شارك هذا الموضوع

بيان سماحة ولي أمر المسلمين آية الله العظمى الحاج السيد علي الحسيني الخامنئي دام ظله

بسم الله الرحمن الرحيم
(يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به، يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) .


مرة أخرى، وصل مجيبو الدعوة الإلهية إلى بيت الحبيب ملبين مهرولين.. فقد أتى موسم الحج ليفسح رحاب الشوق والجوى بوجه متيّمي الخلوص والمعنوية . وها هو بيت الله ماثل أمامكم وهو قبلة القلوب. وقد أصبحت ربوع عرفات والمشعر مهيّأة ليتدفق منها نبع الذكر والمعرفة. ورحاب منى والصفا تعلّم السعي والعمل تقرباً إلى المولى كما تعلّم رمي الشيطان. وها هي فرصة مؤاتية لبناء الذات والاستقاء من هذا الشلال المنهمر بزلال التوحيد والوحدة,. فكرّسوا في قلوبكم التلبية التي أجريتموها على ألسنتكم في بداية الإحرام .


وها انتم قد قصدتم حرم الحبيب مجيبين دعوته، فكلّلوا هذه الدعوة الربانية بالمزيد من المغانم والمنافع من خلال التأمل في مغزى الحج والهدف منه .


إن فريضة الحج –إذا ما تمت عن معرفة ووعي- تفيض بالبركة على الحجاج المسلمين وعلى أمتهم الإسلامية الكبرى، فتسوق الحاجّ إلى النقاء والطهر والمعنوية، وتقرّب الأمة إلى الوحدة والعزّ والاقتدار .


إن الخطوة الأولى التي لابد منها تتمثل في تكوين الذات. فكل ما في الحج من إحرام وطواف وصلوة ووقوف في المشعر وعرفات ومنى بما فيها من ذبح ورمي وحلق، ليس إلا تجسيداً لخشوع الإنسان وخضوعه، أما الله سبحانه وفي رحاب ذكره والتضرع إليه والتقرب منه. فلا ينبغي المرور بهذه المناسك المفعمة بالمعاني العميقة بإهمال وغفلة . على زائر رحاب الحج أن يعتبر نفسه في محضر الحق سبحانه وتعالى خلال جميع هذه المناسك. وان يشعر –وهو في زحام الحشود الغفيرة- بأنه ملاق الحبيب وحيداً، ليناجيه ويسأله حاجاته ويشد قلبه به، ويبعد من قلبه الشيطان والهوى، ويزيل من وجوده صدأ الجشع والحسد والجبن والشهوات، شاكراً ربه على هدايته ونعمته، مروّضاً قلبه على المجاهدة في سبيل الله، مالئاً إياه بمحبة المؤمنين والبراءة من أعداء الحق المعاندين، عاقداً عزمه على إصلاح نفسه وإصلاح العالم المحيط به، معاهداً ربه على إعمار دنياه وان الحج يمثل حركة جماعية في الوقت نفسه. وان الدعوة الإلهية إلى الحج هي من اجل أن يجد المؤمنون أنفسهم مجتمعين مع البعض، ليشاهدوا بأم أعينهم تجسيداً حياً لوحدة المسلمين .


إن الحج يهدف إلى التقرب إلى الله والبراءة من شياطين الإنس والجن بشكل مجموعي، وهو عملية تدريبية لتحقيق الوحدة والتلاحم بين الأمة الإسلامية .


فلم يسبق لأبناء الأمة الإسلامية أن يكونوا يوماً بحاجة إلى بلورة هذه الإخوة فيما بينهم والبراءة من المشركين والمستكبرين كما هم يحتاجون اليوم إلى ذلك .


لقد فرض على العالم الإسلامي حصار علمي واقتصادي وإعلامي وأخيراَ عسكري. فقد أدى احتلال القدس وفلسطين إلى احتلال العراق وأفغانستان، وقد عكف اليوم الأخطبوط الصهيوني والاستكبار الأمريكي الوقح البغيض، على التآمر والتخطيط لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كلها والعالم الإسلامي بأسره. مستهدفين بحقدهم ونقمتهم حركة الصحوة الإسلامية التي بعثت اليوم حياة جديدة في جسد امة الإسلام .


لقد توصل الأمريكان ومعهم الغرب المستكبر –اليوم- إلى القناعة بان الدول الإسلامية وشعوبها عموماً ومنطقة الشرق الأوسط بوجه خاص تشكل ساحة الصحوة والصمود أمام تطبيق خطتهم الرامية إلى فرض سيادتهم على العالم كافة. وإنهم لم يتمكنوا من احتواء حركة الصحوة الإسلامية وقمعها في غضون بضع سنوات قادمة من خلال الاستعانة بالوسائل الاقتصادية والسياسية والإعلامية وأخيراً العسكرية، فعندئذ ستفشل جميع مخططاتهم وحساباتهم لفرض سيادتهم المطلقة على العالم والسيطرة على أهم مصادر البترول والغاز باعتبارها المادة الوحيدة التي تحرك عجلة صناعاتهم وتضمن تفوقهم المادي على البشرية جمعاء. مما يؤدي إلى الإطاحة بعمالقة الرأسمالية الغربية –الصهيونية- الذين يديرون جميع الدول المستكبرة من وراء الكواليس وإسقاطهم من ذروة اقتدارهم المفروض .


لقد نزل الاستكبار إلى الساحة بكل ما أوتي من حول وقوة وخيل ورجل، ليخوض الصراع المصيري في كل موقع بما تتطلبه الظروف.. ويمارس هنا ضغوطاً سياسية وهناك تهديدات اقتصادية، ويستعين هناك بأساليب إعلامية، وفي مواقع أخرى –كالعراق وأفغانستان وقبلهما فلسطين والقدس- يهاجم بالقنابل والصواريخ والدبابات والجنود المجندة .


واهم وسيلة يستخدمها هؤلاء الوحوش آكلة البشر، تتمثل في قناع الخداع والنفاق الذي يتسترون وراءه. فإنهم يجهزون الفرق الإرهابية ويطلقونها لتفتك بحياة الأبرياء، ويتشدقون في نفس الوقت بمكافحتهم للإرهاب .


يدعمون علناً الحكومة الإرهابية الجزارة الغاصبة لأرض فلسطين، أما المناضل الفلسطيني الذي لا خيار أمامه إلا الدفاع عن أرضه وقد طفح صبره، فيسمونه إرهابياً. ينتجون أسلحة الدمار الشامل بأنواعها النووية و الكيماوية والجرثومية ويوزعونها ويستخدمونها، فيخلقون مآسي من قبيل ما شهدته هيروشيما و حلبجة والخطوط الدفاعية الإيرانية على جبهات الحرب المفروضة، ثم يرفعون شعار الحد من أسلحة الدمار الشامل! يتبجحون بمكافحة المخدرات، بينما هم أنفسهم وراء مافيا المخدرات القذرة. يقدمون تمثيلية النهوض بالعلم وعولمة العلم، ثم يقفون بوجه التقدم العلمي والتقني في العالم الإسلامي، ويعتبرون توفر التقنية النووية السلمية في الدول الإسلامية ذنباً لا يغفر .


يتحدثون عن حرية الأقليات وحقوقها، وهم يحرمون الفتيات المسلمات من حقهن في الدراسة والتعلم لا لذنب الا لالتزامهن بالحجاب الإسلامي. يتشدقون بالكلام عن حرية التعبير والرأي، لكنهم يعتبرون إبداء الرأي حول الصهيونية جريمة يعاقب عليها، كما لا يسمحون بنشر كثير من المؤلفات والنتاج الفكري الإسلامي البارز بما فيها الوثائق التي عثر عليها وفي وكر التجسس الأمريكي في طهران. يتحدثون كثيراً عن حقوق الإنسان، وهم يقيمون عشرات من مخيمات التعذيب على غرار غوانتانامو وأبي غريب، أو يلزمون صمتاً يعبر عن الرضا أمام مثل هذه المآسي التي قل نظيرها. وأخيراً وليس آخراً، يتحدثون عن احترام جميع الأديان، بينما يقومون بالدفاع عن مرتدّ مهدور الدم كسلمان رشدي، كما يبثون من الإذاعة الحكومية البريطانية عبارات تجديفية مهينة ضد المقدسات الإسلامية .


إن التجرؤ الأرعن الذي أبداه قادة أمريكا وبريطانيا، قد خرق براقع الخداع والنفاق التي كانت تغطي وجوههم، فمزقها. فهؤلاء المستكبرون قد ملأوا بأيديهم قلوب الشعوب المسلمة وشبابها بالكره والاستياء تجاههم. حيث إن الشعوب ستصوت ضد أي اتجاه تريده أمريكا وبريطانيا في أي انتخابات حرة تجري في الدول الإسلامية .


وها هي الانتخابات العراقية أمامنا. وهدف الشعب العراقي وقادته الحقيقيين من الانتخابات، هو عكس هدف المحتلين منها. إذ إن أبناء الشعب العراقي وقادتهم يتطلعون إلى الانتخابات بهدف إقامة حكم شعبي منبثق من إرادة الشعب من اجل عراق مستقل موحد حر. ومن المفروض عندهم أن تضع الانتخابات نهاية للاحتلال العسكري والسيطرة السياسية الأمريكية –البريطانية، وان تؤدي إلى إنهاء الوجود الصهيوني المثير للفتنة الذي امتد بنفسه إلى شواطئ الفرات تحت ظل السلاح الأمريكي، بغية انتزاع ناقص لأضغاث أحلامه الممتدة (من النيل إلى الفرات). كما أن أي حالة من الجفوة الطائفية أو الإثنية –وهي في الغالب حصيلة خبث الأعداء المشتركين للجميع- يجب أن تتحول في ظل الانتخابات إلى الأخوة والوحدة .


إلا أن أوهام المحتلين ترسم للانتخابات هدفاً آخر. فإنهم يريدون أن يستغلوا عنوان الانتخابات الشعبية ليسلطوا عبرها على رقاب الناس عملاء الاحتلال الأذلاء، المنقادين له بسبب انتماء غالبيتهم إلى حزب البعث. إنهم يريدون أن يرفعوا عن كاهلهم نفقات وجودهم العسكري، ليعوضوا عن كل ما أنفقوه بما يدفعه عملاؤهم من جيب العراقيين ونفطهم . إنهم يريدون تكريس الاستعمار في شكله الجديد تماماً في الأرض العراقية. فمن خلال هذا الاستعمار وهو على طراز ما بعد الحداثة، لا يجري تعيين عملاء الأجانب في المناصب من قبل المستعمرين مباشرة مثلما كان الأمر في السابق، وإنما يجري الأمر عبر انتخابات تهمش فيها أصوات المواطنين بعمليات تزوير وبخدع معروفة، ليأتي من خلالها إلى السلطة أشخاص معينون تحت عنوان منتخبي المواطنين. وبهذا، يبدو الأمر في ظاهره وعنوانه ديمقراطياً بينما يبقى في باطنه وجوهره نمطاً من الحكم الأجنبي المطلق الذي يفرض نفسه على الشعب المظلوم .


هناك خطران كبيران يهددان اليوم الانتخابات في العراق: الأول يتمثل في عمليات التزوير والعبث بأصوات المواطنين وهذا ما يتميز الأمريكان بالمهارة فيه خاصة. فإذا تمكن العراقيون بنخبهم وشبابهم السياسي المثقف وبعزيمتهم وعملهم الحثيث ليل نهار، من الحؤول دون وقوع هذا التزوير، و جاءوا بحكمهم الشعبي المنتخب إلى السلطة، عندئذ يأتي دور الخطر الثاني المتمثل في الانقلاب العسكري وتسليط دكتاتور آخر على مقدرات العراق .


إلا أن هذا الخطر أيضاً يمكن دفعه بفضل ما يتمتع به الشعب العراقي المؤمن الغيور وقادته الحقيقيون الشرفاء، من ذكاء وشجاعة ووعي بالموقف . فعليهم أن يستعينوا بإيمانهم وشجاعتهم وتضامنهم الوطني إلى أقصى حد ممكن في التعامل مع هذه اللحظة التاريخية الخطيرة التي تقرر مصيرهم لعدة عقود قادمة، ليقوموا بإجراء انتخابات شاملة نزيهة رائعة، ويسهروا على صون نتائجها بكل ما في وسعهم. إن الخلافات بين الشيعة والسنة أو بين العرب والأكراد و التركمان، أو سائر النعرات الداعية إلى التفرقة، لا يؤجج أوارها إلا الأعداء. كما إن حالة أللا أمن التي تمثل تمهيداً لمجيء الدكتاتورية، يتم التخطيط لها والتشجيع عليها من قبل عناصر استخبارات العدو. فلاشك إن الذين يستهدفون أرواح المواطنين العراقيين والرموز العلمية- السياسية في العراق من خلال عمليات الاغتيال الإجرامية، لن يعتبروا في عداد المجاهدين في سبيل الاستقلال والعزة الإسلامية والذين يقارعون المحتلين الغاشمين .


أيها الأخوة والأخوات من الحجاج الكرام! أيتها الشعوب والحكومات الإسلامية !


لقد أصبح العالم الإسلامي اليوم وأكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى التلاحم والتعاطف فيما بينه والى التمسك بالقرآن الكريم. فانه تلاحظ من جهة عظمة الإمكانيات والطاقات المتاحة في العالم الإسلامي للتنمية وتحقيق العز والاقتدار، وظهورها اليوم للعيان أكثر من الماضي، كما أن استعادة مجد الأمة الإسلامية وعظمتها قد تحولت اليوم إلى دافع –ومطلب ملحّ- لدى الشبيبة والمثقفين في كل أرجاء العالم الإسلامي، كما أن شعارات المستكبرين المتسمة بالنفاق قد فقدت بريقها وانكشفت تدريجياً نواياهم الخبيثة للأمة الإسلامية. ويلاحظ من جهة أخرى إن ناهبي العالم الذين طالما يحلمون بفرض سيطرتهم على كل أرجاء المعمورة، صاروا يتوجسون خوفاً من صحوة الأمة الإسلامية ووحدتها، معتبرين هذه الصحوة والوحدة عقبة أمام تمرير مخططاتهم المدمرة، فيعملون على استباقها وتفاديها .


فاليوم، هو يوم تجسيد الأخوة عملياً في جميع المجالات وأمام كل الفتن. انه يوم الأعداد لحكومة سيدنا المهدي عجل الله فرجه الشريف، ويوم تلبية الدعوة الإلهية في كل الأمور. انه ليوم، يجب علينا أن نتلو فيه مرة أخرى على قلوبنا المقاطع القرآنية الكريمة : (إنما المؤمنون إخوة) و(لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً) و(أشداء على الكفار رحماء بينهم). علينا أن نشعر بالواجب الإلهي الملقى على عواتقنا وذلك سواء عند قصف النجف و الفلوجة والموصل بالقنابل، أو عند وقوع الزلزال البحري في المحيط الهندي الذي أصيب عشرات الآلاف من الأسر بفقد ذويهم، أو عند تعرض العراق وأفغانستان للاحتلال، أو أمام الأحداث الدامية المتكررة يومياً في فلسطين. إننا ندعو المسلمين إلى الوحدة.


وان هذه الوحدة المنشودة ليست ضد المسيحيين أو أتباع سائر الديانات أو أبناء الشعوب الأخرى، وإنما هي من اجل الوقوف بوجه المعتدين والمحتلين ومؤججي الحروب. وذلك عملاً على ترجمة الأخلاق والقيم المعنوية إلى واقع مطبق، وإحياء لعقلانية الإسلام وعدالته وتحقيقاً للتقدم العلمي والاقتصادي، واستعادة للعزة الإسلامية .


إننا نذكر العالم بان المسيحيين واليهود كانوا يعيشون في هدوء وأمن كاملين عندما كانت مدينة القدس بيد المسلمين إبان عهد الخلافة الراشدة. إلا أننا اليوم، وبعد أن وقعت القدس وسائر المناطق تحت سيطرة الصهيونية أو الصليبيين الصهاينة، فإنهم راحوا يستبيحون دماء المسلمين !


إنني لأدعو الحجاج الأعزاء إلى ملازمة الخشوع والذكر والإنابة وتلاوة القرآن مع التدبر فيه، والى المشاركة في صلوات الجماعة، والتعامل بالمحبة والرأفة مع حجاج سائر الدول، والابتعاد عن إضاعة الأوقات عبثاً .


أسأل المولى تعالى أن يمن عليكم بالتوفيق والعافية، وبقبول صالح أعمالكم، مناشداً الجميع الدعاء لسيدنا بقية الله الإمام المنتظر أرواحنا فداه، ولظهور حكومته، حكومة العدل الكونية العامرة بوجود تلك الذخيرة الإلهية .


والسلام عليه وعليكم ورحمة الله وبركاته .


علي الحسيني الخامنئي
7 ذي الحجة 1425

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع