شارك هذا الموضوع

آينشتاين.. إسرائيل والصهيونية 2

ويوجِّه أينشتاين رسالة في العام 1930 إلى المنظمة الصهيونية العالمية، محذراً إياها من أنه "سيوقف كل دعم لهم إن لم يتوصلوا إلى سلام مع العرب". ويؤكد مجدداً: إن الشعبين سيعودان إلى التلاقي, على الرغم من أحداث العنف التي أظهرت الطبيعة البشرية في أزرى حالاتها؛ وهي أحداث ما كانت لتحصل لولا سياسة تغريب كل من الشعبين عن الآخر. وهو يغمز من قناة البريطانيين الذين "يسمحون بنشر الدعايات المسمومة وخلق الأجواء المتوترة".


ضد التقسيم والدولة القومية: 
في تموز/يوليو 1937 أصدرت لجنة بيل Peel المَلَكية البريطانية تقريرها القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين. وقد حسم بن غوريون الانقسام الصهيوني حول القرار بقبوله, تكتيكياً ومرحلياً, تاركاً أمر رفضه للعرب. أما أينشتاين فكان في عداد الرافضين لمشروع التقسيم من موقع الحرص على التعايش مع العرب. فكتب في العام 1937 مقالة ينتقد فيها رعاية بريطانيا لمشروع التقسيم وإقامة دولة يهودية مستقلة, وطالب بدولة يهودية-فلسطينية تجمع ولا تفرِّق: إن المطلوب هو دولة واحدة، لا دولتان. وإنني أفضِّل التوصل إلى اتفاق معقول مع العرب والعيش بسلام معهم على أن أعيش لأشهد ولادة دولة يهودية. وهو يرفض أن يستعيد الصهاينة الحقبة المكابية التي قاوم فيها اليهود الرومان بقيادة باركوخبا للحفاظ على دولة مستقلة: إن الرجوع إلى الأمة بالمعنى السياسي للكلمة يعادل الارتداد عن رَوْحَنَة مجتمعنا بالمُثُل التي أراد الأنبياء غرسها في هذا المجتمع. وفي هذا الخيار النابذ لمشاريع تقسيمية تُضمِرُ العنفَ يبدو أينشتاين، نظرياً على الأقل, أقرب ما يكون إلى مفهوم صديقه غاندي للصهيونية الروحية. يقول غاندي: إن الصهيونية الحقيقية المتوطِّنة في قلوب اليهود هي هدف يستحق أن يبذل فيه اليهودي حياته. إن صهيونية كهذه هي موطن الله. لكن الصهيونية الروحية لا يحدُّها وطن، ولا تحتاج إلى وطن محدد. فالأوطان لا تتسع للروح. لكن أينشتاين يفترق عن غاندي الذي يبني على هذه المقدمة الاستنتاج المنطقي الآتي: إن القدس الحقيقية هي قدس روحية, والصهيونية يمكن أن يحققها اليهودي في أي مكان من العالم. في حين رأى أينشتاين أنها لا تتحقق إلا في دولة يهودية-فلسطينية تقوم على أرض الميعاد. وفي حين كان غاندي جازماً في اعتقاده أن فلسطين هي للفلسطينيين العرب, رأى أينشتاين أنها تتَّسع للشعبين, وأنها أرض الأجداد العبريين, كما هي أرض الفلسطينيين.


إن إيمان أينشتاين بمُثُل الصهيونية الروحية العالمية كانت تشوبه القناعةُ بأن هناك أماكن في العالم -وفي أوروبا تحديداً -لن يكون في إمكان اليهود أن يعيشوا فيها. وكان أفضل ما تمخَّض عنه جهده الفكري لحلٍّ سلمي للصراع العربي-الصهيوني هو :إنشاء حكومة يهودية-عربية في فلسطين تمارس عملها في عهدة الأمم المتحدة، وتحت إشرافها المباشر, وليس تحت وصاية أية دولة منفردة، حتى ولو كانت أمريكا, والتوصل إلى صوغ دستور يكفل حقَّ الشعبين بالمشاركة في القرارات, ويمنع كل منهما من استبعاد الآخر عن طريق التصويت والاحتكام إلى الأكثرية النسبية.


ويتضمن اقتراح أينشتاين الدعوة إلى إقامة ما يشبه فيدرالية الطوائف المتحدة, مما يذكرنا بالمفكر السياسي اللبناني ميشيل شيحا ونظرية الديمقراطية التوافقية اللبنانية. وقد أرفق اقتراحه بحض اليهود على "رذل القومية الصبيانية المستوردة من أوروبا التي يؤجِّجها محترفو السياسة". ثم خاطب اليهود عام 1938 في خضم الثورة الفلسطينية ضد الإنكليز والصهاينة ليذكِّرهم بأن الدين اليهودي والدولة اليهودية القومية يتعارضان في المبدأ والأساس, ذلك أن اليهودية ديانة كونية لا قومية: إن معرفتي بالأسس الجوهرية للديانة اليهودية تجعلني أرفض فكرة الدولة المتَّصفة بالحدود والجيش والسلطة الزمنية. أخشى أن يلحق اليهودُ الضررَ بأنفسهم نتيجة تنامي القومية الضيقة بين صفوفنا, وهي التي حاربناها بقوة قبل أن تكون لنا دولة.إن العودة إلى الدولة هي ارتداد عن رَوْحَنَة مجتمعنا كما ارتجى منا الأنبياء. ويعود ليؤكد عام 1946 أن فكرة دولة إسرائيل لا تتوافق مع رغبات قلبي. إنني لا أفهم لماذا نحن بحاجة إلى دولة كهذه. إن الدولة القومية هي فكرة رديئة، وقد عارضتُها على الدوام. إننا نقلِّد أوروبا, والذي دمَّر أوروبا في النهاية هو القومية.


إن أينشتاين يريد توطين اليهود الذين تضيق بهم أوروبا, ويريد أن يكون لليهود وطنٌ في فلسطين, لكنه لا يريد فلسطين يهودية، كما هي إنكلترا إنكليزية. وكان هذا هو موقف أديبنا النهضوي أمين الريحاني الذي قابل أينشتاين وتبادل وإياه الرأي حول الصراع العربي-الصهيوني وحول وجهة نظر الصهاينة الروحيين إلى النزاع. فأينشتاين لم يكن, لا من قبلُ ولا من بعدُ, في عداد الصهاينة المؤمنين بأن الوعد الإلهي لإبراهيم ويعقوب بأن تكون أرض فلسطين إرثاً لذرِّيتهم هو وعد حق. وعندما حاول حاييم وايزمان إقناعه بحق اليهود الإلهي في فلسطين, ردَّ أينشتاين بالقول: إن الله الذي أعطى فلسطين لليهود هو الذي أسكن الفلسطينيين فيها. وكل فريق يرى أن الله معه. فلنترك الله خارج المحاجَجَة.


اعتراض واعتراف:
قبل شهر من اندلاع حرب 1948 بين العرب واليهود, بعث أينشتاين رسالة إلى جريدة نيويورك تايمز قال فيها: إن العرب واليهود المتطرفين يدفعون فلسطين بتهورهم إلى حرب عقيمة. إننا نشعر أن من واجبنا الإعلان بقوة أننا لا نجيز الإرهاب والتعصب القومي، سواء مارسه اليهود أو العرب. إن نصراً حاسماً يحقِّقه أحد الفريقين سيولِّد مرارة محبطة. وإننا نتوجَّه إلى يهود هذه البلاد [أمريكا] وإلى يهود فلسطين بألا يسلكوا سلوك اليائس أو يبحثوا عن بطولات زائفة تنجم عنها ممارسات انتحارية.


والنتيجة المنطقية التي تنبني على هذه الأطروحات التي حملت رؤيةَ أينشتاين للمسألة اليهودية-الفلسطينية هي أن عالِم الفيزياء سيكون أول المعترضين على حرب 1948 وتداعياتها الناقضة لكل مُثُله اليهودية والاشتراكية والإنسانوية, وأولها عدم جواز احتلال الأرض بالقوة. لكن أينشتاين يفاجئنا بإعلان اغتباطه لقيام دولة اليهود على أرض مغتصبة بالقوة؛ إذ لم تكن نسبة الأرض التي كانت الوكالة اليهودية اشترتها بالمال عند قيام الحرب تزيد على 6% من مجموع الأرض الفلسطينية. وهو يكتفي بالتعبير عن أسفه لأن الدولة شقت طريقها إلى الوجود بطريق العنف و"لأن علاقاتنا مع العرب لا تتوافق مع المبادئ الأخلاقية اليهودية التي تكونت على مدى تاريخ طويل". وللحق فإنه قد دان نزعة العنف التي تَمَظْهَرَت في مجزرة دير ياسين.


وفي 15 آذار/مارس 1949 ألقى أينشتاين خطبة بمناسبة منحه الدكتوراه الفخرية من الجامعة العبرية, يلقي فيها مسؤولية الحرب على البريطانيين, ويزعم أن "اليهود والعرب كانوا راغبين في تحقيق السلام المبني على التفاهم، بدل الاحتكام إلى العنف، لولا ضغوط الخارج", ويشير بإصبع الاتهام, مجدداً, إلى بريطانيا. وهو يعبِّر عن خشيته من أن تؤدي المواجهة المستديمة بين العرب واليهود إلى اعتماد اليهود على قوى دولية خارجية تجعلهم تابعين، بدلاً من أن يكونوا مستقلين. ويجدد، بالتالي، الأمل بـ"التعاون البنَّاء مع العرب على قاعدة الثقة والاحترام، لأن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لاستقلال الشعبين الحقيقي عن العالم الخارجي". وقد كتب عام 1952 رسالة إلى آبا إبان يقول فيها: "إن الموقف الذي نتخذه من الأقلية العربية سيكون الامتحان الحقيقي لمقاييسنا الأخلاقية كشعب." لكن حديثه عن "أقلية عربية" يتضمن التسليم بشرعية الدولة اليهودية التي قامت على حساب الغالبية العربية.


لا يفسَّر خفض أينشتاين لسقف مُثُله إلا بتقاطع هويته اليهودية الثقافية مع تاريخ التنافي والاستبعاد المتبادل والعنف الذي كانت الأكثرية في الغرب الأوروبي قادرة على ممارسته ضد الأقلية اليهودية. والأرجح أن تغاضيه عن الولادة الدموية للدولة اليهودية وتداعياتها ناجم، إلى حدٍّ بعيد، عن تجربة اليهود مع النازية ومحرقتها، من جهة, وعن نهج العنف والقطيعة ومطالب الحدِّ الأقصى الذي قابلت به الدولُ العربية المشروعَ الصهيوني، من جهة ثانية. ومع ذلك، يبقى لأينشتاين ما يميِّزه عن الصهاينة. فهو، على الرغم من تسليمه بنتائج حرب 1948, إلا أنه لم يُسقِط مصالح الفلسطينيين في المطلق من حساباته, واستمر يصف الصراع على فلسطين بأنه "صراع بين حقَّين". من هنا توزُّعه بين إيمان بوطن يهودي في فلسطين, وحقٍّ الفلسطينيين في الوطن, وبين خوف على اليهود من "الأغيار" وخوف عليهم منهم. وقبيل وفاته عام 1955 سئل أينشتاين: "لماذا يستطيع العلماء أن يكتشفوا الذرات ولا يستطيعون أن يسيطروا عليها?", فأجاب: "لأن السياسة أصعب من الفيزياء." وقد صعب عليه فهم السياسة الصهيونية، شكلاً ومضموناً.


لقد دخل أينشتاين السياسة من باب الدين والفلسفة. وعبثاً حاول أن يصالح موسى وسبينوزا وكانط مع مكيافيلي الذي طالع ملامحه في قادة الصهاينة، بدءاً بحاييم وايزمان الذي لم يكن من صقور الصهاينة قطعاً، مقارنة باليمين الفاشي أو حتى ببن غوريون. وهو يقول إنه لا يستطيع أن يفهم شخصية بن غوريون؛ وهذا ليس بالأمر المستغرب. فالزعيم الصهيوني كان اشتراكياً أممياً وصهيونياً عنصرياً في آن, يراسل غاندي, مثله, ويبني الهاغاناه ويصنِّع السلاح ويفصل اليهود عن العرب, ويقبل تكتيكياً قرار التقسيم, ويستكمل استعداداته لحرب توسعية تفضي إلى قيام "دولة اليهود" على كامل أرض فلسطين. وهو يدعو أينشتاين لترؤس دولة إسرائيل، على الملأ وفي العلن وعبر وسائل الإعلام, ويُسِرُّ لإسحاق نافون (الذي صار رئيساً لدولة إسرائيل) بخشيته من أن يقبل أينشتاين دعوته ويترأس الدولة بالفعل!


في العام 1953 التقى أينشتاين بمحمد حسنين هيكل خلال زيارة قام بها الأخير إلى أمريكا. وحين استشف علاقة خصوصية بين هيكل وعبد الناصر, وعرف من هيكل أن عبد الناصر هو القائد الفعلي للثورة وأن محمد نجيب هو واجهتها, مدَّد الوقت الذي خصَّصه لمقابلته, ودعاه إلى منزله, وحمَّله رسالة خطية إلى عبد الناصر يسأله فيها عن خطَّته لحلِّ الصراع بين اليهود والعرب، ويعرض خدماته, لا كوسيط, وإنما كـ"عامل محرِّض" وحين مرَّ الزمن ولم يتلقَّ جواباً على مبادرته, بعث برسالة إلى نهرو, الزعيم الهندي, كي يحدِّث عبد الناصر في الموضوع الذي سبق أن حدَّث به "أحد أصدقاء عبد الناصر [يقصد هيكل]..., لكن نتائج المقابلة ظلَّت معلَّقة في الهواء". وقد مات أينشتاين عام 1955 قبل أن يتلقَّى رسالة جوابية!


وسوف نتناول في المقال القادم مواقفه الداعمة للكيان الصهيوني .


علي المحرقي
24/8/2012م

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع