شارك هذا الموضوع

العرف حين يطغى على الشرع

من يتأمل الإسلام في جميع تشريعاته، وبنيته التفصيلية فإنه سيقع على دين يقوم على اليسر والبساطة في كل ما يتعلق به، حتى في العلاقة التي ينشئها بين العبد وربه،  فلا تعقيد ولا حيثيات صعبة تخلق نفورا ً من الدين، ومن الاعتقاد به، وهذا ربما السر وراء دخول الكثيرين من أصحاب الديانات الأخرى فيه بكل يسر وسرعة، حتى في لغته، وعباراته، والتي تمثلت في أرقى ما تلقاه العبد المسلم ونعني به القرآن الكريم، هذا القرآن الذي هو لسان الله يقول الله عنه: "ولقد يسرنا القرآن للذكر" القمر /17، ويقول : "فإنما يسّرناه بلسانك" الدخان /58.


والإسلام لأنه بسيط في تشريعاته وتكوينه فإنه يرفض أن تكون هناك وساطة بين العبد وربه، ويلح على أن يتوجه الإنسان إلى الله بنفسه، ويناجيه ويخاطبه وهو يحمل في داخله شعور راسخ بأنه يستمع إليه بكل اهتمام وإنصات .. : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان " البقرة / 186، فلا يحتاج المؤمن إلى رابط بينه وبين ربه، وهو خالق الكون، ورب الأرباب، و أعظم الخالقين سبحانه، وقد انسحبت هذه البساطة على إقامة الدين نفسه، وفي هذا نجد أن إقامة الدين على الأرض من قبل الفرد نفسه أو من قبل الدولة لا يحتاج إلى صعوبة، أو إلى تفريعات ومنعرجات، بل فيه كل الوضوح والمباشرة واليسر، تبرز لنا هذه الحقيقة المشرقة من خلال النصوص العديدة التي نقلت عن رسول الله (ص) وعن أهل البيت (ع) ..


فالفرد لديه القدرة على أن يقيم شرع الله وأحكامه على الأرض، لأن إقامته من اليسر بمكان، ولكن مع تعاقب الأزمان، وسير السنوات المتعاقبة، وتأثير الزمان والمكان في الأحكام، من حيث سطوة العرف، وإدخال ما لا أصل له في الدين نفسه، سواء يدخل في الحلية أو الحرمة جعل من هذا الدين البسيط السهل يتحول على أيدي معتنقيه وخصوصاً بعض العلماء على مر العصور إلى دين صعب، لا يتمكن من إقامة شعائره إلا القلة، وهم الذين يطلق عليهم العوام من الناس لفظة العلماء - مع أن هذه اللفظة بمدلولها العرفي فيها نظر -، وبذلك توهم العوام بأنه لا يمكن لغير المعمم أن يقيم هذه الشعيرة، أو تلك، واقتصرت إقامتها على القلة من المعممين، كل ذلك توهما ً واعتقادا ً كاذباً، والذي رسّخ هذا المفهوم سكوت العلماء عن بيان خطأه، والمناداة بسقوطه، والعمل على تغييره على أرض الواقع، والناس تمشي وراء كلمة العالم الذي يجسدها إلى واقع معاش، لا في الكتب والمراجع التي لا يقرأها إلا الصفوة من المثقفين والعلماء.


لدي في بيان هذه الإشكالية مثالان سوف أبسط الحديث حولهما لأبين للقراء كيف أن هذا الدين السهل البسيط في أحكامه وواجباته وتشريعاته وأوامره قد تحول إلى دين صعب في نظر الناس، وقد توجس البعض من المباشرة والدخول في إقامة بعض واجباته، كل ذلك خوفا ً من العرف، ورهبة مما سيقوله بعض العوام وبعض العلماء، المثال الأول صلاة الميت، والثاني صلاة الجماعة.


أولا ً: صلاة الميت 
من يتابع الجنائز التي تقام الآن في القرى والمدن سوف توقفه بعض المظاهر الغريبة فيها، وما يهمني هنا هو الصلاة على الميت، ومن يطلبه الناس للصلاة على الجنازة، فنحن أمام أمر شبيه بالإلحاح أو التضمين العرفي، والمفهوم التداولي بين الناس بأن لا يصلي على تلك الجنازة إلا رجل معمم، خريج الحوزة الدينية، أما أن يصلي على الميت رجل بسيط من العوام، يلبس البنطلون والقميص فهذا أشبه بالمحرمات في نظر الناس وحتى بعض العلماء، والعرف العام، ولو افترضنا أننا لم نجد عالما ً للصلاة على الميت وتقدم واحد من العوام فهذه ستكون أشبه بالجريمة والخروج على الدين، مع أنه أمر من صلب الدين مادام محافظا ً على الشروط التي وُضعت له.


هذه واحدة، أما الثانية فهي كيفية الصلاة على الميت، فنحن عند الصلاة على الجنازة أمام صلاة تحتاج إلى حفظ مجموعة من الأدعية والعبارات التي تقال بعد التكبيرات الخمس، هذا الحفظ جعل الكثير من العلماء وليس العوام يحجم عن الصلاة على الميت، بحجة عدم حفظه لتلك الأوراد المطلوبة، ومن ثم نحن في جنائز عديدة نشاهد أنفسنا أمام جنازة تتعطل لساعات لأن علماء القرية لا يستجيبون للصلاة على الميت بداعي عدم الحفظ لهذه الصلاة الطويلة .. 


هذه الأدعية لها أصل في الدين أم أنه من الدخيل عليه ؟ وتلك النظرة للمصلي على الميت  لها أصل من الدين أم أنها دخيلة عليه أيضا ً ؟ لنقرأ ما يقوله الفقهاء حول ذلك، ومن ثم نحكم بأنفسنا ابتغاء وسعيا ً للتغيير، وعدم السماح للعرف بأن يكون بديلا ً عن الدين، وبأن تتقدم كلمته على كلمة الفقهاء، كل ذلك خوفا ً من الناس ومن العرف وابتعادا ً وتهربا ً من سطوته ومواجهته، والغريب أنك تجد الناس تصور العالم الذي يواجه الحكومة وبطشها بأنه بطل،  شجاع لا يخاف، ويملك روح التحدي والإصرار، بينما من يواجه الناس والعوام في العقائد الباطلة، والأعراف الخاطئة الدخيلة فإن الناس تصوره أشبه بالمارق من الدين، والذي تحول من الإيمان إلى البدعة والضلال، والمشكلة تكمن في أن العلماء هم من ساعد على هذا، عن طريق خوفهم وجبنهم وسكوتهم في كثير من المواضع عن بيان الخطأ، والكشف عن الدخيل من الدين، والعمل على تنقية الإسلام، والسعي للعودة إلى الدين الخالص من الشوائب والدخيل، من يعمل على ذلك، ويتحمل سهام الناس وجراحاتهم هو البطل الحقيقي، وهو الشجاع الأوحد .. فإن سطوة العوام ما مثلها سطوة في القوة، والبطش.


شروط المصلي :
عند تصفح الرسالة العملية للفقهاء، وبعد مراجعة باب شروط المصلي على الجنائز فإننا سندهش إلى تلك الشروط التي وضعت، وسنقف مذهولين أمام البون الشاسع بين المعتقدات السائدة، وبين الدين والتشريع، وسوف نجد أن كل من يتقن الصلاة ويحفظها مع بعض الشروط الأخرى فله أن يتقدم للصلاة على الجنازة، ولا دخل هنا للباس  وللدراسة، لنقرأ ما كتب الفقهاء في شروط المصلي على الجنازة، أو شروط الصلاة بشكل عام .


في هذا يقول السيد السيستاني :
" ويعتبر – على الأحوط -  في الإمام أن يكون جامعا ً لجميع شرائط الإمامة، من البلوغ، والعقل، والإيمان، وطهارة المولد وغيرها حتى العدالة على الأحوط استحبابا ً " (منهاج الصالحين، ج1، ص 109 ) وهذا ما يقول به نصا ً السيد الخوئي في رسالته العملية. وهذه الشروط هي الشروط ذاتها التي وضعت لإمام الجماعة، وهي متوفرة في سائر المؤمنين إلا القليل منهم.


من الواضح أن الفقهاء لا يشترطون أن يكون المصلي عالما ً معمما ً، وأن يكون دارسا ً للفقه سنوات طويلة من عمره، فنحن أمام صلاة لا تستغرق سوى دقائق معدودة على ميت توفاه الله، ويجب الإسراع في الصلاة عليه، وهذا المصلي ليس في موضع العالم الذي سيجلس للإفتاء، وتلقي مسائل الناس بمختلف تفرعاتها للجواب عليها، وإنما هي صلاة كالصلاة اليومية، بل هي أسهل منها بمراحل، وأقل وطأة، فهي لا تتجاوز بضع جمل وكلمات يؤديها المصلي وخلفه المؤمنون، كل هذه السهولة واليسر فيها تخفيفا ً عن المؤمنين حتى يتم الإسراع في الصلاة ودفن الميت، وعدم التأخير في إبقاء الجنازة بلا دفن، حتى لو كنا في بلاد الغربة أو السفر، مما يتسنى للجميع الصلاة والتمكن من أدائها، فحرمة المؤمن الميت عظيمة عند الله، وللإبقاء على هذه الحرمة والحفاظ عليها لابد من تشريعات تمتاز بالسهولة واليسر، فأشار إلى أنه بإمكان حتى الصبي المميز والمتقن والحافظ لهذه الصلاة أن يصلي، وبإمكان الأخ والأب والابن والزوجة والأقارب أداء الصلاة، فربما يكونون في سفر أ, في غربة، أو لا يتمكنون من دعوة من يصلي، هنا يجد المرء نفسه متمكنا ً من أداء هذه الصلاة حتى يسرع في دفن قريبه الميت ..


بينما نحن في الواقع المعاش، وفي العرف السائد المخيف لم نأخذ أقوال الفقهاء والعلماء بعين الاعتبار، وترانا ننتظر ساعات طوال ذاك العالم المعمم حتى يأتي ليصلي على الجنازة، ولابد أن يكون أعلم الجميع، وأفقه الجميع، تصورا ً من البعض بأن هذه الصلاة من هذا العالم تخفف عن الميت العذاب، وتيسر عليه ضغطة القبر، والبعض ربما يحمل في داخله نوعا ً من المباهاة فيما بعد أمام الناس، والمفاخرة للأسف الشديد، ليعلن بأن الذي صلى على جنازة أمه أو جنازة أبيه العالم المعروف،  وغالبا ً ما يكون هذا العالم المعروف مشغولا ً، ووقته مزدحما ً بالكثير من الارتباطات، مما يتسبب في تأخير الصلاة، ويسوف في دفن الميت، ويجعل الحضور في حالة من التأفف والضيق، وفي بعض الأحيان لا يجد أهل الميت في قريتهم عالما ً يستجيب للصلاة لمختلف الأعذار، فيضطرون إلى الاستعانة بعلماء من خارج القرية، المهم عند الناس وعند أهل الميت والعرف العام الراسخ والمتوارث بينهم أن يكون المصلي من رجال الدين، وبدون هذا العالم تكون الصلاة كأنها مبتورة، وناقصة، وفيها شيء من الخلل، هذه الاستعانة بعالم من خارج القرية تؤدي في غالب الأحيان إلى تأخير الصلاة على الجنازة، وتعطيل الدفن ..


ونحن هنا نقول : لم كل هذا، ولم الإصرار على أن يكون المصلي رجلا ً من رجال الدين دون سائر الناس ؟ مع أننا بينا أقوال أساطين الفقه في هذا، والذين يقلدهم الناس ويأتمون بهم، ويأتمرون بأقوالهم، وفي مقدمتهم السيد السيستاني والسيد الخوئي، فهم لا يقولون بأنه لابد أن يصلي على  الميت أعلم أهل القرية، ولم يقولوا حتى بأن يكون من رجال الدين، فصلاة الميت كصلاة الجماعة، يكفي في الإمام البلوغ والعقل والإيمان وطهارة المولد، في قبالة هذه الشروط اليسيرة الهينة شدّدنا على أنفسنا وخلقنا لنا تشريعا ً جديدا ً يقوم على الغلظة، وقسونا على أنفسنا، وكأننا قمنا بتشريع جديد، ضمني وإن لم يكن بالصراحة، في قبالة ما يقوله الفقهاء، والعلماء في هذا يتحملون الجزء الأعظم في ترسيخ هذا المفهوم وتثبيته في عقول الناس والعامة، وكم كنا نتمنى لو أن هناك عالما ً متنورا ً وجريئا ً، لا يخشى سطوة العوام، ولا تجريح الناس وغمزات العلماء يقوم بانقلاب فكري وعملي قبل كل شيء، ويأمر في جنازة من الجنائز بأن يتقدم رجل من العوام ليصلي على تلك الجنازة، ويتحدى العرف ويقف له بالمرصاد، ويعود بالناس إلى أقوال الفقهاء، لا أقوال العرف والشائع، وما يريده الناس، فالدين في نقائه وأصوله هو الأولى بالاتباع، لا ما يريده العوام، ليقف هذا العالم بكل جرأة واقتدار وتحمل وليكن ما يكون، ولن يكون إلا الخير والتغيير، وإيقاظ الناس، وجرهم إلى ناحية الوعي والفهم الصحيح، وترك ما كانوا عليه من المفاهيم الخاطئة، والتي تُنسب للدين وهو منها بريء.


كيفية الصلاة :
لم أجد صلاة من الصلوات المفروضة والمستحبة معا ً أكثر سهولة ويسرا ً من صلاة الميت، فهي تمتاز بقلة عباراتها وإيجازها ويسرها وأنها لا تتجاوز بضع كلمات، وهي صلاة لا تأخذ من الوقت أكثر من نصف دقيقة، إي والله نصف دقيقة !! ولعلَّ هذا الكلام غريب على الناس، ويبعث على الدهشة والذهول، لأنهم يسمعون هذا مني الآن بينما يشهدون تلك الصلوات التي تقام على الميت فيجدونها تطول وتكون أكثر مما ذكرت، ولكن هذه هي الحقيقة، وهذا ما يقوله الفقهاء، ولكن بسبب سطوة العرف، وتطاول الزمن، وقوة الدخيل على الأصل، كل ذلك عمل عمله، وجعل تلك الصلاة السهلة الهينة، والتي بإمكان حتى الطفل الصغير أن يحفظها ويصليها صلاة طويلة، صعبة، لا يمكن إلا للخاصة أن يؤدوها، وحتى الخاصة من العلماء لم يتمكن من حفظها إلا القليل منهم، والذي عقدوا العزم على حفظها، والذين تكرر منهم أداءها، ولكثرة ما أقاموها على الموتى حفظوها.


الصلاة في الرسائل العملية :
الصلاة في الرسائل العملية لا تستغرق أكثر من أسطر قليلة، ليسرها، وسهولتها، ومن أجل أن يؤديها الجميع متى اقتضى الأمر، ولا تبقى الجنازة معطلة، فحرمة المؤمن من أعظم الحرمات، وهو مقدس لدى الله، حتى وهو ميت، ولذا ترى الدين يشرع من الأحكام ما يمتاز بالسهولة من أجل الإسراع بهذه الجنازة لأن توارى في الثرى، ولا تبقى رهينة الانتظار، انتظار من يأتي للصلاة عليها، فالصلاة كما قلنا لا تتجاوز في التشريع السطرين فقط .. فهي كما جاءت في الرسالة العملية للسيد الخوئي –رحمه الله- على الهيئة التالية :


1- الله أكبر :
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا ً رسول الله (ص).
2- الله أكبر :
اللهم صلّ على محمد وآل محمد.
3- الله أكبر :
اللهم اغفر للمؤمنين.
4- الله أكبر :
اللهم اغفر لهذا ( وتذكر اسم الميت).
5- الله أكبر :


وبهذا تنتهي الصلاة، ويؤدى الواجب .. أرأيت أيها القارىء الكريم صلاة أسهل وأكثر يسرا ً من هذه الصلاة ؟ ومن الممكن للجميع حفظها وتأديتها على أي جنازة تقام، وهي أسهل وأبسط حتى من الصلوات اليومية، ومن صلاة الآيات وصلاة العيدين، وكل الصلوات قاطبة .. هذه الصلاة السهلة اليسيرة قد تحولت إلى صلاة لا تضاهيها صلاة في الطول والتعقيد وكثرة التفاصيل، وكأنما الإنسان يصر على أن يوقع نفسه في المشقة والعسر في قبال اليسر والتيسير واللين الذي شرعه الله (جل وعلا) لهذا المخلوق الضعيف، من أجل أن يربطه بالدين، ويسهل عليه تأديته على أكمل وجه، وإقامة شعائره في كل وقت، ومن أجل أن يتسابق الجميع على أداء هذا الواجب، من دون تمييز بين هذا وذاك، وبين زيد وعمرو، فهذا واجب الجميع، والدين أمانة الله لكل أبناء البشرية من دون تخصيص، والغريب والمذهل في الموضوع برمته أن الإنسان وهو يشرع له ما يبعث إلى نفسه المشقة تراه يفعل ذلك بكل رضا، وكأنما يلتذ وهو يشق على نفسه، ويعذبها بالزائد من العرف الذي لم يقل به الدين في الأصل، وترى الجميع يشترك في هذه اللذة والرضا، والويل لك لو أنك أردت أو حاولت أن ترجع الناس إلى الأصل، أو  حاولت أن تبصرهم بالحقيقة، وتقل لهم: بأن هذه الصلاة ليست هي الأصل كما جاءت في الرسائل العملية، وأن بالإمكان أن يؤديها الجميع، أيا ً كان هذا المصلي، فأبسط ما سيقال لك : أنك تفهم أكثر من هؤلاء العلماء جميعا ً ؟! هل قرأت مجموعة بسيطة من الكتب واعتقدت نفسك عالما ً يفوق بقية العلماء والذين لم نسمع منهم يوما ً ما أن الصلاة في الأصل كما تقول، وأن بإمكان الجميع أداء هذه الصلاة ؟!!.


ولو كان الأمر كما تقول لما أداها العلماء طوال هذه السنوات الممتدة بهذه الكيفية والتي تأتي الآن لتبين خلافها ؟!!. 


الصلاة في العرف العام :
أما صلاة الميت كما تؤدى في الجنازة، وكما يشهدها كل الناس، ولا يحفظها إلا القلة من العلماء، فهي على الصورة التالية  :
الله أكبر :
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها ً واحدا ً أحدا ً صمدا ً فردا ً حيّا ً قيوما ً دائما ً أبدا ً لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأشهد أن محمدا ً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
الله أكبر :
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد، وارحم محمدا ً وآل محمد، وتحنن على محمد وآل محمد، بأفضل ما صليت وباركت ورحمت وتحننت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم صلّ على جميع أنبيائك ورسلك.
الله أكبر :
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، تابع اللهم بيننا وبينهم بالخيرات، إنك على كل شيء قدير.
الله أكبر :
اللهم إن هذا المسجى قدامنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، نزل بك وأنت خير منزول به، اللهم إنك قبضت روحه إليك وقد احتاج إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، اللهم إنا لا نعلم من ظاهره إلا خيرا، وأنت أعلام به منا، اللهم إن كان محسنا ً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا ً فتجاوز عن سيئاته، واغفر لنا وله، اللهم احشره مع من يتولاه ويحبه وأبعده ممن يتبرأ منه ويبغضه، اللهم ألحقه بنبيك وعرّف بينه وبينه ،وارحمنا إذا توفيتنا يا أرحم الراحمين، اللهم اكتبه عندك في أعلى عليين واخلف على عقبه في الغابرين واحشره مع من يتولاه من الأئمة الطاهرين، وعندك نحتسبه يارب العالمين، وارحمنا وإياه برحمتك يا أرحم الراحمين.
الله أكبر :
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.


بعد هذه الجولة في التعرف على الفرق بين صلاة الميت في أصلها لدى الشرع ولدى الفقهاء في الرسائل العملية، وفي العرف العام لدى العلماء ممن يؤدون هذه الصلاة، ولدى العوام قد تبين لنا بجلاء مدى مقدار الدخيل الذي تغلغل في أوساط العرف، والذي توسع وتوسع عن الأصل الذي يمتاز في بنيته باليسر والسهولة والتسهيل على الناس قاطبة، حتى تحولت إلى صلاة كأنها لا علاقة لها بالأصل من حيث الأوراد والذكر الذي يقام على الميت، ولو تعرف بعض العوام على هذه الصلاة القصيرة السهلة لأخذهم العجب، ولأصيبوا بالذهول مما يرون.


ولعلّ قائلا ً يقول : ما المانع هنا من هذه الأذكار والأدعية، وما الإشكال فيها مادامت تنطلق من روح الصلاة، وروح التشريع ؟


نحنا هنا لا نقول أن الإشكال في هذه الأذكار والأدعية التي تقال في الصلاة، ولكن الإشكال في تحويل الصلاة من صلاة سهلة، يسيرة، إلى صلاة من المشقة بمكان أن يحفظها أحد من العوام، والثاني أن تتحول هذه الصلاة التي هي ميسورة للكل أ، يؤديها، تتحول في العرف إلى أن تصبح مقتصرة في أدائها على الخاصة من العلماء المعممين، ولا يقبل العرف أبدا ً مهما حاولت أن يؤديها واحد من العوام، يلبس البنطلون والقميص، مع أنه أمر في غاية القبول لدى الدين، وفي غاية البساطة، والثالث أننا بسبب هذا الدخيل من الأدعية، والتطويل في الأوراد دخلنا إلى منطقة في الصلاة أشبه بالكفر والخروج من الدين فيما لو تجرأ أحد العلماء، أقول أحد العلماء، ومحل ثقة الناس وقبولهم وتأييدهم، وليس واحدا ً من العلماء، لو تجرأ هذا العالم وصلى على الميت بتلك الصلاة التي ذكرنا صورتها حيث جاءت في الرسائل العملية، ولم يصلّ على الجنازة بتلك الصلاة التي اعتادها الناس، وقام بترسيخها العرف بأذهانهم بقوة لا تواجه ؟ نحن هنا أمام مشهد مخيف لو تحول على أرض الواقع حسب ما افترضنا، ومن أراد التحقق مما نقول فليدعو أحد العلماء بالصلاة على الجنازة بالصلاة التشريعية التي جاء ذكرها في أقوال الفقهاء ولينتظر ردة الفعل !!


هذا ما نتخوف منه، وندعو لاقتلاعه من أفهامنا، ومن العرف الذي يأكلنا بسطوته ويجرفنا، وليس هذا هو العرف الذي يحتكم إليه الشرع، أبدا ً، هل يصل بنا الحال إلى أن تبقى الجنازة معطلة لساعات بينما الصلاة في التشريع لا تتجاوز سطرين ؟ ! وبإمكان كل المؤمنين التقدم للصلاة ؟ ثم أنه على افتراض لم نجد عالما ً يصلي، ما المانع هنا لو أنه قام أحد المؤمنين بالتقدم للصلاة ولو بالصلاة العرفية، ويكون ذلك عن طريق ورقة يحملها في يده ؟ أتصور أن هناك في تصور العرف، وفي تصور الناس ألف مانع ومانع، وكأننا بذلك نرتكب وزرا ً عظيما ً، بينما هذا هو الدين في تشريعه، وهذه هي الصلاة حسبما جاءت في كلمات ورسائل الفقهاء الأجلاء، فمن أين نأخذ الدن إذا ً، من الفقهاء أم من العوام ؟! من أحاديث الأئمة الأطهار والتي يعتمد عليها الفقهاء في استنباط الحكم الشرعي أم من العرف الذي إن انسقنا وراءه فإنه سيكبلنا في الأخير، ويدخلنا دينا ً لا علاقة له بما جاء في نصوص المعصومين.


ثانيا ً : صلاة الجماعة


مكانة صلاة الجماعة:
وردت أحاديث وروايات كثيرة تؤكّد أهمية صلاة الجماعة، ومنها ما جاء عن الإمام الصادق  عن آبائه  : عن رسول الله  : «مَن مشى إلى مسجد يطلب فيه صلاة الجماعة كان له بكل خطوة يخطوها سبعين ألف حسنة».
وورد عنه  في حديث ذكرته المصادر من الفريقين: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة»   أو كما في صحيح مسلم «صلاةٌ مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده» .
و ورد عن الإمام الباقر  أنه قال: «من ترك الجماعة رغبة عنها وعن جماعة المسلمين من غير علّة فلا صلاة له» .


وكذلك ورد عن الإمام الصادق(ع) : «مَنْ لم يصلِّ جماعة فلا صلاة له بين المسلمين، لأن رسول الله  قال: لا صلاة لمن لم يصلَِّ في المسجد مع المسلمين إلا من علة» .
وقد سأل زرارة الإمام الصادق(ع) : عن ما يروي الناس أن الصلاة في جماعة أفضل من صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين صلاة، فقال  : نعم، صدقوا.
عنه  : «إن الله يستحي من عبده إذا صلّى في جماعة ثم سأله حاجته أن ينصرف حتى يقضيها»   .


وفي هذا المجال ينقل الشيخ الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين»: روي أن السلف كانوا يعزّون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى، ويعزون أنفسهم سبعا إذا فاتتهم الجماعة .


وقد تحدث الفقيه المعروف السيد محمد كاظم اليزدي رحمة الله في العروة الوثقى عن الترغيب في صلاة الجماعة بشكل تفصيلي ومن عباراته ما يلي: (هي من المستحبات الأكيدة في جميع الفرائض، خصوصاً اليومية منها وخصوصاً في الأدائية، ولا سيّما في الصبح والعشاءين، وخصوصاً لجيران المسجد أومن يسمع النداء، وقد ورد في فضلها وذم تاركها من ضروب التأكيدات ما كاد يلحقها بالواجبات) إلى أن قال رحمة الله (وكلما كان المأمومون أكثر كان الأجر أزيد، ولا يجوز تركها رغبة عنها أو استخفافاً بها... فمقتضى الإيمان عدم الترك من غير عذر سيما مع الاستمرار عليه، فإنه كما ورد لا يمنع الشيطان من شيء من العبادات منعها) .


ويقول السيد محمد حسين فضل الله : " 88- صلاة الجماعة من أهم شعائر الإسلام، واستحبابها وطيد ومؤكد نصا ً وإجماعا ً، بل ثبت هذا الاستحباب بضرورة دين الإسلام وعند جميع المسلمين، وأجرها وثوابها من الله تعالى عظيم وقد يفوق أجر الكثير من الواجبات وجل المستحبات، وكلما ازدادت الجماعة وأعطت مظهرا ً حقيقيا ً لتجمع المسلمين والمصلين ارتفعت شأنا ً وجلت ثوابا ً. وهي أفضل ما تكون في الفرائض اليومية الحاضرة منها والفائتة وبالخصوص الحاضرة وبصورة أخص صلاة الصبح والمغرب والعشاء.


89 – وقد تجب صلاة الجماعة على الإنسان لأسباب طارئة :
منها : أن يضيق الوقت على المكلف وكان بطيء النطق، فلو صلى منفردا ً لما أدرك من الوقت المحدد للصلاة حتى ركعة  ولو صلاها مأموما ً بإمام سريع النطق لأدرك ركعة، فيجب عليه والحالة هذه أن يأتم.


ومنها : أن يكون المكلف بحاجة إلى تعلم للقراءة وقد أهمل ذلك حتى حلَّ وقت الصلاة ولا يسعه فعلا ً أن يصلي بصورة منفردة مع الحفاظ على القراءة ولكن يسعه أن يأتم ويعول في القراءة على الإمام فيجب عليه والحالة هذه أن يأتم.


ومنها : أن ينذر الصلاة جماعة أو يحلف بالله على ذلك أو نحو هذا مما يؤدي إلى وجوب طارئ "  ( الفتاوى الواضحة، ص 380، ط :1 – 1997، دار الملاك ).


أرأيت إلى هذه المكانة التي تحتلها صلاة الجماعة، وإلى الثواب الذي يحصل عليها من يؤديها، حتى كادت أن تلحق بالواجبات، لعظم مكانتها، وما جاء في التأكيد على الحرص على إقامتها، والمشاركة فيها مع جموع المؤمنين ؟ هذه المكانة العظمى التي احتلتها صلاة الجماعة للأسف الشديد نحن فرطنا فيها بسبب سطوة العرف، وقسوة المفاهيم الخاطئة التي يتوارثها الأبناء عن الآباء، جيلا ً بعد جيل ..


