شارك هذا الموضوع

السيد محمد صالح العدناني (6)

السيد محمـد صالــح العدنـــاني
ذكريات اللقاء والصحبة (6)
لقد تأخرنا كثيرا ً هذه المرة في متابعة ما نكتبه من خواطر وذكريات حول السيد محمد صالح أكثر من أية حلقة سابقة، وقد مر أكثر من شهرين وأكثر من نشر آخر حلقة، ويعود السبب في تأخري إلى دخول شهري محرم وصفر المحرمين، بجانب ما يعيشه الناس من توجسات ومتابعات للساحة المحلية مما جعل القارئ والمقروء في شغل دائم.


وهانحن أولاء نعود لاستكمال ما نكتبه من أحاديث ذات شجون حول السيد عليه رحمة الله... وللقارئ الاعتذار عن هذا التأخير.


من خلال معايشتي للسيد ومرافقتي له في سنيه الأخيرة لاحظت عليه بوضوح نزعته الشديدة ناحية الصمت، وعدم الرغبة بالكلام، إلا النادر منه، وبعد أن أسحب الحديث منه سحبا، وكان يميل للتأمل والتفكير العميق والنظر إلى بعيد جدا، وكنت أشعر دائما وفي أغلب الجلسات التي جمعتني معه بأنه معي لكنه يفكر في أمر بعيد وأبعد ما يكون عن جلستنا، ولديه نزعة مفرطة نحو الاستماع أكثر من رغبته في الحديث والتعليق..


ففي الغالب كان يسألني سؤالا ً مقتضبا ً حول رأيي في أمر تاريخي أو ثقافي أو يستفسر غالبا مني إن كان لدي فكرة عن كتاب ويذكر لي اسمه، أو عن مجلة ويذكر لي رقم العدد منها، وأحيانا يسألني هل مر علي ذكر لهذه الواقعة من التاريخ، أو هذه الحادثة وأين يجدها نصا مكتوبا، من ذلك سألني مرّة إن كنت قرأت الجديد عن الخنساء الشاعرة المعروفة، وأشرت عليه بأن يراجع مجلة العربي، وذكرت له العدد، ومرّة سألني عن الشاعر عمر أبي ريشة، وذكرت له مجموعة من المصادر المهمة، وكنت أحدثه غالبا ً حول الشعراء والأدباء المعاصرين، وكان يلتذ لسماع كل ما يتعلق بالأدب وعلى الأخص الشعراء، لأني لاحظت عليه عدم الاطلاع الكافي على الأدب المعاصر في الأقطار العربية فضلا ً عن الآداب الأجنبية، وثقافته تكاد تقتصر على الأدب العربي القديم انتهاء بأدب عصر النهضة، أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والعقاد وطه حسين والجواهري وغيرهم من الأدباء المعاصرين.


بجانب هذا أظن بأن مكتبته الخاصة تفتقر إلى الكتب الحديثة في الأدب والثقافة والفكر والدين. ولم يكن هذا ديدنه معي فقط، بل هكذا كان يسير السيرة ذاتها مع الدكتور سالم النويدري الذي جمعته بالسيد علاقة تشبه إلى حد ما العلاقة التي جمعتني به، يقول الأستاذ سالم:


" وتشاء الأقدار أن أعيش ما يربو على العقد من الزمان نائيا ً عن الوطن الحبيب.. وبعد العودة إلى أحضانه في إحدى فترات الانفراج السياسي(عام 1993) بدأت العلاقة عن قرب بخطيبنا العدناني(رحمه الله) وأخذت تتوثق مع الأيام حتى وافاه الأجل المحتوم.


وتتميز تلك العلاقة ببعدها الثقافي، وكانت المبادرة من جهته (رحمه الله) مع ما كان عليه من جلالة في القدر وتقدم في السن، فقد كان له اتصال بي بعد اطلاعه على كتابي (أعلام الثقافة الإسلامية في البحرين) مبديا ً إطراءه له بلطفه المعهود، وتلا ذلك لقاء ولقاء .. حتى انتظمت العلاقات بيننا بشكل أسبوعي، إلا في حال السفر، أو الظروف الصحية الطارئة.


وخلال هذه اللقاءات المنتظمة تكشّف لي الكثير من شخصية العدناني الثقافية، ويمكن إجمالها فيما يلي:
- الترسل وعدم التكلف في الحديث والتعامل مع الآخرين مهما اختلفت مستوياتهم، أو مشاربهم أو توجهاتهم الفكرية والثقافية.


- تقدير جهود الباحثين بأمانة وصدق، لما جُبل عليه من تواضع جم.
- الإصرار على تتبع مضان المعلومات ومصادرها دونما كلل أو سأم.
- الاطلاع على التاريخ الإسلامي (على وجه الخصوص) بحيث كان يتمثله حضورا ً ذهنيا ً واعيا ً.
- البداهة في النظم الشعري، مع تمكن من قواعد اللغة والبيان.
- الدَأَب على الكتابة والتأليف حتى الرمق الأخير.


وهذه من أبرز مميزاته(رحمه الله)، فقد تكالبت عليه العلل والأمراض في الأعوام الأخيرة من حياته، وقد قارب التسعين، إضافة إلى أن مكتبته التي كانت عامرة بشتى صنوف الكتب والمؤلفات قد باتت بمنأى عنه في تلك الفترة، فلم يثنه ذلك كله عن البحث والتأليف.. بل عمد إلى الاستعانة بأصدقائه-ومنهم كاتب هذه السطور- لتوثيق المعلومات وتحقيقها." انتهى


ولكني مع هذا لم أكن أترك السيد يذهب بعيدا  ويسرح، أو ينشغل عني بالكتابة والقراءة، فكنت أبادره بالسؤال تلو السؤال، وبالطلب بعد الطلب، أما بالنسبة للطلب كنت في الغالب أطلب منه أن يقرأ لي الكثير من شعره، وبصوته الرنّان الواضح المميز، وبالأخص الجديد منه، فأنا أحب شعره كثيرا ً، وأستلذ بقراءته والاستماع إليه بلسانه، وأحيانا ً كنت أطلب منه أن يريني بعض المخطوط من كتبه ويفصل لي رحلته معها، ويفعل. وغيرها ..


تأتي الطلبات حسب الموقف وحسب اللحظة نفسها، أما الأسئلة فهي كثيرة، سألته مرّة عن السر وراء كثرة زيجاته، والتي جعلت الناس تتحدث عنه بهذه السمة دون حديثها عن علمه وأدبه وكتبه وخطابته وأشعاره، وقد أجابني وفصّل القول في هذا، وسألته مرّة عن قصة كتابه في الإمام المهدي وما قاله في كتابه هذا وسر غضب الناس، وفي إحداها ناقشته في ولعه بالغناء ودار بيننا نقاش مؤدب وحوار هادئ في هذه المسألة،  وأحيانا ً كان يبادرني بالحديث من نفسه دون أن أطلب منه أو أسأل ..


فما إن يراني معه ويستأنس بالحديث وينطلق حتى يبادر بالحديث.. من ذلك يقول رأيه في بعض الكتّاب، وعلى الأخص  البحرينيين، ممن أعرفهم ويعرفهم هو أيضا ً، وكذلك رأيه في الشعراء، وكنت أسمعه غالبا ً يميل للنقد البنّاء ، وكنت أوافقه في الغالب في قوله، لأني وجدت نفسي أميل للرأي ذاته، وهو يمشي على مشربي وذوقي في الفكر والأدب.


في إحدى المرّات تشعّب الحديث بنا وهو ذو شجون إلى الكلام حول الشاعر البحريني إبراهيم العريض، فوجدته ينقده نقدا ً شديداًً، لا في الأدب، بل في بعض المواقف، حيث ذكر لي بأن الشاعر إبراهيم العريض أيام شهر محرم الحرام كان يجلس مع بعض مقربيه ومجايليه في المنامة ويمر عليهم العزاء فكان يسخر منه، وينقد المواكب. هذا الموقف أثار السيد كثيرا ً وآلمه. وأظنه ذكر بأن الشاعر كان يتواجد في أحد الأندية، ولعلّه العروبة حين يمر بهم العزاء الحسيني! .


وأتذكر جيدا ً انفعاله ونقده الشديد لأحد العاملين بالصحافة المحلية، حيث ظلَّ هذا الصحفي يتردد على السيد كثيرا ً في بيته ، ويحاوره، ويجري معه بعض اللقاءات لواحدة من الصحف التي كان يعمل بها، وما إن تمر فترة وجيزة على ذلك اللقاء وتلك المحاورة حتى يفاجأ السيد بهذا الصحفي وقد كتب ذلك اللقاء بشيء من البتر، وعدم الدقة، بجانب الضعف العام في اللغة والأسلوب الذي امتاز به قلم ذلك الكاتب، يضاف لهذا كله أن السيد بعد أن تعرف على ذلك الصحفي أخذ يتابع مقالاته التي ينشرها في واحدة من الصحف المحلية، فوجده يسرق ما يكتبه سرقا ً، ولا يأتي بجديد في كل ما يكتبه، وما هو إلا ناقل من الآخرين، ومن أفواه العلماء والأدباء، وهو أشبه بالدخيل على الصحافة والأدب، والكتابة عموما ً.


ظل َّ السيد مدة طويلة من الوقت وهو يبدي ألمه وضيقه من هذا الصحفي في كل لقاء يجمع بيننا في شقته.


وحقَّ له أن يمتعض، إذ كيف استطاع هذا الخلي من العلم والثقافة والقدرة العلمية أن يتصدر صحافتنا، ويتبوأ المكانة الأولى فيها، وغيره من العلماء والأدباء يتوارون في الخلف، لا يدري بهم أحد ؟!!.    


أعود للحديث حول ظاهرة صمت السيد المتكرر، وكثرة سرحانه البعيد، ولجوئه للسكوت وعدم الرغبة في الكلام، وكأنه أشبه بالرجل الذي يعيش التوجس والخوف من الآخرين، والحيطة من كل من يلتقيه في أن يسمع منه شيئا ً..


وفي كل لقاء كان هذا الإحساس بغربة السيد وتكتمه تتأكد لدي وتتعمق حتى باتت من اليقينيات بالنسبة لي في تحليلي لشخصيته ومشبكه الاجتماعي .


حاولت أن أجد لهذا المنزع الذي كان عليه السيد تفسيرا ، ولصمته تعليلا فوجدت أن وراء ذلك أكثر من سبب، وأكثر من رأي ربما يفسرون ما هو عليه.. وسأحاول بيانها بتفصيل في المقال القادم . 


وللحديث بقية .. 

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع