شارك هذا الموضوع

أبناء العلماء

لعلَّ من الواضح أن هناك نظرة يحملها الناس والعوام خاصة والجميع عامة لأولاد العلماء دون بقية الأبناء من سائر الطبقات الثقافية الأخرى، كأبناء الموظفين والمهندسين والأطباء ورجال الأعمال وغيرها مثلاً. وأقصد بالعلماء هنا رجال الدين تحديدًا، ومن يرتدي الزي الحوزوي حتى صار يعرف به، سواء كان خطيبًا أو مصليًا بالجماعة أو منتظمًا في درس حوزوي فقهي أو أصولي وغيرها من فروع الدراسة الحوزوية، وتصبح سمة وعلامة تميزه دون غيره. وبالتالي يصبح ابنه ابنًا لعالم دين في العرف العام.


هذه النظرة تشبه في أغلب ملامحها وسماتها النظرة لأبناء الفقهاء والأئمة والأنبياء والرسل، فالناس تأمل من أبناء هذه الفئة، وتنتظر منهم أن يكونوا كآبائهم. فابن النبي يكون قديسًا، وابن الإمام يكون منزهًا عن الخطايا، وابن الفقيه يكون ملاكًاً ً، وابن العالم يكون بالبديهة عالمًا ً.


وحين يخرج الوضع عن هذا السياق المأمول والمنتظر يصاب الناس بصدمة، ويصبح الأمر كأنه كارثة غير متوقعة، ولا يحتمل أو يطاق. مع أن الأمر لو نظرنا له نظرة فاحصة، وتأملناه من أكثر من زاوية لوجدناه لا يخرج عن كونه أمرًا مألوفًا ومعتادًا، وظاهرة ملموسة في حياتنا العامة، وحياة من سبقنا من أجيال متباعدة، حتى نصل لأيام وحياة النبي نوح (ع) نفسه مع ابنه في الموقف المعروف والمتداول بيننا، والمذكور نصًا في القرآن، ولكأنَّ أبناء العلماء وخروجهم عن السياق، وعن خط الآباء ظاهرة متكررة، وتكاد تصبح في حالات كثيرة متشابهة سنَّة مطّّردة ومتعاقبة من سنن الحياة. المشكلة هنا تكمن في النظرة التي يحملها العوام.


ونحن هنا لسنا في صدد نفيها، أو الدفاع عنها، والتبرير لها، بل نحن نقرُّ بها، ونعترف بأن هناك حالات كثيرة تنبئ بأن علماء كثيرين لهم أبناء غير متدينين أصلاً، ولا يحملون ثقافة دينية، أو سلوكًا إيمانيًا، هذا فضلاً عن أن البعض منهم سقط في أحضان الرذيلة، وهاوية الفساد، وبؤرة الشر،وتلقفته أيادٍ شريرة، حتى صنف بأنه من فئة ضالة،غير مؤمنة، مع أن والده معمم،ويخطب في الناس،ويعظهم، أو يفتي، ويجيب عن مسائل الدين. أرمي من وراء هذه الدراسة إلى تفسير هذه الظاهرة، وتلمس مواطن الخلل فيها، وأين يكمن السبب في اختلاف أبناء العلماء أحيانًا عن خط آبائهم، ومنهجهم، ليصل أحيانًا إلى حد التطرف والنقيض والضد.


استطيع أن أوجز أسباب التباين الذي يحصل أحيانًا بين أبناء بعض العلماء وبين آبائهم في النقاط التالية:
(1) ابن العالم مثله مثل بقية الأبناء،ينحدر من أب وأم يلعبان دورًا في تربيته ونشأته بجانب عوامل كثيرة تحيط بهذا الابن، وابن العالم مثله مثل بقية الأبناء تلاحظ عليه منذ الصغر أنه يعيش حياته بانطلاق ودون تحفظ كبقية أقرانه، أو هذا هو الطبيعي، فيلعب ويمرح ويشارك ويمزح ويرتدي اللباس نفسه المعبر عن سنه، ولكن تبرز لنا حدّة النظرة والتطرّف فيها، وهي النظرة المغايرة التي ننظر بها لهذا الابن وكأنه يجب أن يكون نسيجًا مختلفًا، وطائرًا خارجًا عن السرب.


وعليه أن يكون مختلفًا في جميع سلوكه عن بقية الأطفال أو الناشئة، وهنا مكمن الخطورة، ومكان الخطأ.فعلينا أن نتعامل مع هذا الابن كما نتعامل مع بقية الأبناء، فكون أبيه عالمًاً ً لا يعني أن هذا الابن يكون محرومًا من اللعب والمرح والانطلاق، ويكون مبرمجًا منذ الصغر على الرزانة والهدوء والجد في السلوك والحركة.


فمن الممكن أن تصدر من هذا الطفل أو الناشئ أو الشاب تصرفات مألوفة ممن هم في مثل سنه وبعيدًا عن أسرته أو كون أبيه عالمًا ًأو لا، فقد يخطأ أو يتلفظ ألفاظًا ً محرجة أو غيرها. ولكن لأنا جئنا ولدينا إحساس داخلي، وشعور نفسي مسبق ونحن نتعامل معه، وننظر إليه، مفاده بأنه كائن مختلف، ومغاير أو هكذا يجب، فإن ذلك سيترتب عليه أننا سنقوم بتضخيم تصرفات أو حركات صادرة منه وهي متوقعة،لماذا؟ لأنه ابن العالم الفلاني، بينما سننظر للتصرف نفسه وللسلوك ذاته لو كان صادرًا من زميله، وممن يصاحبونه وهم ليسوا أبناء لعالم نظرة مغايرة كليا ً..


بسبب أننا ننظر إليهم نظرة مجردة عن آبائهم.. وفي تصوري أننا نقوم في هذا -ولا شعوريًا- بسحب ما يقوم به الآباء على الأبناء،وأقصد أننا نحاسب العالم على كل تصرفاته،الصغيرة والكبيرة، المندوبة والمستحبة، المكروهة والمستحسنة، لأنه أصبح عالمًاً ً، أو معممًا أو خطيبًا، ولم نعد  ننظر إليه كما ننظر إلى بقية أفراد المجتمع وأبنائه ورجاله، ومن ثم قمنا بسحب هذه النظرة والمحاكمة والمحاسبة التي قمنا بها لهذا العالم إلى أبنائه أيضًا، فالهفوة التي تصدر من العالم تصبح ذنبًا وكذلك الهفوة التي تصدر من أبنه تصبح ذنبًا أيضًا، والمكروه الذي يصدر من العالم يصبح كبيرة، كذلك المكروه الذي يصدر من ابنه يصبح كبيرة أيضًا.


وإذا تخطّى هذا الطفل أو الناشئ مرحلة الطفولة إلى الشباب والنضج وصار ابنًا كبقية الأبناء، وليس فيه أي شيء يميزه عن البقية، أو يمتاز به من ملكة أو علم أو نبوغ فإننا لا نتقبل هذا الوضع بيسر وسهولة، بل ننظر إليه بدهشة واستغراب، وفي أعيننا ألف سؤال وتساؤل وحيرة، والسبب لأنه ابن لعالم، مع أن هذا الوضع هو الطبيعي والمعتاد، والذي ألفناه، وليس العكس، فأغلب العلماء أبناؤهم ليسوا من الخط نفسه في اتخاذهم الدراسة العلمية الحوزوية، وإذا كان لديه أكثر من ولد، فإننا نلاحظ غالبًا أنه يخرج من بينهم ولد واحد يسلك الطريق نفسه.


وهذه الظاهرة تكاد أن تنسحب على جميع الميادين العلمية، كالتدريس والصحافة والهندسة والطب وغيرها، فقليل من الأطباء من يتجه أبنائه للطب، وكذلك المهندسون والمدرّسّون والصحفيُّون.


علينا هنا أن نحدد أولاً ً وقبل كل شيء ماذا نريد من أبناء العلماء أن يكونوا عليه عند الكبر والبلوغ؟ أنْ يكونوا علماء كآبائهم، ويتجهوا الاتجاه نفسه أم نريد منهم أن يكونوا متدينين، وملتزمين بالمبادئ العامّة للتدين والمظاهر الدينية المطلوبة من كل مسلم سواء كان ابنًا لعالم أو لأب من العوام؟


من المنطقي أن نقول هنا في صدد الإجابة عن السؤال السابق إنه لا يمكن لأي عالم من العلماء أن يضمن لنا الإجابة بنعم عن الحالتين السابقتين، ولا يمكن تحت أي منطق أن نقول إننا نريد من العالم أن ينجب لنا عالمًا ً مثله، وكذلك لا يمكنه أن يضمن لنا مسبقًا تدين ابنه، ونقاء سريرته وسلوكه..نعم، نحن نطلب من العالم كما نطلب من غيره،ونريد من العالم كما نريد من غيره،على السواء، ومن دون فرق أن يفرغ جهده، ويبذل طاقته في تربية هذا الابن على الاستقامة الدينية والخلقية، وأن ينشئه على الإيمان الصحيح والعقيدة السليمة، فاستقامة الأبناء مطلوبة من الآباء على السواء، علماء أو عوام.


ونحن نلاحظ أن هذا الأمر جاء صريحًا في العموم دون التخصيص، حيث يأمر الله (ج) جميع المؤمنين بالحفاظ على الأبناء، ولم يقصر أو يشدد على فئة دون أخرى،فالكل يتساوى في هذا التكليف الإلهي، حيث يقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة ٌ غلاظ ٌ شداد ٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون )(1).


فالآية السابقة توجه الخطاب بالأمر لجميع المؤمنين، من دون تحديد لفئة أو طبقة أو نوع أو تصنيف. و "من الواضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عامة على جميع الناس ولا تخص بعضًا دون آخر. غير أن مسؤولية الإنسان تجاه زوجته وأبنائه آكد من غيرها وأشد إلزامًا، كما يتجلى ذلك بشكل واضح من الروايات الواردة في مصادر عديدة، وكذلك الآيات السابقة التي تدعو الإنسان لأن يبذل أقصى جهده لتربية أهله وتعليمهم، ونهيهم عن ارتكاب الذنوب وحثهم على اكتساب الخيرات.


وبما أن المجتمع عبارة عن عدد معين من الوحدات الصغيرة تدعى "العائلة" فإن الاهتمام بالعائلة وتربيتها تربية إسلامية صحيحة سيجعل أمر إصلاح المجتمع أسهل وأيسر. وتبرز هذه المسؤولية أكثر وتكتسب أهمية خاصة في العصر الراهن، حيت تجتاح المجتمع موجات من الفساد والضلال الخطرة، وتحتاج إلى وضع برنامج دقيق ومدروس لتربية العائلة لمواجهة هذه الموجات دون التأثر بها، والانجراف  مع تيارها.
جاء في الحديث أن أحد الصحابة سأل النبي (ص) بعد نزول الآية السابقة: كيف أقي أهلي ونفسي من نار جهنم، فأجابه (ص): " تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عمّا نهاهم الله، إن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك"(2).


نستخلص مما سبق أن التربية وتنشئة الأبناء مهمة مشتركة، وفرض يقتسمه الجميع، ومن بين هؤلاء العالم، ومتى ما بذل جهده، وطاقته، ووقته، ونصحه في تربية هذا الابن ولم يؤد كل ذلك إلى نتيجة مقبولة، حيث اتجه الابن إلى الانحراف، فإن العالم هنا لا يُلام، ولا يمكن أنْ نحاسبه، أو نلقي عليه تبعات سلوك هذا الابن المنحرف، وإلاّ فإنّنا سنلوم النبي نوح (ع) على انحراف وشرك ابنه، ونلوم النبي لوط (ع) على انحراف زوجته ونلوم ونلوم.
لنكن أكثر انفتاحًا وواقعية، وابتعادًا عن الشطط والانفعال في أحكامنا، فالعالم مسؤول عن ابنه، وعليه أن يبذل طاقته في تربيته كما قلنا، ولكن يحاسب العالم على انحراف ابنه متى ما كان له دور في هذا الانحراف، وله يد طولى في هذا السلوك الظاهر لهذا الابن، وهذا ما سنستعرضه في النقاط التالية، مع مجموعة النقاط الأخرى المتداخلة.


(2) غالبًا- أقول هنا غالبًا وليس دائمًا أو أنّه قاعدة مطّردة- نجد أن العالم مشغول بأكثر من نشاط، ووقته مزحوم بأكثر من مهمة، وعلى الأخص المهام والأنشطة الاجتماعية، فهو مشغول في الصباح والعصر والليل وهكذا طوال الأسبوع، ومع هذا يجد أن أيام الأسبوع لا تكفي، فوقته موزع مابين اجتماعات وتدريس ولقاءات ومحاضرات، ولا يأتي منزله في أكثر الأوقات إلا متأخرًا، ويكون منهكًا، والأبناء نيام، وهناك صنف آخر من العلماء تراه ربما يكون منشغلاًً بانضمامه لجمعيات سياسية أو دينية أو اجتماعية، وهذا الانشغال لا يتوقف طوال الأسبوع خلال السنة كلها، فهي أنشطة تستنزف وقته كله، وتفكيره وجهده وأعصابه. والبعض -وهو القليل- ينشغل بالتدريس والتأليف والانقطاع للبحث والكتابة.
بالطبع إنّ الضحية في كل هذا الأبناء، أبناء العالم على حساب الآخرين، حيث يكون الأب منشغلاً عنهم، لا يجالسهم ولا يلتقي بهم إلا لمامًا، ولا يصاحبهم أو يخرج معهم في نزهات عائلية مشتركة، وكم رأينا أمام أعيننا في المجتمع نماذج لشخصيات عاملة ونشيطة  نشاطًا ً مذهلاً ً، وذات طاقة جبارة، حيث تعمل ليلاًً ونهارًا، دون كلال أو ملل، والنتيجة؟ النتيجة كانت متناقضة ومتباينة لهذا النشاط الطاغي، إذ بنى المجتمع وأعطى له الكثير من النتائج المثمرة والملموسة ولكن في المقابل كان على حساب الأبناء، حيث لم يكن متفرغًا لهم، لا يلتقيهم طوال الأسبوع ، ولا يعطيهم كما يعطي الآخرين، فكانوا أقرب للضياع، والانحراف، والتشتت. مع أنه مأمور أولاً بأبنائه قبل أبناء الآخرين.


(3) ظاهرة الزواج بأكثر من واحدة، حيث يتزوج البعض اثنتين والبعض ثلاثًا، والبعض ربما يصل العدد لديه أربعًا من النساء، أقول هنا: إن ظاهرة الزواج بأكثر من واحدة ظاهرة مشتركة بين العلماء والعوام معًا، وليست مقتصرة على العلماء فقط، ولست ممن يقبلون بالتعميم هنا حيال هذا الموضوع، بل إني على النقيض من ذلك تمامًا، وأذهب إلى أن شيوع الزواج بأكثر من واحدة لدى العوام، وبقية أطياف المجتمع وفئاته أكثر منه لدى العلماء، ولَدَيً كلام طويل في هذا الموضوع، أو حول هذه النظرة أتركه الآن... وأعود من جديد للموضوع الأساس.


المهم أن الزواج المتعدد لدى العالم أخطر منه لدى غير العالم، من حيث نتائجه على الأبناء في المستقبل، خصوصًا أنّنا سنربط زواجه بثانية أو ثالثة بارتباطه بانشغالات عديدة، على خلاف الرجل العامي، أو المنقطع لبيته، وأسرته، ونؤكد هنا ما أكَّدناه في النقطة السابقة، وهي أن العالم في الغالب يكون مشغولاً،عند ذلك تتحول حياته بعد زواجه بأكثر من واحدة إلى شبكة متصلة من الانشغالات والأعمال المتراكمة، والتي لا تتوقف، ولا حَدَّ لها، وكأنها تيار جارف من أمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله.
فإذا كان العالم صاحب الزوجة الواحدة، وصاحب العدد المحدود من الأبناء منشغلاً ً عنهم بسبب ارتباطاته، مما تركت هذه الانشغالات أثرًا في تنشئتهم، وسلوكهم، فكيف به إذا كان مع هذه الارتباطات صاحب زوجتين أو ثلاث؟! من الواضح أن الأثر هنا سيكون أقوى، ومضاعفًا ً، والاحتمالات ستزداد في ضعف الجانب التربوي لدى هؤلاء الأبناء، فالأسرة موزعة، والأبناء عديدون، ومن أكثر من زوجة، والأب منشغل طوال أو أغلب أيام الأسبوع.


أمّا إذا كان هذا العالم صاحب الزوجتين، متفرِّغًا لزوجتَيه، وبالتساوي، ومتفرِّغًا للأبناء من كلتا الزوجتين، ومنقطعًا لهم، ولتربيتهم، وتوجيههم، ومصاحبتهم، ومتابعة كل أمورهم، حين ذاك سيختلف الوضع، والنتائج أيضًا سوف لن تكون متشابهة.


إذن المشكلة هنا تكمن في اجتماع أمرين معًا قام بهما العالم وانعكس ذلك على الأبناء، وعلى سلوكهم، انشغالاته الخارجية والمفرطة، والتي تجور على حقوق البيت، والزوجة، والأبناء، والزواج بأكثر من واحدة في الوقت ذاته.


(4) علينا أن ندرك جيدًا، وأن نكون على وضوح، وقناعة بأن الواحد منا ليس هو العامل الأوحد في تربية الابن، وإعداده، وفي تغيير سلوكه، وبناء شخصيّته، فهناك عوامل وراثيّة، واجتماعيّة، وبيئيّة، بجانب عامل الأصدقاء، والمؤثرات اليومية، من قراءات، ومشاهدات لوسائل الإعلام المختلفة، والحياة تموج بتيّارات صاخبة وعديدة، يجد الابن نفسه في وسطها، وما الأب إلا واحد ٌ من هذه العوامل، حتى الأم لها تأثير، وإسقاطات وراثية، تلعب دورًا خطيرًا في مستقبل هذا الابن، وهنا يقول النبي (ص):
" اختاروا لنطفكم..فإن العرق دسّاس"(3) ويقول: "إياكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء"(4).
إذن اختيار الزوجة له تأثير كامن وخطير في بلورة شخصية هذا الابن في المستقبل، فما بالك إذا كانت هناك عوامل مجتمعة معًا تعمل على إنشاء تيار مضاد لعمل هذا الأب؟ فإذا اجتمعت عوامل الوراثة، ووسائل الإعلام المختلفة، والجو العام، من الواضح أنها ستضعف تأثير التربية الذي يحاول خلقه هذا الأب العالم، خصوصًا أننا نلاحظ أن الإنسان قابليته للانحراف والشر أقوى منها للخير والإيمان والمثالية.


مهما يكن هذا الأب، عالمًا أو فقيهًا أو مربيًا أو حتى إمامًا ونبيًا.. لن يستطيع أن يعطيك ضمانة على نجاحه في تربية ابنه، وأنّه سيُخْرِجُ من صلبه ولدًا مؤمنًا، مثاليًا، نموذجيًا، بل ليس هذا في استطاعة أيا ً كان من البشر، وليس مطلوباُ منه ذلك، فالآية تخاطب النبي (ص):


(إنك لن تهدي من أحببت ولكنَّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين )(5).


سواء كان هذا ابنًا أو أبًا أو قريبًا أو صديقًا ً، فا لهداية لها حسابات وعوامل كثيرة، ليست الأبوة هذه وحدها العامل الفريد أو المتفرد في التهيئة الخلقية والإيمانية، وإلا أصبح كل أبناء الأنبياء على مثال واحد، وكذلك أبناء الأئمّة والعلماء..
حتى النبي (ص) مع ما يحمل من طاقة جبَّارة من الإيمان والجاذبية والتأثير لا يستطيع وحده أن يخلف ابنًا كما نأمله نحن، فكيف الأمر مع العلماء، وأنصاف العلماء؟


(5) نلاحظ من خلال نماذج عديدة أن كثيرًا من أبناء العلماء يتخذون مسارًا لحياتهم جاء بناء على ردة فعل قوية وأحيانًا عنيفة، وفي أوقات تكون هادئة ودون ضجيج أو صخب، وذلك نتيجة لتعامل الأب العالم مع هؤلاء الأبناء، فبعض من علماء الدين يتخذ أسلوبًا عنيفًا وصارمًا في طرق تعامله مع أبنائه، بناء على فهمه أن التربية لابد أن تقوم على الشدة، وعدم ترك الحبل على الغارب مع الأبناء، وإلا سيؤدي ذلك إلى ضياعهم، وانحرافهم، واتجاههم لطريق السوء والانحراف، فتراه يراقب أبناءه مراقبة مستمرة، ويصرخ فيهم، ويعنفهم ويأخذهم بالشدة المفرطة، وعدم إعطاء أية فرصة للحوار والرأي وتقرير المصير، فالكلمة الأولى والأخيرة هي الأب.. حينها يشعر هذا الابن بأن شخصيته تتلاشى أمام والده، بل هي بلا قيمة أو معنى، وعلى الأخص إذا قام بمقارنة وضعه الأسري ببقية أو ببعض زملائه من أبناء غير العلماء... حين ذاك يتخذ بعض هؤلاء الأبناء ردة فعل متمردة وعنيفة، وبحجم ما تلقَّاه من معاملة  من صغره، وهي تظهر معه حين يشب عن الطوق ويكبر، ويقرر أن تكون له شخصية مستقلة ومتفردة عن سلطة أبيه، فتراه يتجه للسلوك غير المتوقع من ابن عالم، أو سلوك أبسط ما يقال عنه بأنه عادي جدًا لو قام  به ابن آخر غيره من أبناء العوام، فاللباس وذهابه للمقاهي وغيرها تعد كبيرة من مثله، بينما هي عابرة في نظر الناس حين تصدر من غيره.


وفي المقابل، وعلى النقيض تمامًا نجد بعضًا من العلماء يتبع مع أبنائه أسلوب الحرية المطلقة ، والتي تصل إلى حد الإفراط، إيمانًا منه بأنها أفضل السبل، وأنجح الوسائل لتربية الأبناء، وفي التعامل معهم، فعلى الابن أن يشق طريق حياته بنفسه، ويقرر مصير حياته بذاته، وعليه بعد ذلك أن يتحمل مسؤولية قراراته وما ينتج عنها، فتراه يتركه يتخذ أصدقاءه كما يشاء ودراساته وأوقات خروجه من البيت ورجوعه إليه وقراءاته، فهو حر في أن يقرأ ما يشاء ولمن يشاء.. هذه الحرية المفرطة في بعض الأحيان تأتي بنتائج مذهلة في بناء الشخصية، وتمكنها من نفسه، وتخرج لنا رجلاًً صانعًا نفسه بنفسه، وذا ثقة بقدراته وطاقاته، وقد اكتسب تجارب عديدة وغنية في صنع الذات في مدة وجيزة قد طواها طيًا، وذلك بفضل هذه الحرية المعطاة من قبل هذا الأب العالم، خصوصًا إذا تلقتها أرض خصبة ولها قابلية للبروز والتفوّق والعطاء.


ولكن في أحيان أخرى ترى هذه الحريّة تؤدي إلى ضياع هذا الابن، أو إلى هزاله، وضعف شخصيته، وربما إلى اتجاهه لتيارات غير متوقعة من ابن عالم من العلماء، نتيجة لأنه وجد نفسه حرًا في قراراته فأخذ يعبُّ من الحياة، ومن المحيط الاجتماعي والثقافي مالا يصلح، النور والديجور، الأحجار الكريمة والفحم... فهو منطلق ومن دون حدود تقف أمامه، وماذا ستكون النتيجة إذا جاءت هذه المؤثرات الاجتماعية والثقافية لنفس إنسانية لها قابلية واستعداد للهزال والضعف الديني والانحراف؟ النتيجة معروفة، ولن يجدي حين ذاك أن تكون هذه الشخصية ابنًا لعالم أو فقيه أو عامل في الساحة الدينية أو خطيب أو إمام جماعة أو أنه ابن لرجل من سائر الناس، فا لأمر سيَّان، والحال واحد، فالعبرة في المتلقي في أحيان كثيرة، وليست في المرسل. 
 
(6) بقيت نقطة لها علاقة وطيدة بالموضوع, وربما نحن لا ندير لها وجوهنا وتثيرنا كثيرًا بالمقدار الذي تثيرنا فيه أن هذا الابن عادي المستوى, و الذي سار على غير خط أبيه من العلم والمكانة والقراءة والبحث والتصدر الاجتماعي. . كيف أصبح هكذا بينما في المقابل أبوه هو من هو؟!


فإذا كانت هذه الصورة تثير لنا علامات تعجب عديدة,  ومتكررة جيلاً بعد جيل, واستنكارًا لا ينتهي أو يتوقف, فإنه من المتوقع أن تثير لنا مسألة بروز وتفوّق وعظمة ابن من صلب رجل عادي من الدهشة و الغرابة بالمقدار نفسه, بل يجب أن يكون أقوى منه, وأكثر غرابة.


وإذ أننا نجد في سيرة كثير من العظماء و العباقرة و العلماء و الكتّاب والمبرزين ما يثير الدهشة و الغرابة. كيف جاء هذا العظيم أو الكاتب أو النابغة من هذه البيئة الأسرية, وانطلق من وسط هذا المجتمع المصغر حتى أصبح اسمًا معروفًا ورقمًا يضاف لليمين من عظماء الأمة ؟!, فالأب رجل بسيط, أمي, وأحيانًا غير متدين, مع هذا يخرج هذا الابن على غير المتوقع, ويصبح على نقيض والده, في السلوك و التفكير و الإيمان, مما يؤكد أن هناك عوامل عديدة تلعب دورًا فاعلاً  ومتكاملاً في تنشئة الابن, وليس كما يتصور الكثيرون أنه مادام الأبُ عالمًا فالابن يجب أو من البداهة أن يكون عالمًا أو مؤمنًا أو فاضلاً أو حتى معروفًا في الأوساط الدينية و الاجتماعية.. بل إننا نجد على خلاف ذلك أن أكثر العلماء قد صنعوا جيلاً من العلماء والعاملين والرساليِّين من غير أبنائهم وارتبطوا بهم ارتباطًا ًوثيقًا ًومتصلاً ً.


وفي الصدد نفسه من الممكن أن نضرب مثلاً صارخًا وحيًا ينبض بالمثل و اليقظة, ليعلن أن الابن ما هو إلا نتاج عوامل عديدة, وليس الأب وحده, وهو النبي إبراهيم (ع), إذ كان عمه أو أبوه أو جده لأمه "آزر" على اختلاف الآراء و الاجتهادات هو من نشأ إبراهيم في كنفه, وكان مشركًا, يعبد الأصنام, ومع هذا خرج من معطفه إبراهيم (ع) أبو الأنبياء, و المقرب من السماء.. ألا يصيب هذا الموقف والشاهد المؤمن والإنسان بشكل عام بالدهشة والصدمة, أكثر مما يصيبه حين يرى ابنًا عاديًا لعالم من العلماء ؟!
يقول تعالى: ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صدّيقا ً نبيا، إذ قال لأبيه يا أبتِ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا، يا أبتِ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا ً سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنتهِ لأرجمنك واهجرني مليا، قال سلام ٌ عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا ّ أكون بدعاء ربي شقيا)   (6).


ويقول تعالى:  (  وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما ً آلهة، إني أراك وقومك في ضلال مبين)(7).


(7) من يقرأ حياة الأئمة الاثني عشر (ع)، وهم أئمة معصومون، عاشوا الكمال البشري، وليسوا علماء، أو معممين أو رجال دين بمفهومنا المعاصر، من يقرأ حياة الأئمة (ع) سيجد نفسه مضطرًا أن يقف أمام نماذج غير مستقيمة من أبنائهم، ولم تكن على وفاق مع الإمام الأب، فإذا كنا نستنكر وجود ابن عادي المستوى، أو منحرف السلوك، فإننا يجب أن نستنكر ونصاب بالدهشة والاحتجاج أمام وجود ابن لإمام معصوم، وهذا الابن ليس منحرف السلوك، بل الأدهى والأغرب أنه منحرف العقيدة.


فقد كان للإمام الصادق (ع) ابن يسمى "عبد لله" وكان أكبر إخوانه بعد إسماعيل الذي مات في حياة أبيه الإمام الصادق (ع) وجزع عليه جزعًا كبيرًا، وبكاه طويلاً لحبه إياه، أما عبد الله فلم تكن منزلته عند أبيه منزلة غيره من ولده في الإكرام، وكان عبد الله متهمًا بالخلاف على أبيه في الاعتقاد، فيقال إنه كان يخالط الحشوية، ويميل إلى مذاهب المرجئة، وادعى بعد أبيه الإمامة، واحتجّ بأنّه أكبر إخوته الباقين فتابعه على قول جماعة من أصحاب أبي عبد لله (ع) ثم رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة أخيه موسى الكاظم(ع) لما تبينوا ضعف دعواه، وقوى أمر أبي الحسن، ودلالة حقيقته، وبراهين إمامته، وأقام نفر يسير منهم على أمرهم ودانوا بإمامة عبد الله وهم الطائفة الملقبة بالفطحيَّة، وإنما لزمهم هذا اللقب لقولهم بإمامة عبد الله، وكان أفطح(8) الرجلين.


ويقال: إنهم لقبوا بذلك لأن داعيهم إلى إمامة عبد الله كان يقال له: عبد الله بن فطيح.
وحدثت بينه وبين الإمام موسى الكاظم (ع) عدة مناظرات انهزم فيها.
وقد بقي عبد الله بعد أبيه سبعين يومًا ثم توفي.


وروي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال لموسى (ع): "يا بني، إنَّ أخاك سيجلس مجلسي، ويدعي الإمامة بعدي، فلا تنازعه بكلمة، فإنه أول أهلي لحوقًا ً بي".
وذكر السيد ضامن بن شدقم في "تحفة الأزهار" أن عبد الله بن جعفر (ع) توفي في بلدة بسطام، وقبره معروف مقابل قبر علي بن عيسى بن آدم البسطامي"(9).


أمام هذا النص، وأمام هذا الحدث علينا أن نقف وقفات تأملية، وليست وقفة عابرة على حدث تاريخي كبقية أحداث التاريخ. فهل هذا الانحراف الذي جاء وصدر من ابن الإمام الصادق (ع) يكون مسوغًا لنا في أن نتّهم الإمام في أساليب التربية التي اتبعها مع ابنه عبد الله، أو انه لم يحسن تربيته مما أدى به لأن يسقط هذه السقطة المهينة؟


ألا يدل هذا الحدث على أن الإمام (ع) مع كونه إمامًا معصومًا، ومسددًا من السماء، وشخصية علمية عملاقة وجبارة، خرَّجت آلافًا من العلماء والفقهاء ورجال الفكر والفلسفة لكنه مع هذا لم يستطع أن يخلق من ابنه هذا نموذجًا مؤمنًا كبقية النماذج المؤمنة... لماذا؟ أَلِنَقصٍ ٍ في قدرات الإمام التربوية والأسرية؟ أَلِعَجز ٍ في وسائل احتضانه لابنه حتى انجرّ لما انجرّ إليه؟


يبدو واضحًا أن هناك عوامل مضادة لعبت دورًا خطيرًا في الوهدة التي سقط فيها عبد الله، وهو طبيعة شخصيته أولاً، ومخالطته للحشوية، وميله للمرجئة ثانيًا، وكونه الأخ الأكبر وما صاحب ذلك من ميل نفسي للانحراف واستعداد له... كل ذلك وقف عاملاً مضادًا وعنيفًا أمام تربية الإمام (ع) له... وهذا يدل على ما ذهبنا إليه في أن الأب ما هو إلا عامل من بين عوامل عديدة تعمل على صقل شخصية الابن.


ثمّ لماذا نتعجب إذا رأينا ابنًا لعالم من العلماء، أو حفيدًا لرجل من رجال الدين وهو منحرف السلوك، بينما وجدنا أمامنا ابنًا لإمام معصوم وهو منحرف العقيدة، ويدَّعي الإمامة!! وهذا أخطر جدًّا من الانحراف في السلوك، ولا يقاس به، فهو خليط من ذنوب كثيرة مجتمعة.
علينا أن نتعامل مع هذا الحدث بأنه حادث يتكرر، والزمان يعيده، والحياة تحتضن العديد من الأمثلة والنماذج بلا غرابة أو دهشة واستنكار فهو طبيعي... ومن سنن الحياة المألوفة.


(8) كان للإمام الكاظم ابن يسمى زيد، ويعرف بـ "زيد النار" لأنه قدم البصرة فأحرق دور بني العباس بالنار.


كان الإمام الرضا(ع) على خلاف معه، وكثير الاستياء منه، وذلك لانحرافه وكانت أفعاله تأتي ثقيلة على أخيه الرضا (ع)، وكان (ع) يلومه، ويعنف به كثيرًا، وبرواية أنه (ع) حلف أن لا يكلمه أبدًا ما عاش، ومن أقواله له:" يا زيد أغرَّك قول ناقلي الكوفة: إن فاطمة أحصنت فرجها فحرَّم الله ذريتها على النار؟


فلا والله إلا للحسن والحسين وولد بطنها خاصة، أما أن يكون موسى بن جعفر (ع) يطيع الله، ويصوم نهاره ويقوم ليله، وتعصيه أنت، ثم تجيئان يوم القيامة سواء، لأنت أعز على الله عز وجل منه"؟ لا، فالأمر ليس كما تعتقد، فوالله لقد بلغنا ما بلغنا بالتقوى وطاعة الله عز وجل، وتظن أنك بالغ تلك الدرجة بمعصية الله؟ ألا ساء ما تظن!! 


قال زيد: أنا أخوك وابن أبيك، فقال له: أنت أخي ما أطعت الله، ثم تلا الآية:(قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ) (10) ثم قال (ع): " لما عصى الله عز وجل نفاه عن أبيه".
وبرواية أخرى أنه قال: " من كان منا ولم يطع الله عز وجل فليس منا".
وقال (ع) للراوي الحسن الوشَّاء:" وأنت إذا أطعت الله عز وجل فأنت منا"(11).


(9) أما جعفر ابن الإمام الهادي (ع)، وعم الإمام المهدي (ع)، فقد لُقِّب بالكذاب، وادَّعى الإمامة بغير حق، وأضل الخلق.
"ولم يكن انحراف جعفر عن خط آبائه المعصومين بسبب إهمال والده في تربيته، ولا البيئة التي كان يعيش فيها، بل كان بسبب مجالسته للفسقة والمنحرفين، ومن الواضح أن المجالسة مؤثرة.


ويقول" أبو الأديان" خادم الإمام العسكري، حين رأى جعفر بن علي الهادي على باب دار العسكري، والشيعة من حوله يعزونه بوفاة العسكري ويهنئونه بالخلافة والإمامة: إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة، لأني كنت أعرفه بشرب النبيذ، ويقامر في الجوسق (اسم قصر المقتدر العباسي) ويلعب بالطنبور (آلة لهو وغناء).
فهذه شهادة واضحة على أن ابنًا للإمام الهادي (ع) وأخًا للإمام العسكري وعمًا للإمام المهدي (ع) إلا أنه كان مع هذه القرابة اللصيقة مشتهرًا بالفسق، وشرب الخمر والتعلق بالغناء واللهو وارتياد قصور الخلفاء من بني العباس!!


ولم يكتف جعفر بهذا السلوك الساقط المشين بل تحول بإرادته إلى أن يكون جاسوسًا وعينًا للمعتمد الخليفة العباسي على ابن أخيه الإمام المهدي (ع)!!


فقد ذهب إلى المعتمد العباسي وهو الحاكم الذي دسّ السم إلى أخيه الإمام العسكري (ع) بالأمس وقتله، ليخبره بوجود الإمام المهدي (ع)، وذلك حين رآه يصلي على أبيه، بعد أن أمره بالابتعاد عن جنازته، ولم يسمح له بالصلاة عليه.


حيث أن الإمام العسكري (ع) في الوقت الذي كان يظهر ولده الإمام المهدي (ع) للثقاة من شيعته، ويخبر الخواص من أصحابه بولادته، لم يخبر أخاه جعفرًا بذلك، ولم يعرف جعفر أن لأخيه ولدًا، ولعله كان يعلم ذلك ولكنه كان يتجاهله، لأسباب وأهداف.


حين ذاك أمر المعتمد بإلقاء القبض على السيدة نرجس زوجة الإمام العسكري (ع)، فألقوا القبض عليها، وطالبوها بالإمام المهدي، ولكنها أنكرته تقية، ولم يعبأ الخليفة بإنكارها، بل أمر بتسليمها إلى قاضي سامراء ابن أبي الشوارب لتكون تحت الرقابة المشددة، ولكن الله تعالى فرََّج عنها بعد فترة قليلة.


وحين وصل وفد من الشيعة من بلدة قم لمقابلة الإمام العسكري (ع) وإعطائه الحقوق الشرعية كعادتهم إياه علموا بوفاته (ع)، حين ذاك سألوا عن خليفته، فقيل لهم: أخوه جعفر. . فسألوا عنه فقيل لهم: إنه قد خرج متنزها، وركب زورقًا في (( دجلة )) يشرب ومعه المغنون !!


أي أنه استمر في شرب الخمر والتعلق بالمغنين والاستماع للغناء حتى بعد أن أعلن نفسه خليفة للإمام العسكري (ع) وإمامًا للشيعة في عصره. وهذا ما أصاب الوفد الشيعي القمي بالحيرة والدهشة، وجعلهم يستنكرونه، ويقولون: هذه ليست من صفات الإمام المعصوم (ع).


وبعد مجادلة بين الوفد وبينه أنكروه وأنكروا إمامته ولم يعترفوا به إمامًا وخليفة ورفضوا تسليمه الأموال، فما كان منه إلا أن قام بالإبلاغ عنهم عند المعتمد، والتحريض عليهم. فأمر المعتمد بإحضارهم، وأن يسلموا الأموال كلها لجعفر، وهي أموال من الحقوق الشرعية. فرفض القوم تسليم المبالغ، فأمر المعتمد بعد مناظرة معهم بأن يخلى عن سبيلهم ويرجعوا لبلدهم بسلام !!


وكان جعفر بعد استشهاد أخيه الإمام العسكري (ع) قد حمل إلى الخليفة المعتمد عشرين ألف دينار وقال له: يا أمير المؤمنين.. تجعل لي مرتبة أخي الحسن ومنزلته!!


أما عن خاتمة جعفر فإن البعض من العلماء يؤكد توبته آخر الأمر، أما السيد محمد كاظم القزويني فهو ينكر ذلك في كتابه " الإمام المهدي.. من المهد إلى الظهور"(12).
إذا كان هذا حال البعضٍ من أبناء أو إخوة الأئمة المعصومين فكيف هو الحال مع بعض أبناء العلماء؟ ولنا أن نتساءل: أبعد كل هذه الأمثلة التاريخية من حياة الأئمة المعصومين (ع) نستنكر وجود ابن عادي أو منحرف السلوك، أو نتعجّب من عالم يلد ابنًا على خلاف سلوكه وحياته ومشربه وأفكاره؟!


ولا أرى أجمل وأكثر فائدة من أن أختم مقالي هذا بمقال طريف وشائق لأستاذنا الشيخ محمد جواد مغنية عالج فيه هذه الفكرة والمعضلة، والتي يبدو أنها تدور في أذهان الناس منذ القديم، وليست وليدة اليوم، أو الفكر المعاصر. وقد نشر الشيخ المقال في مجلة العرفان ع:2 – 1957، ثم نشرها في كتابه "الإسلام مع الحياة" ، والمقال بعنوان :" أولاد العلماء"..  وكان الشيخ يبدو من المقال أنه يردد ما يقوله الناس حول أبناء العلماء وسلوكهم، وذلك قبل أن ينجب ابناً، حتى رُزق بابنه البكر وكبر ولمس فيه البعد عن سلوك العلماء، مما جعله يعيد النظر فيما كان يؤمن به من قبل حول أبناء العلماء، وإن كان رأيه يحتاج إلى نقاش وتبادل الرأي فيه، إذ نلمس في كلامه أنه يعفي الأب من المسؤولية كلها، ويرمي كل الأثر والقدرة على صقل شخصية الابن على الخارج فقط .. يقول الشيخ :


" تكلم الناس كثيرا ً عن أولاد العلماء-رجال الدين- شنَّعوا عليهم لأنهم لم يسلكوا سبيلا ً يشبه سبيل آبائهم من قريب أو بعيد، بل شنَّعوا على العلماء أنفسهم لا لشيء إلا لأن الأبناء لم يهتدوا بهدي الآباء، وأخذوا الكبار بجريرة الصغار، وعكسوا آية :" الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون " .


ومضى زمن غير قليل، وأنا أشارك أولئك الناس في الرأي والقول، وكان ذلك قبل أن أرزق غلاما ً "طبعا ً" ، وبقي ما كان من رأيي على ما كان لم يتبدل أو يتعدل حتى جاء، وبقول أدق حتى بلغ سن التكليف والرشد، فانكشف لي الغطاء، وأدركت أن السر لم يكن في البيت فقط، ولم يكن في الآباء والأجداد، إنه في المحيط، في الصحف، في المدرسة، في الشارع، في السينما، في الراديو. 


يتعرض الولد من صغره إلى هذه التيارات والمغريات، وكل واحد منها يندس إلى قلبه وعقله، ويتأثر به أكثر مما يتأثر بمواعظ أمه وأبيه، فكيف بها إذا اجتمعت وتحالفت؟! إن هذه العوامل تسيطر على الولد الناشئ، وتنتزعه من بين يدي أبيه وتتجه به إلى حيث تريد، وعبثا ً يحاول الأب أن يسترجع فلذة كبده، ويرده إلى حظيرته، فيقف حائرا ً ساخطا ً يندب حظّه ويلعن الساعة التي رأى فيها الأولاد، بل يلعن الساعة التي جاء فيها إلى هذه الدار، وبالتالي تكون النتيجة بُعد الشقة والهوة العميقة السحيقة بين الأب والابن.


سُئل الشاعر الألماني جيته: ما هو الكتاب الذي أثّر في حياتك؟


فأجاب لا أعرف كتابا ً معينا ً أثّر في حياتي، بل لا أعرف طعاما ً أو شرابا ً معينا ً في جسمي، فكل ما قرأت كان له تأثير في تفكيري، كما أن كل ما أكلت كان له تأثير في جسمي.


وهل بعد هذا يُقال: العلماء وأبناء العلماء؟! وهل ابن العالم إلا كغيره من أبناء الشعب تتلقفه الدعايات والمغريات ! لقد أثبتت الحوادث فساد النظرية التقليدية التي تقول بأن البيت هو كل شيء، وأنه يستقل عن كافة الحوادث، والحقيقة أن الإنسان ليس ابن أبيه، بل ابن المجتمع، ابن الظروف التي يعيش فيها، والزمان الذي يحيا فيه، والقرن الذي وُلد فيه، والأحداث التي تدور حوله. قال الإمام علي (ع) :" إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله، ثم أساء رجل الظن برجل لم تظهر منه خزية فقد ظلمه، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن ر جل الظن برجل فقد غرر " (13).
علي المحرقي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
( )التحريم/6.
(2) التفسير الأمثل:ج18، ص456.
(3) ميزان الحكمة: ج4، ص 280، ط2.
(4) المصدر نفسه: 282.
(5) القصص/56.
(6) مريم/41-48.
(7) الأنعام/74.
(8) أي عريض الرجلين.
(9) أبناء وأحفاد الأئمّة: الشيخ ماجد الزبيدي، ص 274-275، ط1: 2005، دار المحجة البيضاء.
(10) هود/46.
(1 ) المصدر السابق، ص 332-333.
(12) ص 178-195.
(13) الإسلام مع الحياة: 267 ، ط3: 1979، دار العلم للملايين.

التعليقات (1)

  1. avatar
    عبدالله

    أحسنت أستاذي الفاضل كم أشعر بسعادة و سرور و أنا أقرأ ما خطته يدك

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع