شارك هذا الموضوع

الملحمة الخالدة - فكر يتجدد


المنشأ التكويني
 ملحمة ولدت عن ظلمات اندست بين خفايا التاريخ واستقرائها لا ينطلق من يوم وقوعها لكنها تجسدت في عصر أبيح فيه قتل الإنسان وانتزاع مفهوم الإنسانية وأبيح فيه تحريف القرآن والتطاول على أحكام الخالق لإبادة المخلوق فانبعث الهتاف الحسيني (إنما خرجت لإصلاح أمة جدي) وانبعث نداء الإسلام ليصبح جسد الحسين قرباناً للثورة تلك التي من أراد ان يقتفي خطواتها خطوة إثر خطوة ومن أراد أن يتتبع تفاصيلها عبر الأقلام الحرة التي كتبت التاريخ وعبر الصفحات الناصعة التي سجلت تلك الحوادث تباعاً لا يكتفي بالبكاء بل ينشطر مع نفسه إثر تلك السياقات المنحرفة التي حاولت إخفاء مضامينها الناصعة ـ لقد ولد الحسين بن علي (فبكاه آدم والخليل وموسى ولعن عيسى قاتله وأمر بني إسرائيل بلعنه وقال: من أدرك أيامه فليقاتل معه فإنه كالشهيد مع الأنبياء مقبلاً غير مدبر وكأني انظر إلى بقعته وما من نبي إلا وزارها..).


(ولما مرّ أمير المؤمنين بكربلاء في مسيره إلى صفين نزل فيها وأومأ بيده إلى موضع منها وقال هاهنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم، ثم أشار إلى موضعٍ آخر وقال هاهنا مهراق دمائهم، ثقل لآل محمد ينزل هاهنا..).


أما الرسول محمد(ص) فقد جعل يوسع سيد الشهداء تقبيلاً وقد انفجر بالبكاء فذهلت السماء وانبرت تتساءل لم بكاؤك!؟ ليجيبها(ص) بعد أن اغرورقت عيناه بالدموع وبصوت متقطع النبرات حزناً وأسىً فقال: (تقتله الفئة الباغية من بعدي لا أنالهم الله شفاعتي)


وما نريده من هذه الإستشهادات المنقولة على لسان أصحاب الضمائر الحية هو الإثبات بأن ما حصل في الواقعة لا يمثل بدايتها لكي يتم التمسك بأن العاشر من محرم موضوع للعنوان لأن العنوان امتداد مفهومي يشكل صفحات متسلسلة ابتدأت من تاريخ الولادة الحسينية وما حصل في العاشر من المحرم هو عنوان للإنبعاث الحسيني.


فالحدث الحسيني الذي تجسد في الواقعة ما هو إلا انعكاس مخبوء يحمل بين أكتافه خطايا أدراج التواريخ التي استبصرتها العصمة المحمدية وأعقبتها العصمة الإمامية ليخرج الإمام ملتهباً مدرك الموت لينطلق النداء المعفر بدمه (ع) (إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما) منتفضاً ضد خطايا تلك المسارات الصدئة وهي تقرع أبواب الضمير ولتتفجر كالبركان في شظايا الزمن عندئذٍ وفي تلك اللحظة الولود تتقرر بشاعة المخاض لتستعرض زيف القاتل وعظمة المقتول.


وما يؤكد علم العصمة الإمامية هو أنه (ع) كان يعلم بلحظة استشهاده ويعلم الساعة التي يُقتل فيها أهل بيته وأصحابه، وهذا ظاهر في حديثه مع أم سلمة يوم أبدت تخوفها من سفر كان آتيه.


ترى ما هي الكيفيات التي نشأت منها المعركة وما هي الكيفيات التي تحولت فيها مفردة الفعل الحسيني إلى ثورة عارمة لمجابهة الواقع الفاسد؟!.
 
كيفيات الصراع ومفردة التحول
 لا شك أن عملية استحضار تلك اللحظات وما لها من وقع على الذات في صياغتها وتشكيلها تحتاج إلى تتبع الخط الزمني لانبعاث الثورة في مساره المرتبط بمعايير القيم المتصارعة والنقائض الجوهرية في حضورها الغائب والحاضر كونها تدفقت بمنظوري ذلك الصراع القائم بين مظهرين مختلفين جنساً وقريبين زماناً هما الكفر والإيمان وكل بهيئته يشكل مقدمة لموضوعه فيزيد مقدمة لأبي سفيان والحسين(ع) مقدمة للرسالة السماوية التي جاء بها محمد (ص) لذا فإن الخطاب الحسيني (إنما خرجت لإصلاح أمة جدي) كان حكماً ونتيجة اقتضته ظروف المصلحة الفعلية لإعادة المنهج الإسلامي إلى نصابه الصحيح على أساس (الهيئة) التي تشكل النسبة بين العقيدة السماوية والحاكم الإسلامي، والتي تحتاج إلى تجسيد الصيغة المفهومية للخطاب الإسلامي والعقيدة الإمامية؛ فالهيئة التي تحققت من خلال تسلط يزيد شكلت خللاً واعوجاجاً يقتضي هدمه لأنه لا يعبر عن شروط المنهج السليم وهذا الخلل كان امتداداً لمظهر متراكم من الفساد منذ اللحظة التي فتح فيها باب الإسلام لمن قال لا اله إلا الله واندس فيها المنافقون والمتذبذبون من مشركي قريش حفاظاً على مصالحهم الدنيوية أمثال أبي سفيان وأذياله وما تبع ذلك من عقبات كأداء في طريق تطبيق المنهج الصحيح باعتبار أن الرسالة السمحاء شكلت في صياغتها تعميماً لواقع شبه الجزيرة بالمظهر الإسلامي لمواجهة الكفار من الأقوام الأخرى فأعتمدت على أن يكون الإسلام ظاهرة انتشارية لانخبوية.


ولهذا فان طريق العودة إلى الجسد شكل انفتاحاً إلى مرتبة النبوة التي استبطنت معها ذلك الخطاب الظاهر في بكاء رسول الله (ص) عند ولادة الإمام الحسين (ع) فانبعثت ولادته (ع) مرة أخرى في واقعة الطف لتستحضر معها مفردة التحول تلك التي مهد لها بمصرعه ومصرع أصحابه ليكون قرباناً وحلقة متدفقة في عمق التاريخ الإنساني لأن الإسلام دين للعالم كله.


وثورة الحسين (ع) نبراس الثورات في العالم وتجربة غير محتكرة لطائفة أو جماعة دون جماعة على أساس أبعادها الشاملة على المستوى العالمي والإنساني والجغرافي والسياسي والإسلامي والعسكري فمعظم الثورات العالمية كانت ثورات منشؤها صراع قائم بين التسلط والفقر، بين الظالمين والمظلومين، من هنا كانت دعوة الحسين (ع) غرة على جبين الدهر لكونها لا يمكن أن تكون ذات بعد واحد وكذلك فأن مالها من الخصائص يكاد أن يجعلها نظرية لأنها اعتمدت منهج القيم الحقة في الولادة والانبعاث ـ بالإضافة إلى أنها ليست من طرازٍ واحد وشهداؤها هم نخبة ارتشفوا من رحيق الإسلام ولغة الإمامة الحقة وهذا ما جعلها سليمة في مواقفها وطاهرة في أهدافها والتزاماتها حتى مع ذروة المواجهة الدامية والبشعة التي مارسها ألد أعداء الإنسانية على وجه التاريخ.
 
أبعاد الثورة وعواملها
 يتجلى البعد الديني والإنساني للنهضة الحسينية في ما حققته الثورة في حفظ المبادئ الحقة للإسلام والتي حملت معها جميع ما بشر به الرسول الكريم(ص) في عصر الرسالة الإسلامية لتتقوم من خلال الإمامة المنصوص عليها، أما البعد السياسي والعالمي فيقع في مصاديق الثورة التي استوعبتها أهدافها السامية في الحرية والاستشهاد من أجل الكرامة والأثر الذي تركته هذه النهضة المباركة في الفكر المعاصر حيث أن ما قام به الحسين (ع) كان ضرورة موضوعية حاكمه لاتخاذ موقف عسكري تمردي مهما كانت الظروف ومهما كانت عوامل الخسارة إذ إن الهدف الأسمى لها لا يتأتى إلا من خلال التضحية وإلا فأنه (ع) كان قادراً أن يترك يزيد ويتصرف بطريقة تبعده عن المعركة بينما تعلق البعد الجغرافي بمسألة الأرض التي انبعثت فيها الثورة.


وتركزت أبعادها العسكرية في طبيعة المواجهة النظامية بين معسكرين غير متكافئين في القوة والعدد.


ناهيك عن الموارد الأخرى المتعلقة في نفس ما حملته معالم هذه الملحمة الخالدة في جزئها أو شرطها الخارج عنها أو وصفها الملازم لها حيث أن قيمتها الفعلية حاصلة لأجل انطباقها مع ما هو موجب ومقتضي لتحققها الفعلي، وأما جزؤها فواقع في مفهوم الجهاد الأكبر حيث قال سبحانه وتعالى: (والتائبون، العابدون، الحامدون، السائحون، الراكعون، الساجدون، الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله)


وهذا برمته يشكل المكانة العالية للثورة الحسينية ويقع شرطها الخارج عنها في ما ذكرته الأحاديث عن العلم المسبق بقتل الإمام الحسين (ع) على أيدي أمة باغية وهذا ما ذكرناه آنفاً.


بينما يقع وصفها الملازم لها بنقطتين أولهما موقف الإمام الطاهر (ع) وأصحابه الذين حملوا الراية والنقطة الثانية جرائم يزيد وجيشه التي ظهرت في تعطيش الأطفال وقتل الرضع وترويعهم وإرعاب النساء وتجويعهن وضربهن وحرق الخيام وقتل قراء القرآن والصبيان ومنع إقامة الصلاة وممارسة العبادة وقطع رؤوس الشهداء والاستهانة بالمقدسات الإسلامية.


وهذا يشكل قيمة أعظم لمعاني الثورة لأنه حمل معه السبب الحقيقي الذي جاءت من أجله بما يؤكد أهدافها المعلنة استناداً إلى مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبهذا فقد أثبتت النهضة جدارتها لأن تكون ثورة معلمة حيث أكد الحسين (ع) بأن تحركه المناهض ليزيد إنما كان استناداً إلى وصية جده النبي محمد (ص) فحمل مصيره (ع) بقوة الروح الإيمانية لتستيقظ عاطفة الندم بين صفوف من كانوا مع جيش يزيد بعد أن أيقن الجميع أن حقيقة الإسلام قد تألقت في شخصية متوهجة أرادت لذلك الظلام أن يتبدد فلو أن رجلاً أجنبياً لا دين له أراد أن يستعرض رحلة الشقاء لثأر الله في الأرض لأعلن عن إسلامه من خلال تطلعه لمفردات تلك الصفحات البطولية حيث تنبعث الحياة من خلال الموت ولأدرك بأن الإسلام الذي استشهد من أجله الحسين (ع) لهو أكمل وأجل من كل المذاهب الأخلاقية التي لا زالت محدودة في دراساتها بعد.


لقد اتخذت الواقعة طابعاً حركياً بعد أن اثبتت ما ورد في الآيات القرآنية (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)، (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) وهذا يعني في حالة تفسير (من) بالتبعيضية ـ بأن المطلوب من المسلمين قيام أمة منهم مهمتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أن الأمر لا يخلو عن أصالة العموم أي إن هذه الوظيفة التغييرية مهمة تقع على عاتق المسلمين جميعاً.
 
دور الثورة في حركة التاريخ
 لقد ترك الإمام الحسين (ع) بصماته في أكثر من منحى وعند اكثر من منعطف في حركة التاريخ حيث يقول بعض الفلاسفة أن الإنسان العظيم هو الذي يصنع التاريخ فكان يوم الطفوف مأساة التاريخ وكان الحسين أعظم قربان ملأ قلب الزمن بروح نقية لتكون شهادته من نمط آخر ليبكي من هو مسلم ومن هو خارج الإسلام وليقف العديد بإجلال واندهاش وهم يضمون أدب الطف لروائع المؤلفات. فكما أن هنالك شعراً نسميه شعر المقاومة كذلك فإن هنالك أدباً نسميه أدب الطف لشعراء كبار كالكميت بن زيد الأسدي، والحميري، ودعبل الخزاعي والشريف الرضي وغيرهم ممن ظهر بعدهم واستكملها من ظهر في عصرنا هذا ناهيك عن شعراء آخرين ليسوا بمسلمين أو عرب كالشاعر الألباني (نعيم فراشري) الذي سجل عام 1898 أروع ما كتب عن ملحمة الطف وكذلك الشاعر اللبناني بولس سلامة الذي أنشد يقول:


يا أمير الإسلام حسبي فخراً أنني منك مالئ أصغريا


جلجل الحق في المسيحي حتى عد من فرط حبه علويا


ثم قال (أجل إنني مسيحي لكن التاريخ مشاع للعالمين).


وقد ورد على لسان هذا الشاعر ملحمة سماها (عيد الغدير) التي استوعب فيها (مدار أهل البيت) في أهم ما يتصل بهم، من الجاهلية إلى ختام معركة الطف.


ومع هذا فقد ذهب بعض من أرادوا تزييف الحقائق التاريخية وتأويلها بتحميل الحسين (ع) نتائج خطوته حيث ادعى البعض بأن الحسين قتل بسيف جده ولقد أكثر من التعلق بهذا بعض المؤرخين، ورداً على هؤلاء نقول أن المضمون التاريخي لحركة الحسين (ع) يكشف عن واجبه المقدس الذي يتجلى بحقيقة الجهر الإنكاري على يزيد بدليل قوله (ع) للوليد يوم طلبه للبيعة له (إن يزيد فاسق مجاهر بالفسوق ومثلي لا يبايع مثله) ونقول للذين ادعوا بذلك ويدعون ببعض الآراء التي تسعى إلى حصر معنى الثورة بالحسين (ع) بأن هؤلاء نسوا وتناسوا قول رسول الله (ص) (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) ـ ونسوا ما جاء في سورة المباهلة وفي حديث الكساء ونسوا وتناسوا مفهوم الولاية التي أرادها الله في كتابه الكريم، من هنا فإن لثورة الحسين (ع) دوراً في حساب حركة التاريخ. لقد ذكر المؤرخون أن الزعيم القرمطي أبا طاهر سلمان بن أبي سعيد كان كثير التردد على كربلاء عند غزواته للكوفة حيث طاف حول القبر عام 313هـ مع أتباعه وأمّن أهل الحائر بالرغم من أنه كان كثير العبث وكذلك كان السلطان جلال الدولة البويهي (431هـ) يزور قبر الحسين (ع). والسلطان أبو الفتح جلال الدولة ملك شاه بن محمد بن أرسلان السلجوقي (479هـ) والسلطان إسماعيل الصفوي (914هـ) والسلطان الأفشاري (1156هـ) والقاجاري وغيرهم. وهذا ما تؤكده النصوص التي تشرح ثورة الإمام الحسين (ع) بعد الاستهلال بالسلام والدعوة إلى العقيدة وتتضمن في نهايتها البراءة من الأعداء ناهيك عن بعض المعاني التي تنص على طلب الثأر مع الإمام المنتظر(عج).


بالإضافة إلى ما أحياه البويهيون والصفويون عن مضامين الثورة وبما يؤكد اللغة التي كان يعبر بها هؤلاء عن اضطهاد الحكام لهم وربطهم لما يتعرضون له بشعارات الثورة الحسينية ومفهوم الحسين (ع) للثورة.


وفي عام 1907 كتبت جريدة اللوموند الفرنسية مقالا تحت عنوان (عذابات الحسين في كربلاء) حيث استعرضت فيه مواكب العزاء في كربلاء بما يشير إلى تأكيد المعنى الاحتفالي للشهادة الخالدة ولمضمون الثورة الحسينية ـ بما يدعو الناس جميعاً للاحتفال بعظمة هذه الثورة الخالدة؛ ما يؤكد أن الاحتفال بها سنوياً هو نوع من أنواع الطقوس العبادية للمسلمين جميعاً لأن روح الحسين (ع) جزء من قاموس السماء وحركة الحسين (ع) جزء من المنهج العقائدي للإسلام وبهذا فكما أن المسيحيين يحتفلون فالمسلمون يعلنون احتفالهم هذا بطريقة تتناسب مع ما تعرض له الحسين (ع) وما تعرض له أطفال الحسين وأهل الحسين وأصحاب الحسين من أجل سيادة دستور الله في الأرض ومن أجل ما بشر به الرسول الأكرم(ص).
 
المنهج الأخلاقي للثورة الحسينية
 لم يكن منهج الإمام الحسين (ع) كما يقع من بعض الحكام في اجتذاب الجماهير من خلال التضليل الإعلامي وإخفاء بعض الزوايا بل أنه عزم على الخروج من مكة قائلاً:


(الحمد لله وما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وصلى الله على رسوله خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغبا لا محيص عن يوم قد خط بالقلم رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين لن تشذ عن رسول الله لحمته وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقر بهم عينه وينجز بهم وعده ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته وموطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فأني راحل مصبحاً إن شاء الله).


وبعد هذا فقد أمر(ع) فتيانه بالتعامل مع أعدائه بالرحمة واللطف والمروءة والكرم فقد أمرهم أن يستسقوا بجمل كميات كبيرة من الماء، لقد قال لفتيانه يوم التقوا بالحر بن يزيد الرياحي على رأس فرسان بعثهم ابن زياد كان عددهم ما يقارب الألف أن يسقوهم بالماء بعد أن بلغ بهم العطش وكان بإمكان الحسين (ع) يومها أن يستغل ما وصلوا إليه من ظمأ لمحاصرتهم.


بالإضافة إلى ما أكد عليه الحسين (ع) في مواضع الهداية وعدم إراقة الدماء واحترام النساء وعدم استخدامهن كترس للحماية فكان من أصحاب الحسين أن أوفوا بعهودهم أمام الله وأمامه وذادوا بأرواحهم من أجل رضاء الله.


لقد كان الأسلوب الأخلاقي الذي جسّده الإمام (ع) في الثورة أقوى فاعلية وأشد أثراً في النفوس وتغيير القلوب بعد أن فضح العدو وكشف غاياته لتتم تعريتها بالوسيلة الشريفة والأداة الطاهرة، ليبقى مدرسة لكل من يريد من ثورته هدفاً سامياً وغاية عظمى.


فقد عمل الإمام الحسين (ع) بمنهج عدم الإكراه على مناصرته فترك المجال مفتوحاً لمن يختار الانخراط والانضواء تحت لوائه.


إذ قال في ليلة عاشوراء:
(ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً خيرا وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم فإن القوم إنما يطلبونني، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري).


ومن أقواله (ع) ما يشير إلى أنه لم يبدأ بالقتال ما ورد في كلامه (ع) مع زهير بن القين يوم استأذن منه لإبداء النصيحة لجيش يزيد إذ قال (ع) (ما كنت ابدأهم بالقتال).


لقد أصبحت ثورة الإمام الحسين (ع) نبراساً ومناراً للثورات العظيمة في العالم ومدرسة لكل من أراد من ثورته هدفاً مقدساً تلك الثورة التي خرج من أجلها (ع) يوم ذهب لزيارة جده رسول الله (ص) في المدينة وهو يدعو ربه قائلاً (ربي افتح لي طريقاً يكون فيه رضاك).
 
الطابع الشمولي لأهداف الثورة الحسينية
 لقد ارتبطت أهداف الثورة الحسينية بعوالم التقوى والإيمان واستمدت إصرارها من منهج طابعها الشمولي كونها تعني إعادة الإسلام إلى نصابه الحقيقي من منطلق الدواعي الإيمانية لمفاهيم (التضحية والشهادة والإصلاح) لتصبح مجموعة من المقدمات الضرورية لمقاربة المفاهيم لدى العامة وتكون بمثابة المبادئ والتجليات التي تحمل معها روح التأسيس الظاهر في نمط الخطاب الحسيني للجماهير لذا فقد أصبحت المقولات أعلاه بمثابة الكليات المتعالية على الزمان والمكان كونها مغروسة في روحه (ع) على ثلاثة أنماط وهي الثبات بالمفهوم الجوهري الذي تميزه الماهية الحقيقية بانتمائها إلى مدرسة الإمامة والثاني يتعلق بالصفات النبوية كونها تمثل مفهوماً كلياً للإمامة والثالث التضحية كونها تمثل استعداداً للثورة من اجل مصلحة الإسلام ليصبح النهج الرسالي مذهباً لا سبيل إلى انتزاعه أو الاستغناء عنه وأرضية لا يسوغ تجاوزها وإبطالها دون الوقوع في مسؤولية الإمامة المحض المتجسدة به (ع) حين قدم نفسه وعياله وأولاده قرباناً لانطلاق المبادئ الحقيقية من أقفاص السلطان الجائر، ومناصرتها بروح إيمانية وحمايتها والنجاح في مهمتها الإسلامية والإنسانية كونها جاءت لمناصرة الضعفاء والمظلومين لتبقى حية تتأجج في النفوس وتصبح نداءً لضمير الإنسانية جمعاء لذا فان أهدافها تركزت على الإيمان والعدل والحرية والحياة ضد الكفر والفساد والظلم والاستبداد والاستشهاد من اجل إرساء دعائم دولة العدل الإلهي بدلاً عن دولة الكفر والطغيان فكان يوم خرج من المدينة أن قال (إنا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله)، إذ المبايعة تعني الإقرار بدولة يزيد الظالم والاعتراف بالحاكم الفاسق لذا قال (ع) (والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية)، وبذلك تصبح المقالة شعاراً لتتحول إلى عامل مقوم من عوامل النهضة بما يمنحها بعدها الإستعدادي الذي يتجلى في الاستجابة الرادعة عبر عملية النفي؛ لتتجانس مع الثوابت المتجذرة في نظام القيم الموروث الذي يحمل روح الثورة ليتماهى مع القديم المفرز للقيود والشرائط التي تم تجاوزها مع دعوى الجاهلية ومخلفاتها وما كان يعاضدها من مكائد النزعات التسلطية المريضة التي سجلتها مواقف قريش في الجاهلية من الرسول والمسلمين حيث تلك الأحقاد المتسلسلة منذ واقعة بدر وأُحد والخندق ـ لتستمر أحقادهم ونواياهم الفاسدة فيكونوا ملوكاً جبارين فيقتل أمير المؤمنين ثم يقتل ابنه الحسين (ع) باسم (إبن قتال العرب) وبهذا فقد جسد استشهاده مرحلة ثانية عبر بها عن مبدأ أمة جده بعد أن ابتدأها الإمام الحسن (ع) في قضية المعاهدة التي نقضها معاوية قبل موته.
 
القيم الحسينية والصراع
 بعد أن التقينا بأبعاد الثورة ومضامينها وملامحها عبر التاريخ لا بد من الإشارة إلى موارد المعارضة التي تسيء إليها ابتداءً بدعوات:


ما ينظر إليه البعض بخصوص شعائرها؛ أو ما نسميه آلية الشعائر الحسينية والتي هي البكاء والتباكي، واللطم، والزنجيل، والتمثيل، والتطبير، ما يمنح النفس صبغة للانتماء وما يوحي بخدمة القضية والمبادئ الحسينية بأبرز صورها لتأكيد عناصرها الحية في وعي المستقبل ـ لقد ذهب هؤلاء بأن هنالك قاعدة فقهية تقول لا ضرر ولا ضرار في الدين ـ ولو عدنا إلى أصول هذه القاعدة التي قال بها النبي الأكرم(ص) فهي إنما وضعت على أساس أن (الناس مسلطون على أموالهم) وأن الشعائر الحسينية مباحة بحسب أصالة الإباحة العقلية إذ لم يرد في الأحكام ما يحرم تلك الشعائر ولدينا من الأحاديث الدالة والأخبار الواردة ما يبيح ممارسة هذه الشعائر ويؤكد استحبابها بشرط عدم الإضرار بالنفس لا حرمتها.
 
معاوية والتاريخ المزيف

 لقد كان لسلطة معاوية أثر كبير في تشويه الحقائق التاريخية؛ ومن ذلك عمله على تشويه وتحريف مفهوم الولاية التي جاء بها القرآن الكريم وقد اندفع مع أفراد حاشيته لشراء ذمم بعض الوعاظ ورجال الدين والرواة الفاسدين لتزوير أحاديث النبي(ص) وتغيير الأسماء واتباع التضليل الإعلامي المزيف بنفس الطريقة التي يتبعها الغرب والإعلام الغربي في تسمياته للثوار والمجاهدين حيث ينعتهم بالأرهابيين، وانصرف الناس لقراءة التاريخ ببصماته الجديدة التي تحمل معها لغة التزييف والانحراف على يد سمرة بن جندب الذي كانت تخصص له أموال طائلة بلغت ذات مرة ثمانية آلاف مثقال من الذهب مقابل الطعن بعلي بن أبي طالب (ع) عن طريق اتباع أسلوب تحريف لآية قرآنية معينة أو نسبة نص محرّف لعلي (ع) وصار لعن علي على المنابر سنة متبعة وما من أحد يقوى على مخالفة تلك السنة لأن (أوامر الإمام) كما ورد في نصوص سلطة معاوية يجب أن تكون مطاعة لأنها تمثل سلطة الله في الأرض!! ولكن أي إمام مقصود؟ هل الإمام المعصوم الذي أراده المولى الحق أم الإمام الذي نصّب نفسه سلطاناً بالسيف والقتل والتحريف. لقد انتقل هذا التاريخ بصفحاته المزيفة، وحمل معه كل زيف السلطة الأموية الباغية ليتكرر ويصطدم بمواجهة الإمام الحسين (ع) من هنا فإن مظلومية الإمام (ع) هي لأنه قد واجه أوزار من تعرض للإسلام وطعن بحرمته، وحمل هموم شعب مظلوم يحكمه سلطان جائر من هنا فقد وقف وحده أي بشخصه وذاته وكان يعرف أنه لابد له من مقارعة السلطة إذ ليس بالضرورة أن يكون الهدف استلام السلطة بقدر ما يكون التعبير عن الإرادة الحرة فالتاريخ كما يقول بعض العلماء يصنعه الأفراد وليس بالضرورة أن يصنع التاريخ سلطان جائر والسلطة الجائرة تقتضي مواجهة وموقفاً على يد إمام مطالب بمسؤولية شرعية أمام الله وأمام العقيدة فقد قال رسول الله (ص) :


من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قوة كان حقاً على الله أن يدخله مدخله.


وبهذا قال الإمام الحسين (ع): وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد.
 
في موارد السيرة الحسينية
 لعل من أبرز موارد دراسة السيرة الحسينية هو بيان شأنها وسمو الشخصيات التي شاركت الإمام الحسين (ع) وفضائلهم الإنسانية وإن ما أشير إليه في أبعاد الثورة ما هو إلا تحفيز لإدامة العلاقة والولاء والتفاعل.


وبهذا لابدّ من الاستفادة من قيمها الحقيقية كدروس في المفاهيم والمبادئ الإسلامية - فنحن عندما نشهد الواقعة نحتاج إلى أن نتفهم ونتفقه ونتأدب- لنجد أنفسنا مع السجاد صبوراً شامخاً ومع العقيلة زينب (ع) جريئة شجاعة وهي تواجه المحنة ـ وأن نتأدب بمعنى أن ننهل من ينابيع هذه الثورة بما جسدته من قيم وأبعاد أخلاقية وتاريخية وسياسية شاملة.


فنرقب تقريرات الإمام المعصوم لنهتدي إلى دروس في النفس والروح والأخلاق والسجايا والعفة والشجاعة والصبر والاستقامة والورع والتفقه في ذلك من خلال دراساتنا الحوزوية أو مجالسنا الحسينية لكي يصبح العمل مع الحسين وللحسين خالصاً، ولنتأثر في القول والسلوك والخطط والمناهج ولنؤثر في الآخرين بعد أن نتهذب بأنوار الملحمة المقدسة، عندئذٍ نكون قد أثبتنا بأن ما نمارسه من شعائر ينسجم مع ما وصلنا إليه ولكي نثبت للآخرين بأن مجالس الإمام الحسين (ع) هي مجالس القيم والمعاني السامية ومنابر عزاء ورثاء للتجدد والعطاء كونها رمزاً وتراثاً وأثراً حضارياً شامخاً ينبغي أن ننقله إلى العالم أجمع.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع