شارك هذا الموضوع

عاشوراء في قلب الحركة السياسية

هل أنّ عاشوراء في مدلولها الثوري والروحي تمثِّل حالة دينية بالمعنى التقليدي للحالة الدينية؟ أو أنّها تمثِّل حالة إسلامية سياسية؟ وبعد هذا التساؤل: ما علاقة الإسلام بالسياسة؟ وهل يمكنك أن تكون مسلماً دون أن تكون لك علاقة بالسياسة، أو أن يكون لك خطّ سياسي تستوحيه من الإسلام؟


عاشوراء بين المدلول الثوري والمعنى التقليدي


في الجواب عن السؤال الأول هناك مَن يتصوّر أن عاشوراء تمثِّل حالة دينية تقليدية، يجتمع إليها الناس، ويتذكّرون جانب المأساة بعيداً عن جانب الحركة، ويفتّشون عن عناصر الألم بدلاً من التفتيش عن عناصر الانطلاق. ومن هنا يفكِّر هؤلاء الناس بأنّ قصّة الحسين(ع) في الذكرى، هي قصة الدمعة التي نستنزفها من عيوننا لتعبِّر عن حزننا وألمنا. ولهذا يهتم الناس بالدموع ويتحرّكون على أساس أن لا تكون الدموع حالة عميقة في النفس، بل تكون حالة إيمانية يستنزفها الإنسان ليحصل على الثواب.


وربما فكّر بعض الناس أنه يكفيه ليحصل على غفران الله من كل ذنوبه أن يبكي قليلاً في مآتم الإمام الحسين(ع)، أو أن يلطم صدره، أو أن يجرح رأسه، أو صدره.. فيكون قد وفّى الحسين حقّه. ويقول هؤلاء الناس: إن الذين يتحدثون عن قصة الحسين(ع)، من الموقع السياسي، يسيئون إلى قداسة القصة، وإلى قداسة الحسين(ع). لأنّ القضية قضية دينية، والقضايا الدينية يجب أن لا ترتبط بالقضايا السياسية.


وهناك جمهور كبير من الناس يحاولون الاقتراب من الحسين(ع) من موقع مأساته لا من موقع ثورته. ونلتقي في هذا النموذج من الناس بالكثيرين من الملوك الذين يتشيّعون لأهل البيت(ع) رسمياً، كما كان حال شاه إيران (محمد رضا بهلوي)، الذي كان يقيم العزاء على الحسين(ع) ويتحرّك في ما هو أخطر من خطّ يزيد. لأنّه كان يتحرّك ليعيد إيران إلى التاريخ الكسروي الذي يعتبر الإسلام حالة عدوانية في تاريخ الشعب الإيراني، على اعتبار أنها حالة جاءت من الغزاة الذين غزوا إيران فبدّلوا حضارتها وسياستها. وهناك نماذج من السياسيين الذين يلتزمون الخط الاستعماري في سياستهم، وينفتحون على "إسرائيل" وعلى غير "إسرائيل" من أعداء أمتنا، ويركّزون قواعد الحكم الظالم.. وهم يقيمون مجالس عاشوراء بطريقة احتفالية مأساوية، ويشترطون على قارىء التعزية أن لا يبتعد عن المصيبة. وهكذا نجد نماذج كثيرة من الناس، سواء كانوا من الشخصيات الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية الموجودة في المجتمع، تُنكِر على القارىء أن يتحدّث عن الثورة بطريقة تواجه السياسة القائمة، أو تواجه الأوضاع السياسية الدولية أو الإقليمية التي تنعكس سلباً على واقع الناس. لأنّ عاشوراء مناسبة دينية ـ حسب رأيهم ـ فعلينا أن لا نُسيء إليها بالسياسة. وينزعجون إذا وقف إنسان ليتحدث عن عاشوراء ـ الثورة، وعن عاشوراء ـ الخط، وعن عاشوراء ـ الهدف، وعن عاشوراء التي تتحدى كل جيلٍ لتقول له أمام كربلاء: أين أنت؟ أين موقعك؟، وهل أنّ موقعك مع الحسين في أفكاره وفي طروحاته، وفي شعاراته، أو أنك مع يزيد في أفكاره وفي أطماعه، وفي خطوطه العملية؟


وهناك نموذج يرى أن عاشوراء في مجملها، حركة سياسية. فما الذي يميّز الحركة السياسية عن النشاط العادي، أو كيف تصنف الحركة بأنها حركة سياسية؟ إن الحكم على حركةٍ ما بأنها حركة سياسية أو غير سياسية يتحدد بقدر ما تنطلق هذه الحركة لتضع في واجهتها مسألة تغيير الحكم والواقع، ولتتحرّك على أساس أن يكون الخط العام للمجتمع هو خط العدل، بحيث يتحرّك المجتمع ليسقط خطّ الظلم. لو دُرِسَت كل الحركات السياسية في العالم، فإن ما يمكن استنتاجه هو أن الحركة السياسية هي الحركة التي تنطلق على أساس تغيير الواقع من موقع الحاكم والحكم والقانون والمنهج.


وعلى هذا الأساس، فإن الحسين(ع) كان يتحرك سياسياً ويرفض مبايعة يزيد، لأن يزيد لم يكن بمستوى الحاكم الإسلامي الذي يتمتع بمواصفات الحاكم العادل، فكأنّ الإمام الحسين(ع) يريد أن يقول للناس: إنّ عليكم أن ترفضوا أيّ حاكم لا يتمتع بهذه المواصفات، لأن الحاكم المسلم لا بد أن يشتمل على مواصفات الالتزام الكامل بأحكام الشرع الإسلامي. فحاكم المسلمين هو الذي يجسّد الشريعة، لأنه الأمين على تطبيقها. وهو الذي يجسد الإسلام، لأنه الأمين على تطبيقه. ولذلك فإن الحسين(ع) كان يطرح مسألة الحاكم، وكأنه يريد أن يقول للمسلمين في زمانه وللمسلمين بعد زمانه: حدّقوا في الحاكم.. كيف هو وكيف سلوكه؟ وما غاياته وأهدافه؟ انظروا إلى الحاكم، لأن الحاكم هو الرمز لانطلاقة الأمة في خطّ الصعود.


ولو توقفنا عند ما طرحه الإمام الحسين(ع) من شعارات في مواجهته للحكم الأموي في شخص يزيد، لرأينا تأكيده على أن هذا الحكم قد عطّل حدود الله، وعطّل القانون الإسلامي، كما استأثر بالفيء وبمال المسلمين، وأصبح مالاً شخصياً له ولأعوانه. وبعد ذلك


أحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، ولزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وانحرفوا عن الخط، ما يجعلنا نتساءل عن الشعارات التي طرحها الإمام الحسين(ع)، فهل تُعد شعارات سياسية أم لا؟


من شعـارات كربـلاء:


إن من بين شعارات كربلاء التي رفعها الإمام الحسين(ع):


"ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد تركني بين اثنتين بين السلّة والذلّة، وهيهات له ذلك، هيهات منّا الذلة، أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طهرت وحجور طابت، أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام".


"لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد".


عندما تواجه الحكم الذي يريد أن يفرض عليك أن تعطي بيدك إعطاء الذليل وتقرّ إقرار العبيد. فإنك تطلق هذا كشعار سياسي، وإلا ما هي السياسة إذا كانت غير ذلك؟


إنّ قيمة حركة الإمام الحسين(ع) في عاشوراء أنها تتحرّك في كلّ مواقعها، في ما تستقبل من التاريخ، من أجل أن تحرّك الموقف السياسي في مواجهة الحكم الجائر، والحاكم الجائر، والانحراف عن الخط في كل زمان ومكان.. وعندما نقول عن عاشوراء إنها حركة سياسية، فإننا لا نريد أن نرفع عنها الصفة الدينية، بل نريد أن نؤكِّد هذه الصفة، فمن قال لكم: إن الصفة الدينية لأية حركة تعني حيادها عن الجانب السياسي؟!


ديننـا سياسة، وسياستنا ديـن:


إنّ الدين الذي يجعل الإنسان يتحمّل المسؤولية أمام الله، هو الدين الذي يدفع بك لتعيش الحياة بكامل أبعادها، ولتتحمّل مسؤولية الحياة على أساس التجربة. الدين حركة سياسية في كلّ واقع تريد الأمة أن تنطلق من خلاله لترتفع إلى أعلى الدرجات. وكما قال بعض العلماء: "ديننا سياسة وسياستنا دين" لا فصل لدينا بين الدين والسياسة. إنك عندما تمارس السياسة، فأنت تمارسها من موقع مسؤوليتك أمام الله في إقامة العدل وفي إسقاط الظلم. وعندما تنطلق في دينك، فإنك تنطلق فيه لتنفِّذ ما أراده الله منك.


لنقرأ هذه الآية من سورة الحديد: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" [الحديد:25] والقسط هنا كناية عن العدل. فالله سبحانه وتعالى يقول: لقد أرسلنا كل الأنبياء من آدم(ع) إلى محمد(ص) وأرسلناهم بالبيّنات التي تؤكد نبوة كل نبي، وأنزلنا معهم الكتاب: صحف إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. وأنزلنا معهم الميزان الذي يميّز بين الحق والباطل، أي يفصل بين الحق والباطل ويزن الأمور بموازين دقيقة.


لماذا أرسلنا الرسل؟


من أجل إقامة العدل في الحياة، فما يلخِّص رسالات الأنبياء كلها هو إقامة العدل، كل دين جاء لإقامة العدل في الكون {ليقوم الناس بالقسط}، يعني بالعدل. وهنا نطرح سؤالاً آخر: عندما نريد أن نفرض العدل في المجتمع، هل يمكن أن نفرض العدل ونطبِّقه بدون عمل سياسي؟ هل يمكن أن نحقِّق برنامج العدل في مواقع الحياة الفردية والاجتماعية كلّها، بدون أن نتحرّك سياسياً لنطالب بالعدل، ولنثور على الذي يأباه، ولنخطِّط له في كلّ مجالات الحياة؟ هل يمكن أن نحصل على عدل بدون ممارسة السياسة؟ قد يكون الحاكم عادلاً أو جائراً. فإذا أراد الله للناس أن يقوموا بالقسط، فهل يمكن أن يقوم الناس بالقسط إذا كان الحاكم ظالماً؟ هل يمكن أن يقوم الناس بالقسط إذا كان القانون ظالماً؟


وهل يمكن أن يقوم الناس بالقسط إذا خضع الناس للظالمين من القوى الكبرى؟


إذاً لنحقِّق إرادة الله في الرسالات. وحتى يقوم الناس بالقسط، فلا بدّ أن يكون لنا موقف سياسي، وحركة سياسيّة نتّقي فيها الله، ونتحرّك فيها على أساس حدود الله، لنحقق ما أراده الله. وعند ذلك، تتحرّك السياسة في خط الدين من خلال خط التقوى، ويتحرّك الدين في خط السياسة من خلال خطّ المسؤولية.


وعلى هذا الأساس، لا بدّ أن نعي المسألة السياسية في المسألة الكربلائية الحسينية، ونعتبر الإمام الحسين(ع) ـ بالإضافة إلى كونه سيد شباب أهل الجنّة وريحانة رسول الله ـ إماماً وقائداً إسلامياً انطلق من أجل تأكيد القيادة في الواقع الإسلامي على خط العدل وعلى خطّ الإسلام، حتى كان عنوان حركته قوله: أرى دمي رخيصاً أمام قضية العدل وقضية الإسلام.


كربـلاء.. نهج وشرعيـة..


إنّ حركة الحسين هي نهجٌ لحركتنا وشرعية للحركة الإسلامية، في الحديث الشريف "من أصبح وأمسى ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم" ما معنى و"لم يهتم"؟


هناك اهتمام قلبي بأن تعيش الهمّ في قلبك، واهتمام عقلي بأن تفكِّر في عقلك كيف يمكن لك أن تنقذ المسلمين من أمورهم المعقّدة والصعبة، واهتمام حركي عملي وهو أن تفكِّر كيف يمكن لك أن تتحرّك حتى تنقِذ قضايا المسلمين وأمورهم؟


هذا في الجانب السلبي، وفي الجانب الإيجابي نقرأ الحديث المعروف عن رسول الله(ص): "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائره بالسهر والحمى". هذه نظرية إسلامية تريد أن توصل الحالة الشعورية في الواقع الإسلامي إلى المدى الذي يختزن كل مسلم في داخله مفهوم الأمة ـ الجسد الواحد ـ وأن يعتبر واقع الأمة من الناحية الشعورية كواقع الجسد. فكما أن أعضاء الجسد لا يمكن أن تنام إذا ما كان أحد الأعضاء متألماً، فلا بدّ أن نتألم كذلك إذا ما تألّم أي شعب في أي منطقة إسلامية من العالم.


عندما نؤكّد أن عاشوراء حركة سياسية إسلامية، فإننا نؤكد معناها الديني في ما هو المعنى المنفتح على الحياة كلها؛ ونؤكّد على أن الحسين(ع) في الوقت الذي يمثّل الإمامة بمعناها الديني الروحي العبادي، فهو ينفتح من موقع إمامته على كل المعاني السياسية في الواقع، والإمامة هي حركة في معنى الحكم وفي معنى القيادة.


الإمامة ليست حالة منغلقة بعيدة عن التحدّي وعن الضوضاء، ولولا ذلك لما واجه أهل البيت (عليهم السلام) التحدّيات والنكبات العظام.


إن حكاية أن الدين يبتعد عن السياسة، جعلت السياسة في يد الذين يواجهون الإسلام وجهاً لوجه بفكر الإلحاد، وجعلت السياسة في يد الخائنين والفاسقين والظالمين، لقد آن الأوان لتكون السياسة في يد العادلين المتّقين الواعين، حتى نستطيع أن نغيّر الواقع على كلمة الله.


إنّ كربلاء ليست منطقة في العراق، ولكنها ساحة من ساحات الجهاد. والحسين ليس شخصاً في التاريخ، ولكنّه كل قائد ينطلق من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى.


 مقتطفات من كتاب:"من وحي عاشوراء"

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع