شارك هذا الموضوع

إطلالة.. على واقعة المباهلة - 24 ذي الحجّة

بسم الله الرحمن الرحيم
« فمَنْ حاجَّك فيهِ مِن بعدِ ماجاءَكَ مِن العِلْمِ فَقُلْ تعالَوا نَدْعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفسَنا وأنفسَكم ثُمّ نَبتَهِلْ فنَجعلْ لعنةَ اللهِ على الكاذبين ».


بعد أن أورد الله تعالى جملةً من قصص عيسى عليه السّلام في سورة آل عمران، وذكر أنّ مولده ـ وإن كان على غرابة ـ لكنّه كان أمراً متصوَّراً وعاديّاً وميسوراً بالنسبة إلى قدرة الخالق ومشيئته، وهو جلّ وعلا الذي خلق هذا الكون العظيم، وخلَقَ الإنسانَ ولم يكن شيئاً مذكورا.. ثمّ كان قدرته عزّوجلّ أن خلَقَ عيسى عليه السّلام مِن غير أب، فلا داعي للشكّ والارتياب، وإنّما عيسى عبدٌ لله بارئهِ، فلا يحقّ تأليهُه مِن دون الله جلّ وعلا.


هذه هي الحقيقة.. وقد أمر الله سبحانه في آياتٍ رسوله الكريم صلّى الله عليه وآله بدفع عناد المعاندين وإبطال الدعاوى الواهمة وحسم كلّ إصرار على الغيّ والضلال، من خلال المباهلة، فنزلت الآية الكريمة.


التفسير
« فمَن حاجَّك فيه »: قيل: أي في عيسى عليه السّلام، أو في الحقّ المذكور في الآية السابقة: « الحقُّ مِن ربِّك فلا تكنْ مِن المُمْتَرين »، وسابقتها: « إنّ مَثَلَ عيسى عندَ اللهِ كَمَثَلِ آدمَ خَلَقَه مِن تُرابٍ ثمّ قالَ له كنْ فيكون.


والمحاجّة: هي تبادل الاحتجاج، وفي هذا المقام هي مع النصارى في شأن عيسى بن مريم عليهما السّلام وقد زعموا أنّه إلهٌ أو ابن الله! « مِن بعدِ ما جاءَك مِن العِلم » الآية في هذه العبارة الشريفة تطيّب نفس الرسول صلّى الله عليه وآله بأنّه على العلم المطابق للحقّ اليقين، وفيها وعد من الله عزّوجلّ ناصره، وإرشاد إلى ما عنده من العلم الذي لا ارتياب فيه، إذ هو مطابق للواقع ويقبله العقل السليم.


« فقُلْ تعالَوا نَدْع أبناءَنا وأبناءَكم.. » تعالَ: فعل أمرٍ يدلّ على طلب الإقبال، أي اقبلوا بثبات وعزيمة. والخطاب موجَّه إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله بالمحاجّة؛ لقطع كلّ عذر، ودفع كلّ ضلالة. والتباهل إلى الله تعالى يُراد بها معرفة المحقّ من المبطل، وهو أمر لابدّ منه لحفظ الحقّ من الضياع والتشويه، ولإتمام الحجّة على العباد، وإلحاق الخزي بالمبطل المضلِّل ليكفّ عن تضليله وإغوائه للآخرين.


والمباهلة ـ وإن كانت بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وبين النصارى ـ إلاّ أنّها عُمّمت لتشمل مَن ذُكر من الأبناء والنساء والأنفس.. وقد أجمع المفسّرون أنّ الذين خرج بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله ليباهل بهم نصارى نجران هم: الحسن والحسين عليهما السّلام ـ فهُم الأنباء إذن، وفاطمة الزهراء عليها السّلام فهي المقصودة بالنساء لا غيرها، والإمام عليّ عليه السّلام ـ فيكون هو نفس النبيّ صلّى الله عليه وآله لا محالة.


« وأنفسَنا وأنفسَكم » المقصود بها نفسُ رسول الله صلّى الله عليه وآله القائم بالدعوة إلى الله تعالى، وقد دعا ابن عمّه عليّاً سلام الله عليه كما في النصوص والإجماع أنّه نفسه في العلم والعمل والقضاء بالحقّ، وهو أقرب الناس إليه، وأعزّهم عليه، وقد صرح رسول الله صلّى الله عليه وآله في وقت مبكّر من دعوته إلى الإسلام ـ كما في حديث الدار وغيره، وبعد نزول آية الإنذار « وأنْذِرْ عشيرتَك الأقربين ـ أنّ عليّاً عليه السّلام وصيّه ووزيره وخليفته من بعده.