مما يعجبني في أخوتنا أبناء السنة حرصهم الشديد والظاهر لكل عين على إقامة صلاة الجماعة، حتى لو كان المصلي خلف الإمام رجلان، المهم أنهم لا يصلون فرادى، تحت أي ظرف كان، وفي أي مكان يتواجدون فيه، وذلك لما قرأوه من الروايات التي جاءت بكثرة في ضرورة إقامة صلاة الجماعة دون الصلاة الفردية، أما نحن –أبناء الشيعة– فتحت شعار الحرص على من نصلي وراءه، والتشديد في هذه المسألة إلى حد الإفراط والهوس، قبلنا لأنفسنا بأن نحرمها من الثواب العظيم قبالة الانصياع وراء العرف، ووراء ما وجدناه من سيرة آبائنا، ومن سبقونا، مع أن ما نصنعه لا أساس له من الصحة والعقل والدين، فالدين يقول لنا بوضوح : إن هناك مجموعة من الشروط يجب أن تتوفر في إمام الجماعة، ومتى ما توفرت هذه الشروط فعلينا الإسراع بالائتمام به، والصلاة خلفه، وهذا ما لا نجده في أوساطنا، وفي العرف الذي يكاد أن ينهش من جسدنا الإيماني، ويخسرنا ملايين الحسنات المضاعفة، ونحن لا نشعر بهذا، وكأننا في سبات عميق، أو كأننا رضينا بما نحن عليه وإن كان خاطئا ً من أوله لآخره، ومثلما شددنا في الرجل الذي يتقدم للصلاة على الميت، ترانا هنا شددنا أيضا ً في الرجل الذي يتقدم لصلاة الجماعة، حتى باتت من المحظورات في العرف المتداول، وقد صار من العرف العام غير المنطوق أنه لا يمكننا أن نصلي جماعة إلا وراء عالم معمم خريج الحوزات الدينية، ومن عداه فلا نصلي وراءه، مهما حاولنا، ومهما سعينا، فالعلماء رسّخوا في أوساط الناس هذا المفهوم، وثبّتوا هذا العرف، والناس قبلت به، وأشاعته، وتعايشت معه بكل قوة، وصارت الجماعة مقتصرة على المعمم، رجل الدين، والويل كل الويل – وإن لم ينطق الناس بهذا – لمن يتقدم للصلاة جماعة وهو من العوام، ويلبس البنطلون والقميص، فهل هذا من الشرع ؟ ومما جاء في أقوال الفقهاء الأجلاء، وعلماء الشريعة ؟ أقال العلماء  بهذا  أم  ما جاء خلاف ذلك ؟


شروط إمام الصلاة :
يفصل السيد السيستاني ومعه بقية المراجع القول في شروط إمام الجماعة في الأسطر التالية :
" يُشترط في إمام الجماعة مضافا ً إلى الإيمان والعقل وطهارة المولد، أمور :


الأول : الرجولة إذا كان المأموم رجلا ً.
الثاني : العدالة فلا يجوز الصلاة خلف الفاسق، ولابد من إحرازها بأحد الطرق المتقدمة في المسألة (20) فلا تجوز الصلاة خلف مجهول الحال. "


ما هذه الطرق التي من خلالها نتحقق من عدالة الإمام ؟ 



  1.  العلم الوجداني  أو الاطمئنان الحاصل من المناشىء العقلائية كالاختبار ونحوه. 
  2. شهادة عادلين بها (عدالة الإمام). 
  3. حسن الظاهر، والمراد به حسن المعاشرة والسلوك الديني، وهو يثبت أيضا ً بأحد الأمرين الأولين.

الثالث : أن يكون الإمام صحيح القراءة، إذا كان الائتمام في الأوليين وكان المأموم صحيح القراءة، بل مطلقا ً على الأحوط لزوما ً.


الرابع : أن لا يكون ممن جرى عليه الحد الشرعي على الأحوط لزوما ً ".


ونحن هنا يجب أن نصارح أنفسنا ونسألها بكل تجرد ووضوح : ألا تتوفر هذه الشروط إلا في رجل الدين، والعالم المعمم ؟ ألا يوجد رجل من العوام وبقية الناس من تتوفي فيه هذه الشروط ويكون صالحا ً للصلاة، يستحق أن نصلي وراءه بكل اطمئنان وهدوء نفس وبكل ثقة ؟ وهل هناك ميزة لصلاة رجل الدين عن غيره ؟ لا يوجد نص يقول بهذا، بل النصوص كلها تشدد على إقامة الجماعة في ظل من تتوفر فيه تلك الشروط، فالعدالة التي يتكلم فيها الكثيرون إلى حد التشدد يقول الفقهاء فيها إنها تتحقق بحسن الظاهر والعلم الوجداني وشهادة العدول، وهذه الشروط أسهل ما يكون، وهي تتوفر في أغلب أبناء القرى، وفي عموم المؤمنين، بجانب الرجولة وصحة القراءة، والحد الشرعي.


بل إن السيد السيستاني - ومعه الفقهاء - يذهب إلى القول التالي : " مسألة 829 : يجوز تصدي الإمامة لمن لا يحرز من نفسه العدالة  مع اعتقاد المؤمنين عدالته، بل يجوز له ترتيب آثار الجماعة أيضا ً على الأظهر " ( منهاج الصالحين، ج1، ص 271)، كل ذلك حرص من الشرع على إقامة هذه الفضيلة الإسلامية التي لا تدانيها فضيلة أخرى في القدر والمكانة والثواب الجزيل، والقرب من الله (ج) ..


أما القراءة السليمة فللسيستاني أبضا ً قول فيها، إذ يقول : " مسألة 807 : لا بأس في أن يأتم الأفصح بالفصيح، والفصيح بغيره، إذا كان يؤدي القدر الواجب " ( المصدر السابق، ص 266).


أجِلْ ببصرك في أوجه الناس، من أخوتك المؤمنين، ألا ترى فيهم الخير، والإيمان والصلاح ؟ ألا تراهم عدولا ً ؟ أفيهم من لا يحسن القراءة، أفيهم رجل قد أقيم عليه الحد والعياذ بالله ؟ أفيهم امرأة ؟ إذن لم هذا التشدد المفرط، لم هذا الانغلاق وفهم الدين على غير الوجه الذي هو عليه، لماذا نصر في كل مرة على مخالفة أقوال المعصومين (ع) ؟!! لماذا نعمل بخلاف الشرع وأقوال الفقهاء الأجلاء؟ لماذا نحرم أنفسنا من سعادة الدنيا وكنوز الآخرة بأمر لا يقره الدين ؟ أكل ذلك نجيب عليه حين المواجهة والسؤال : بأننا هكذا وجدنا الناس والعلماء وسار العرف بهذا، أتريدنا أن نصلي وراء كل من يتقدم ؟ لا طبعا ً، نحن لا نقول بهذا، ولكن الدين والشرع يؤكدان أنه عليك بالإسراع بإقامة الصلاة وراء  أخيك المؤمن، وليتقدم أحدكم، المهم أن تقام صلاة الجماعة، لا أن تترك، والمسجد يكتظ بالمؤمنين، ربما  خمسين أو مائة، أو أكثر حتى، والسبب لأن العالم لن يستطيع الحضور اليوم للصلاة لظرف طارئ، تجد الكل يصلي فرادى ذلك اليوم، ولا يجسر أحد الحضور من المؤمنين أن يتقدم لإقامة الصلاة، وإمامة المصلين، أهذا هو ما يقول به الشرع الحنيف ؟! أيرضى الأئمة بهذا الصنيع ؟! هل نرضاه نحن لأنفسنا بأن نضيع على الثواب العظيم قبالة ما وجدناه من عرف باطل ؟! لم هذا التشدد في الوقت الذي نجد أن الإسلام قد سهّل ويسّر لنا إقامة الجماعة، وأمرنا بانعقادها حتى لو كان العدد اثنين، وليقمها الأب مع أولاده، والموظفون مع بعضهم في العمل، والأصدقاء في الرحلات، والرجال فيما بينهم، والنساء كذلك، ولكننا واخسراه، واضيعتاه أحرقنا هذه الفضيلة العظمى، وضيعنا مكانتها في سبيل الرضوخ لأوهام الناس، وما أسّسه الآباء وبعض العلماء لمفاهيم مغلوطة، لا يقبل بها المعصومون قبل غيرهم.


ففي الوقت الذي يقول لنا فيه النبي (ص) : احرصوا على إقامة صلاة الجماعة بتلك الشروط السهلة اليسيرة، المهم أن لا تتركوها تحت أي عذر وأي ظرف، نحن قلنا بلسان الحال : عذرا ً يا رسول الله، لن نقيم صلاة الجماعة إلا وراء رجل من رجال الدين، وأن يكون معمما ً، مشهودا ً له بالمكانة العلمية، وأن يكون معروفا ً في أوساط الناس بالفضيلة والمقام الرفيع، ولن نقبل أن نصلي وراء المهندس أو الأستاذ أو الموظف أو العامل أو العامل أو الشيخ أو الشاب حتى لو توفرت فيهم الشروط المذكورة، وحتى لو كانوا محل ثقة واطمئنان، ومعروفين بالصلاح وحسن السيرة، والإيمان والعمل الصالح، والقراءة السليمة، وأداء الصلاة على أحسن وجه، مهما كان، وليكن ما يكون، لن تتم الصلاة إلا وراء عالم من علماء الدين، مهما حاولت، ومهما سعيت، ولابد أن يكون العدد كبيرا ً وإلا فإن هذه الصلاة في نظر الناس ليست صلاة جماعة، أصلاة جماعة والعدد أربعة ؟! عشرة ؟! وكأن صلاة الجماعة بالعدد، وثوابها بكم المصلين، وفضيلتها لا تتحقق إلا في ظل الزحام واكتظاظ المسجد.


" إن التيسير هو روح يسري في جسم الشريعة كلها، كما تسري العصارة في أغصان الشجرة الحية. وهذا التيسير مبني على رعاية ضعف الإنسان، وكثرة أعبائه، وتعدد مشاغله، وضغط الحياة ومتطلباتها عليه. وشارع هذا الدين رؤوف رحيم، لا يريد بعباده عنتا ً ولا رهقا ً، إنما يريد لهم الخير والسعادة وصلاح الحال والمال، في المعاش والمعاد.


كما أن هذا الدين لم يجيء لطبقة خاصة، أو لإقليم محدود، أو لعصر معين، بل جاء عاما ً لكل الناس، في كل الأرض، وفي كل الأزمان والأجيال، وإن نظاما ً يتسم بهذا التعميم وهذه السعة، لابد أن يتجه إلى التيسير والتخفيف، ليتسع لكل الناس، وإن اختلف بهم المكان والزمان والحال. وهذا ما يحسه ويلمسه كل من عرف هذا الدين.


فالقرآن ميسر للذكر، والعقيدة ميسرة للفهم، كما أن الشريعة ميسرة للتنفيذ والتطبيق. ليس فيها تكليف واحد يتجاوز طاقة المكلفين، كيف وقد أعلن القرآن هذه الحقيقة في أكثر من آية فقال : ( لا يكلف الله نفسا ً إلا وسعها )، ( لا تكلف نفس إلا وسعها )، ( لا يكلف الله نفسا ً إلا ما آتاها ). كما علّم المؤمنين أن يدعوا ربهم فيقولون : ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) وقد ورد في الصحيح : " إن الله استجاب لهم ".


وقد نفى القرآن كل حرج عن هذه الشريعة، كما نفى عنها العنت والعسر، وأثبت لها التخفيف واليسر. قال تعالى وهو يحدثنا عن رخص الصيام، من الفطر للمريض والمسافر : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ).
وقال سبحانه في ختام آية الطهارة بعد أن رخص في التيمم لمن لم يجد الماء : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ).
وقال تعالى في أواخر سورة الحج : ( هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ).
وفي سورة النساء بعد إباحة الزواج بالإماء لمن عجز عن الحرائر : ( يريد الله أن يخفف عنكم ).
وفي سورة البقرة بعد أن شرع العفو في القتل لمن طابت به نفسه : ( ذلكم تخفيف من ربكم ورحمة ).


وجاءت الأحاديث النبوية تؤكد هذا الاتجاه القرآني إلى التيسير، نقرأ فيها : " بعثت بحنيفية سمحة "، " إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين "، " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا " قاله لأبي موسى ومعاذ حين أرسلهما إلى اليمن " ( الخصائص العامة للإسلام، يوسف القرضاوي، ص177، ط : 10، 1997، مؤسسة الرسالة )


هذا الدين السهل في أحكامه، والسهل في تطبيقه وفي ترجمته على أرض الواقع، قد تحول بسبب العرف الذي هو صناعة بشرية اشترك فيها مجموعة من العوام بجانب ثلة من رجال الدين، إلى دين صعب، وإلى طقوس لا تلتقي مع الدين في نقائه وأصوله، ونحن هنا علينا أن نختار ونقر ر، إما الرضوخ لهذه الزيادات، والاستسلام لهذا العرف الباطل، أو الرجوع إلى الدين في أصله الذي جاء على لسان المعصومين (ع)، والذي نادت به الرسائل العملية للفقهاء الأجلاء، ولنكن أبطالا ً ونمتاز بالشجاعة الأدبية ونحن نواجه هذا العرف، ولا نخشى في الله لومة لائم، حينها سنحضى بسعادة ومجتمع يقيم شرع الله بنقائه، ويعود الدين من جديد إلى يسره وبساطته والكل يشترك في إقامته، بلا تمييز بين هذا وذاك، وبين رجل وآخر.


علي المحرقي

التعليقات (6)

  1. avatar
    نور فاطمة

    كل الشكر والثناء لكاتب هذا الموضوع وما أحوجنا لهكذا أطروحات تبين للعامة مدى اليسر الكبير الذي يحمله ديننا الحنيف، ومع الأسف الشديد بتنا في زمن أصبح اليسر عسيرا حتى تخلى الجميع عنه، وكما ذكر كاتبنا حفظه الله أن صلاة الميت مثلاً لا يحفظها إلا القلة من العلماء فما بالك بعوام الناس، وعن نفسي لم أكن أعرف أن صلاة الميت بهذا اليسر وللتو عرفت أنني حافظ لكيفية وأداء صلاة الميت لوحدي، أتمنى أن نجد مقالات تصحيحية في هذا المجال حتى يعم الوعي الكبير لذى كافة الناس ونكون على بصيرة من ديننا وأحكامه

  2. avatar
    خميسي

    موضوع يستحق القراءة استاذ علي

  3. avatar
    سلمان

    سلام عليكم شكرا لك على الموضوع لكن هل سالت نفسك عزيزي منذ متى كان الناس يقدمون العالم الى الصلاة لو تصفحت تاريخ الامامية ستجد ان العالم منذ الغيبة الصغرى وبداي الكبرى المقدم الى الصلاة هو العالم المعروف بعلمه وورعه بل لو سالت العلماء الذين يصححون الصلاة خلف كل مؤمن وهو الحكم الصحيح لرايتهم يقولون الافضل هو العالم فمادام العالم موجود فليس مستحسنا ان يتقدمه غيره ولهذا السيد الخميني يحتاط في امامة الغير عالم او غير المعمم مادام المعمم موجود فالعلماء كل العلماء الفقهاء يجعلون المعمم العارف بالاحكام هو المقدم فلهذا افتو وقالو العارف بالاحكام هو مقدم على نحو الاستحباب فهل تريد ان تبعد العارف بالاحكام وتقدم غيره فهل تعلم ان لصلاة الجماعة والميت احكام عادة يحيط بها المتعلم والدارس الى الكتب الفقهية فهل ستبطل الصلاة او تعيدها كلما عرضت لك مشكله او حكما من الاحكام في وقت الصلاة ان العادة الموجوده عادة حسنة وسنة حسنة ولهذا كان اصحاب النبي والائمة يسالون الامام ان يشرفهم بالصلاة على الميت مثلا تامل جيدا تهدى

  4. avatar
    السيد

    والإسلام لأنه بسيط في تشريعاته وتكوينه فإنه يرفض أن تكون هناك وساطة بين العبد وربه، هل الاسلام يرفض ان تكون واسطة بين العيد و ربه هل هي عقيدة ام عدم توفيق في العبارة و لكم جزيل الشكر

  5. avatar
    متأمل

    شكرا علي المقال الجيد مجرد رأي يبدو هذ الراي مقدمة لتهميش المعمم و تقديم المثقف وهو امتداد لسجال حول هل ان المثقف يمكن ان يحل محل المعمم مع ملاحظة ان ليس كل معمم يقدم للصلاة بل من يكون معروف بالورع و التقوى و العلم مع مراجعة اراء المثقفين في بعض المسائل العقائدية وشذوذها فلا يمكن الوثوق في المثقف(شريعتي مثال واضح )لأن تصديه للصلاة يمكنه من نشر معثقداته بين الناس والتي تكون في معظم الاحيان من بنات افكاره و استحسناته فالمثقف في بعض التعريفات هو من يعرف عن كل شيء شيء و هنا في الدين لا نحتاج من يعرف من الدين شيء بل كل شيء حتى تكون ديننا دين ال محمد لا دين هجين بين عدة افكار و نتيجة تأثر بثقافات

  6. avatar
    السيد

    الصلاة في نظر الناس ليست صلاة جماعة، أصلاة جماعة والعدد أربعة ؟! عشرة ؟! وكأن صلاة الجماعة بالعدد، وثوابها بكم المصلين، وفضيلتها لا تتحقق إلا في ظل الزحام واكتظاظ المسجد. الأخ المحرقي بخصوص صلاة الجماعة كما تعرف ان عدد المصلين كلما زاد زاد ثوابها حتى اذا زاد عن عشرة لا يحصي ثوابها الا الله

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع