوى إنّما تحصل بالصّوم والكفّ عن الشّهوات".
فالصّيام في شهر رمضان على ذلك ما هو إلا وقت غلّب الله سبحانه الرّوح على الجسد، وجعل احتياجات الرّوح هي المتفوّقة على الجسد.
وبعد ذلك يتّضح لدينا لماذا عبّرت بعض المرويّات عن الصّوم بالجِنّة، أيّ الوقاية لما أشرنا له من أنّ الصّوم يوفّر الاستعداد الجيد لمنع النّفس، وحجبها عن المعاصي.
وعندها إذا أردنا أنْ نجعل خططا لشهر رمضان يجب أنْ تسير في هذا المسار، مسار الرّوح والرّوحانيّات من خلال برامج متنوعة كالدّعاء، وقراءة القرآن، والصّلاة، ونحوه.
وإذا تفاعل الإنسان مع هذا الجانب في خلال شهر رمضان، فإنّ فيوضات ربانيّة كبيرة يحصل عليها، أبرزها غفران الذنوب والمعاصي؛ ليتمكّن العبد بعد ذلك من أنْ يسير في مسار العروج إلى الله سبحانه.
فرمضان شهر يتصاعد فيه دور الرّوح، وكأنّه المحطة الرّوحيّة التي يجب أنْ تتوقف النفس عندها؛ لتتعبأ طاقةً روحية كبيرة تبقى معها بقية السنة.
أمّا إذا أهمل الإنسان هذه المحطة، ولم يأخذ ويشحن طاقته، فإنّه لن يكون قويًّا بقية الطّريق، وبقيّة أيّام السنة.
إذًا الشحن الرّوحيّ يشكّل هدفًا مهمًّا من أهداف صيام شهر رمضان.
• الاستعداد الاجتماعيّ والأخلاقيّ
يُؤثر عن النّبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) خطبة في استقبال شهر رمضان قال في ضمنها: "أيها النّاس من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصّراط يوم تزل فيه الأقدام…، ومن كفّ فيه شرّه كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومَن أكرم فيه يتيمًا، أكرمه الله يوم يلقاه، ومَن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومَن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه".
يلاحظ في هذه الفقرات حثّ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله) النّاس، وإرشادهم إلى الخطط والبرامج التي يجب أنْ تكون ماثلة في هذا الشهر الفضيل، وهي خطط وبرامج تلامس الجانب الاجتماعيّ والأسريّ والأخلاقيّ، وفي هذا إشارة إلى أهداف يرجى الحصول عليها في الشّهر الفضيل على الصّعيد الأخلاقيّ والاجتماعيّ والأسريّ.
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا السياق: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا العناء".
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): "إذا أصبحت صائمًا، فليصم سمعك، وبصرك، وشعرك، وجلدك، وجميع جوارحك"، وقال (عليه السلام): "إنّ الصّيام ليس عن الطّعام والشّراب وحدهما، فإذا صمتم، فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضوا أبصاركم عمّا حرّم الله، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا، ولا تغتابوا، ولا تشاتموا، ولا تظلموا، واجتنبوا قول الزّور، والكذب، والخصومة، وظنّ السّوء، والغَيبة، والنّميمة…".
هكذا يجب أنْ يكون تأثير الصّيام على الإنسان استعدادًا وقابليّة وشفافيّة روحيّة تسمح للمَلَكَات الرّوحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة السامية بالتدفّق والانطلاق، وما على الإنسان إلا أنْ يستفيد من ذلك، ويعكسه على واقع نفسه وحياته.
وعندما تتكامل خططنا في هذه المسارات المهمة الرّوحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة عندها نخرج بأعظم ما يمكن أنْ يستفيده الإنسان من عطاءات هذا الشّهر الفضيل شهر رمضان المبارك أعاده الله تعالى علينا وعليكم باليُمن والبركات.
الشيخ رائد الستري - موقع المجلس الإسلامي العلمائي

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع