ونحن نعيش ذكرى شهادة الإمام جعفر بن محمد الصادق "ع"، نحاول أن ننفتح على شيء من حياته، ومن سيرته، ومن عطائه لنتخذ من ذلك زادا يملأ حياتنا نورا وخيرا وهداية وبصيرة، فما خسر من كان زاده زادا من عطاءات آل محمد "ص" الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، والذين جعلهم الله سفن النجاة، وأدلاء على طريق الإيمان، فمن عرفهم فقد عرف الله، ومن جهلهم فقد جهل الله، ومن تولاهم فقد تولى الله، ومن عاداهم فقد عادى الله، ومن أحبهم فقد أحب الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله. .. اللهم ثبتنا على ولايتهم وبصرنا بمعرفتهم، وافتح قلوبنا على محبتهم، وخذ بأيدينا في طريق هدايتهم واملأ حياتنا بأنوار علومهم، يا خير المعطين.
الإمام الصادق يحاور كل التيارات
الهدف الكبير في حركة الأئمة من أهل البيت "ع" هو "الحفاظ على الإسلام والدفاع عن قيمه الأصيلة، وترشيد مسار الأمة في خط الرسالة، والتصدي لكل المحاولات التي تشكل خطرا على العقيدة وعلى نقاوة الدين، وعلى سلامة الشريعة، والعمل من أجل وحدة المسلمين وتلاحمهم وتماسكهم ومواجهة كل أسباب الخلاف والصراع والتمزق والعداوة والافتراق".
كانت للإمام الصادق "ع" حوارات متنوعة، إلا أنها جميعا تصب في اتجاه الهدف الكبير الذي يحكم حركة الأئمة مهما تعددت الأساليب والأدوار في حياة الأئمة "ع"... هذا التعدد والتنوع فرضته مجموعة عوامل، منها:
1- اختلاف الظروف الموضوعية التي تمر بها الرسالة.
2- اختلاف الظروف الموضوعية المتحركة حول الإمام نفسه.
3- اختلاف المستوى الذي تعيشه الأمة.
4- اختلاف الأهداف المرحلية.
وعلى رغم التنوع الذي فرضته هذه العوامل، فالهدف المركزي - الاستراتيجي - لحركة الأئمة "ع" هو "مصلحة الرسالة وحماية مسيرتها".
وبناء على ذلك، فقد نتج في حياة الأئمة نمطان من الأدوار:
النمط الأول: الأدوار المشتركة: وهي أدوار تحركت في كل المراحل، ولم تتجمد ضمن مرحلة واحدة.
ومن أمثلة هذه الأدوار:
- الترشيد الروحي، التحصين الفكري، الحفاظ على المسار التشريعي، التصدي للتيارات الطارئة التي تشكل خطرا على الرسالة والحفاظ على وحدة الأمة وتلاحمها.
النمط الثاني: الأدوار المتنوعة: وهنا يتميز كل موقف بخصوصياته المرحلية، فلكل مرحلة عناصرها ومفرداتها الخاصة بها، الأمر الذي يفرض أسلوبا عمليا من دون أي تفريط في الهدف، والضوابط والثوابت والقيم.
فالواقعية في معناها الأصيل لا تعني الاستسلام لمكونات الواقع بكل أخطائه وانحرافاته، وإنما تعني العمل على تغيير هذا الواقع، بأدوات تملك قدرة الحركة ومحكومة لضوابط الشريعة... وإذا عجزنا عن أن نغير هذا الواقع، فلا يبرر ذلك أن نساهم في تكريسه وتجذيره، كونه أصبح واقعا مفروضا لا خيار لنا في رفضه.
إن نظرية تطبيع المواقف مع الخيارات المفروضة من قبل مؤسسات السياسة أو من قبل ضغوط الأعراف الفاسدة نظرية في غاية الخطورة بما تنتجه من مصادرة للضوابط والثوابت والقيم، وبما تؤسسه من حال الانهزام والضغط والخنوع والسقوط أمام المواقع، وإن كان بوهم العمل على تغييره من خلال الولوج إلى داخله.
أعود إلى عنوان الحديث "الإمام الصادق يحاور كل التيارات". في عصر الإمام الصادق شهدت الساحة الإسلامية زخما كبيرا من التيارات متعددة الاتجاهات والنزعات والمنطلقات، فبرزت في الساحة تيارات لا دينية، وتيارات دينية منحرفة، وتيارات دينية ذات مناح اجتهادية مختلفة، ما أنتج الكثير من النظريات والفلسفات والمذاهب الفقهية.
وحاور الإمام الصادق كل هذه التيارات حوارا علميا هادفا، بروح لا تحمل التشنج والانفعال ولا تحمل التحجر والانغلاق، ولا تحمل الإقصاء والإلغاء.
- كانت للإمام الصادق حوارات مع الملحدين المنكرين لوجود الله.
- وكانت له حوارات مع المشككين في الدين والعقيدة.
- وكانت له حوارات مع أتباع الملل والديانات، كاليهود والنصارى والمجوس.
- وكانت له حوارات مع الفلاسفة وعلماء الطبيعة والطب والفلك فيما طرحوه من أفكار وآراء ونظريات.
- وله حوارات مع الغلاة والمفوضة والمجسمة والمتصوفة وأصحاب البدع والأهواء والانحرافات.
- وله حوارات مع أئمة المذاهب في قضايا العقيدة والفقه والتفسير ومختلف أمور الشريعة والدين.
لقد شكلت حوارات الإمام الصادق مع مختلف التيارات والاتجاهات والمذاهب نموذجا من أرقى النماذج في "الحوار الفكري والثقافي" وفي "الحوار الديني العقيدي" انفتح الإمام الصادق بكل شفافية على كل الأفكار والآراء والعقائد والمذاهب، استمع إليها بصبر ونفس طويل وحاورها بكل نزاهة وموضوعية، وبكل منهجية وعلمية، وجادلها بالتي هي أحسن استرشادا بقول الله تعالى: "وجادلهم بالتي هي أحسن" "النحل: 125".
وإذا كان الإمام الصادق اعتمد المرونة والشفافية والانفتاح في حواراته ومناظراته، فقد كان يملك القوة في الحجة، والصلابة في الموقف، والقناعة الواثقة التي لم تكن نتيجة هوى في الرأي، ولا طيشا في الفهم، وإنما هي البصيرة المعصومة، النهج الذي لا يضل والمسار الذي لا يتيه.
وأتناول هنا نموذجين من حوارات الإمام الصادق "ع":
النموذج الأول: حوار الإمام الصادق مع أبي شاكر الديصاني، أحد الملحدين المنكرين لوجود الله، كان مجلس الإمام مفتوحا لكل الناس على مختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم ومذاهبهم.
دخل أبوشاكر الديصاني - وكان منكرا لله رافضا للدين - مجلس الإمام ودار بينه وبين الإمام حوار عن "العقيدة والدين والإيمان بالله"، أصغى إليه الإمام بلا تشنج ولا انفعال، واستمع إليه وهو يطرح إشكالاته بشأن أقدس قضية، وهي قضية "الألوهية"، لم تستفزه هذه الإشكالات، وهنا درس كبير لكل العاملين في خط الدعوة إلى الله، ألا يتعقدوا من أي سؤال... في الحوار لا يوجد سؤال محرج، وفي الحوار لا توجد خطوط حمراء مادام هدف الحوار نظيفا ومادامت لغة الحوار نظيفة، ومادامت الظروف الموضوعية تسمح للسؤال أن ينطلق، وتسمح للجواب أن يتحرك.
نعم استمع الإمام الصادق إلى إشكالات الديصاني، وراح يحاصرها ويقارعها بالحجة والبرهان، ما اضطر هذا الرجل الملحد إلى أن يقول للإمام: يا جعفر بن محمد، دلني على معبودي. هكذا بدأ هذا الإنسان يقترب من الهداية. إنه كان يبحث عن الحقيقة ولم يكن معاندا، والفارق كبير جدا بين الباحث عن الحقيقة والإنسان المعاند الذي يصر على الضلال والغواية والانحراف، ويصر على الخطأ.
الباحث عن الحقيقة ربما يتيه به الطريق، ربما يضل، ينحرف... إلا أنه يبقى مشدودا إلى الدرب، يبقى مشدودا إلى النور، ومتى لامس عقله شيء من هذا النور، انفتح له، انجذب إليه، تعاطى معه... وأما المعاند فهو مغلوق العقل، مأسور إلى الهوى، تائه في طريق الغواية، لا تنفع معه حجة ولا برهان، لا يزداد من الحق إلا بعدا ونفورا. وتحدث القرآن عن هذا النمط من الناس في قوله تعالى: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون". "الأعراف: 179".
وفي قوله تعالى: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم" "البقرة: 6-7".
من الناس من لا يجدي معهم الحوار، ماداموا يعيشون التكلس والجمود والانغلاق والعناد والاستكبار، وهذه أسباب تجعل الحوار عقيما، وتجعل الحوار فاشلا وبلا جدوى، فالحوار الذي يبحث عن الحقيقة، ويحمل عقلا مفتوحا، وقلبا مفتوحا، هو حوار منتج وحوار هادف، وحوار يقود إلى الهدف...
في النموذج الذي طرحناه، كان الديصاني رجلا يبحث عن الحقيقة، فما أن أبصر بعض معالم الدرب إلى هذه الحقيقة، حتى سارع إلى القول "يا جعفر بن محمد دلني على معبودي".
فالتفت الإمام إلى غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها، فقال له الإمام: ناولني يا غلام البيضة، فناوله إياها...
فقال الإمام الصادق موجها كلامه إلى الديصاني: "يا ديصاني، هذا حصن مكنون، له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، تحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها، لا يخرج منها خارج مصلح، فيخبر عن إصلاحها، ولا يدخل إليها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها، لا يدرى للذكر خلقت أو للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مدبرا؟".
فأطرق الديصاني مليا ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنك إمام وحجة من الله على خلقه وأنا تائب مما كنت فيه...
النموذج الثاني: حوار الإمام الصادق مع الإمام أبي حنيفة عن "القياس في الدين" من العلامات البارزة في مدرسة الإمام الصادق وجود عدد من كبار أئمة الحديث والفقه المنتمين إلى مختلف الفرق والمذاهب ضمن رواد هذه المدرسة.
ومن هؤلاء:
1- الإمام أبوحنيفة - إمام المذهب الحنفي: فقد انقطع إلى مجلس الإمام الصادق طوال عامين قضاهما بالمدينة.
2- الإمام مالك بن أنس - إمام المذهب المالكي: وكان من رواد مجلس الإمام الصادق وممن نهلوا من علومه واستفادوا من دروسه.
3- سفيان الثوري: وهو أحد الأعلام الكبار ومن رؤساء المذاهب الفقهية التي لم يكتب لها الانتشار، وحضر مجلس الإمام الصادق واستفاد من علومه وروى حديثه.
قال ابن حجر في الصواعق المحرقة وهو يتحدث عن الإمام الصادق: "ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الكبار، كيحيى بن سعيد، ابن جريح، مالك، السفيانيين وأبي حنيفة.
وجاء في هوامش الصواعق: "وله - يعني الإمام الصادق "ع" - منزلة رفيعة في العلم، آخذ عنه جماعة منهم الإمام أبوحنيفة ومالك، ولقب بالصادق لأنه لم يعرف عنه الكذب قط، كان جريئا صداعا بالحق".
وقال ابن طلحة الشافعي في كتابه "مطالب السؤول" وهو يتحدث عن الإمام الصادق: "نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من الأئمة وأعلامهم مثل يحيى بن سعيد الأنصاري، ابن جريح، مالك بن أنس، الثوري، ابن عيينة، شعبة وأيوب وغيرهم".
في مثل هذه الأجواء العلمية المنفتحة كانت تتحرك حوارات الإمام الصادق مع أئمة الفقه والحديث من أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى، وكانت الحوارات في غاية الشفافية والحب والموضوعية.
ومن هذه الحوارات، النموذج الآتي، وهو حوار يعبر عن موقف مدرسة أهل البيت من "القياس".
كان الإمام أبوحنيفة يعتمد "القياس" أحد مصادر الاستنباط حينما يفقد النص... وفي المقابل اتجهت مدرسة الأئمة من أهل البيت إلى رفض "القياس بصفته مصدرا من مصادر الشريعة، وللأئمة في هذا أحاديث متشددة، وفي هذا السياق جاء قول الإمام الصادق: "إن السنة لا تقاس، ألا ترى أن المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها، إن السنة إذا قيست محق الدين".
وفي هذا السياق جاء حوار الإمام الصادق مع أبي حنيفة... وهذا جانب من الحوار:
قال الإمام الصادق مخاطبا الإمام أبا حنيفة: انظر في قياسك إن كنت مقيسا، أيهما أعظم عند الله، القتل أو الزنى؟ قال أبوحنيفة: بل القتل. قال الإمام الصادق: فكيف رضي في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنى إلا بأربعة؟ ثم قال له: الصلاة أفضل أم الصيام؟ قال: بل الصلاة أفضل. قال عليه السلام: فيجب على قياسك قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله عليها قضاء الصيام دون الصلاة. ثم قال له: البول أقذر أم المني؟ قال: البول أقذر. قال عليه السلام: على قياسك يجب الغسل من البول دون المني، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول...".
هذا النمط من الحوارات يكشف عن مرحلة متقدمة جدا، أين منها شعارات عصرنا التي تتغنى بالحوار والشفافية والديمقراطية، وما هي إلا عناوين للاستهلاك والمزايدة...
حوارات هذا العصر في قضايا الفكر والثقافة والسياسة مازالت متخلفة، ومازالت محكومة للأهداف والأغراض والمصالح الضيقة التي لا تنفتح على الحقيقة في آفاقها الكبيرة... حوارات هذه المرحلة بحاجة إلى صوغ جديد، وما أحرى هذا الصوغ أن يسترشد منهج القرآن في الحوار، وأن نسترشد تجربة الإمام الصادق "ع" بما تحمل من غنى وأصالة وتنوع.
التعليقات (0)