« ثمّ نَبتهِلْ » أي نلتعن، فندعو اللهَ على الظالمين، ويدعو بعضنا على بعض. ويختصّ هذا الدعاء في المقام باللعنة، بقرينه قوله تعالى: « فنَجعَلْ لعنةَ اللهِ على الكاذبين » بيان للابتهال، والمراد من اللعنة النكال والعذاب مطلقاً، ومنه البعد عن رحمته تعالى. والمراد بالكاذبين هم الذين كذبوا وافتعلوا الباطل في شأن عيسى عليه السّلام.


اشارات.. ودلالات
• يدلّ قوله تعالى: « فمَن جاجّك فيه مِن بعدِ ما جاءَك مِن العلم » أنّ ما أُوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله هو العلم الحقّ الذي يلزم قبوله ويخضع له كلّ عقل سليم، وأنّ غيره مجرّد ظنّ.


• يدلّ قوله تعالى: « فنجعلْ لعنةَ اللهِ على الكاذبين » أنّ اللعنةَ مقرّرة وأمرٌ مفروغ منه، وبها يمتاز الحقّ عن الباطل.


• تدلّ آية المباهلة على الفضل العظيم والمنزلة الكبرى والمنقبة العظمى لأهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله من وجوه عديدة، منها: اختصاصهم صلوات الله عليهم باسم النفس والنساء والأبناء لرسول الله صلّى الله عليه وآله دون سائر الأمّة ونساءً وأبناءً. ومنها دلالة الآية الشريفة على أنّ مع الرسول صلّى الله عليه وآله شركاءَ في الدعوة والدعاء والصدق وهؤلاء هم أقرب الخلْق إلى الله تعالى وإليه.


• وتدلّ آية المباهلة أيضاً أنّ إتيان رسول الله صلّى الله عليه وآله لأهل بيته وخاصّته وحامّته في المباهلة، لأنّه واثقٌ بالله تعالى من غلبته وسلامته واستجابة دعائه.


• وقد ذكر سبحانه وتعالى النساء في آية المباهلة، مع أنّ بناء القرآن على الكناية عنهنّ والتحفّظ عليهنّ مهما أمكن؛ لأمور:
منها، الإعلام باشتراك النساء في أمور الدين أُصولاً وفروعاً، إلاّ ما خرج بالدليل الشرعيّ، إذ لاحقّ لهنّ فيه.


ومنها، جعلُهنّ في سياق المتديّنين بتعلّمهنّ الأعمالَ الصالحة وتلبّسهنّ بالمعارف الحقة، وغير ذلك من الصفات الحسنة.


• وقد أخّر سبحانه وتعالى « أنْفُسَنا » وذكَرَها بعد تفدية الأبناء والنساء؛ لبيان أهميّة المباهلة والتفدية لله جلّت عظمته، ولإثبات الحقّ وإظهاره بتفدية جميع العلائق، حتّى أقرب المقرّبين من الأهل.


• ويستفاد من الآية المباركة.. المنزلة الجليلة والمنقبة العظيمة لأمير المؤمنين عليه السّلام، فقد عبّرت عنه آيةُ المباهلة بـ « أنفسَنا »، كما عبّر رسول الله صلّى الله عليه وآله في مواطن كثيرة عنه بأنّه نفسه، أو أنّه منه.


روى المتقي الهنديّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ذكر أناساً، فقيل: يا رسول الله، فأين عليّ ؟ فالتفت إلى أصحابه فقال: إنّ هذا يسألني عن النفس.


وغضب رسول الله صلّى الله عليه وآله على من ارتدّوا، فقال: لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلاً هو عندي كنفسي، يقاتل مقاتلكم.. ثمّ ضرب بيده على كتف عليٍّ عليه السّلام.


الرواية
• عن ابن سنان، عن أبي عبدالله الإمام جعفر الصادق عليه السّلام، أنّ نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكان سيّدهم: الأهتم، والعاقب، والسيّد. وحضرت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلَّوا... فلمّا فرغوا دنَوا من رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالوا: إلى ما تدعونا ؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّي رسول الله، وأنّ عيسى عبدٌ مخلوق يأكل ويشرب ويحدث.


قالوا: فمَن أبوه؟
فنزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: قل لهم: ما تقولون في آدم؛ أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويحدث وينكح ؟ فسألهم النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقالوا: نعم، فقال: فمَن أبوه ؟ فبُهِتوا! فأنزل الله: « إنّ مَثَلَ عيسى عند اللهِ كَمَثَلِ آدم خَلَقه مِن تُراب.. ».


أمّا قوله: « فمَن حاجّك فيه مِن بعدِ ما جاءَك من العلم... فنَجعَلْ لعنةَ اللهِ على الكاذبين » فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: فباهِلوني، فإن كنت صادقاً أُنزلت اللعنة عليكم، وإن كنت كاذباً أُنزلت علَيّ، فقالوا: أنصفت.


فتواعدوا للمباهلة، فلمّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم السيد والعاقب والأهم: إن باهَلَنا بقومه باهُلْناه، فإنه ليس بنبيّ.. وإن باهَلَنا بأهل بيته خاصّةً فلا نُباهِلُه؛ فإنّه لا يقدم على أهل بيته إلاّ وهو صادق. فلمّا أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فقال النصارى: مَن هؤلاء ؟ فقيل لهم: إنّ هذا ابن عمّه ووصيه وختنه عليّ بن أبي طالب، وهذه ابنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين.


فَفرَقوا وقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله: نعطيك الرضى فاعفِنا عن المباهلة. فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وآله على الجزية وانصرفوا.


• وفي رواية أخرى له عليه السّلام: فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله، فأخذ بيد عليٍّ والحسن والحسين وفاطمة، ثمّ خرج، ورفع كفّه إلى السماء وفرّج بين أصابعهم، ودعاهم إلى المباهلة.


قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: وكذلك المباهلة يشبّك يده في يده ثمّ يرفعها الى السماء.


• وفي رواية الزمخشريّ: لمّا دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتّى نرجع وننظر ونأتيك غداًُ. فلمّا تخالَوا قالوا للعاقب ـ وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما ترى ؟ قال: والله لقد عرفتم ـ يا معشر النصارى ـ أنّ محمّد نبيّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، واللهِ ما باهل قوم نبيّاً قطّ فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكنّ، فإن أبيتم إلاّ إلْفَ دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.


فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقد غدا محتضناً الحسين آخِذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها، وهو يقول إذا دعوتُ فأمِّنوا.


فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إنّي لأرى وجوهاً.. لو شاء اللهُ أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها! فلا تُباهلوا فتَهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة! فقالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نُباهلَك، وأن نُقرّك على دينك ونَثْبتَ على ديننا، فقال: فإن أبيتمُ المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم. فأبوا... فصالحهم.


في الختام
يظهر من الروايات أنّ المباهلة كانت جاريةً في الأمم السابقة أيضاً، فقد قال الأسقف عند المباهلة: جثا ـ واللهِ ـ محمّدٌ كما يجثوا الأنبياء للمباهلة!.


ويظهر أنّ للمباهلة شرائط خاصة، منها ما ذكره الإمام الباقر عليه السّلام في قوله: الساعة التي تُباهِلُ فيها ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.


وقد ذكر الطريحيّ أنّ صفة المباهلة أنْ تشتبك أصابعك في أصابع مَن تباهله وتقول: اللهمّ ربَّ السماوات السبع، والأرضين السبع، وربَّ العرشِ العظيم، إنْ كان ( فلانٌ ) جَحَدَ الحقَّ وكفَرَ به، فأنْزِل عليه حُسباناً من السماء وعذاباً أليماً.


وفي مباهلة رسول الله صلّى الله عليه وآله وردت عشرات الأخبار، وقد ذكرتْها كتب التفسير والحديث والتاريخ والسيرة، أشار إلى ذلك الشيخ المجلسيّ في كتابه ( بحار الأنوار 276:21 ـ 356 / باب المباهلة وما ظهر فيها من الدلائل والمعجزات ) وفيها فضائل أهل البيت عليهم السّلام وأفضليّتهم على جميع الأُمّة، كما يدلّ على ذلك العقل والنقل.


وقد وقعت المباهلة في الرابع والعشرين من ذي الحجّة، فيكون هذا اليوم بمثابة عيدٍ للمسلمين، يفتخرون به كإحدى مناسبات النصر المعنويّ والرساليّ، وكأحد المواقع التي ظهر فيها الحقّ جليّاً ومؤيّداً للدين الإسلاميّ الحنيف.. ولم تخلُ المناسبة من دلائل صدق وإشارات حقّ إلى فضائل محمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم.


لذا، نبارك لجميع المؤمنين بذكرى هذه الواقعة، ونتمنّى لهم مزيداً من التوفيقات في مجالات العقيدة والفكر والعمل الصالح والمواقف الولائيّة الباصرة.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع