شارك هذا الموضوع

معاجز الإمام الكاظم (ع)

هناك فرق كبير بين فكرة الغلو المرفوضة عند المسلمين بشدة ، وبين الإعتقاد بكرامة أولياء الله ، واستجابة الله دعائهم ، ونظرهم بنور الله إلى الحقائق .
ذلك أن فكرة الغلو تسمو بالشخص إلى درجة الألوهية وترى أن الرب سبحانه وتعالى يحل في عباده ، حتى يصبح العبد هو الرب بروحه ، وتكون قدراته آنئذٍ ذاتية .
بينما الإعتقاد بالإعجاز لدى أولياء الله يعكس التوحيد الخالص حيث يرفض أي تحول ذاتي في شخص النبي أو الإمام أو الولي ، إنما يعني تفضيل الله لعباده المخلصين ، وإكرامهم بالعلم أو القدرة .


وفي الوقت الذي نجد الآيات القرآنية تقدس الله وتسبّحه وتذكرنا باستحالة حلوله في شيء أو شخص وتندد بعقائد الشرك ، في ذات الوقت تذْكر لنا معاجز الأنبياء (ع) التي دلّت على كرامتهم عند الله ، حيث أجرى الله على أيديهم تلك المعاجز فيقول الله سبحانه في شأن عيسى ابن مريم (ع) :
{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِاَيَةٍ مِن رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَاَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَاُبْرِئُ اْلأَكْمَهَ وَاْلأبْرَصَ وَاُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله وَاُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (آل عمران/49)


إن تكرار كلمة ( بإذن الله ) يدلل على أن تلك المعاجز لا تعني حلولاً إلهياً في شخص عيسى ليجعله ابناً لله سبحانه وتعالى عما يقوله المشركون ، بل على أن الله يهب لعبده ما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء .


وهكذا كانت عقيدة المسلمين في الأئمة (ع) والأولياء بأن الله قد أكرمهم بالعلم والقدرة ، وهذا من صميم عقيدة التوحيد ، أوليس الله بقادر على أن يكفي عبده وينصره ويطلعه على غيبه إذا ارتضاه ؟ ولِمَ لا يفعل الرب بعبده المطيع له المخلص في العبادة مثل ذلك ؟ أوليس الله يحب التوّابين ويحب المتطّهرين ويحب المتوكّلين ، ويحب من يطيعه ، ويجزي من يعبده ، ويجزي المتصدقين ، ويجزي المحسنين ، ويكرم المتقين ، ويسلّم ويصلي على عباده الصابرين ؟ كما نقرأ في أكثر سور القرآن الكريم.


إن من لا يعتقد بالتأييد الإلهي لعباده الصالحين وفي طليعتهم الأئمة المعصومين (ع) ، ويثير الشكوك حول معاجزهم ، يكاد يكفر بروح القرآن وباطنه ومحتواه وأعظم معانيه .


إن لبّ رسالات الله هو الإعتقاد بأن الله مهيمن على عرش القدرة ، ويفعل ما يشاء وأنه لا يفعل إلاّ بحكمة بالغة ، وخلاصة الحكمة جزاء من أحسن وعقاب من أساء ، فإذا كان سواء عنده من أحسن ومن أساء وكان لا ينصر عباده المؤمنين ولا يخذل الكفار والمنافقين ، فما هي فائدة الإيمان بقدرته وحكمته و. و ..


وهكذا كان الإمام موسى بن جعفر حليف القرآن ، وأعبد الناس للرب في عصره ، وأعظم المطيعين للخالق ، كان له من المعاجز والكرامات ما اعترف بها المسلمون جميعاً ، ولا يسعنا أن نذكر فيما يلي إلاّ قليلاً منها (1):


1 - لقد أنقذ الله سبحانه عبده الصالح موسى بن جعفر (ع) من طغاة عصره بفضل توكله عليه وتبتله إليه ، وكذلك ينجي الله المؤمنين .


جاء في الحديث عن عبيد الله بن صالح قال : حدثني حاجب الفضل بن الربيع عن الفضل بن ربيع قال : كنت ذات ليلة في فراشي مع بعض جواريّ فلما كان في نصف الليل سمعت حركة باب المقصورة فراعني ذلك فقالت الجارية : لعل هذا من الريح ، فلم يمض إلاّ يسير حتى رأيت باب البيت الذي كنت فيه قد فتح ، وإذا مسرور الكبير قد دخل عليّ فقال لي : أجب الأمير ، ولم يسلّم عليّ .


فيئست من نفسي وقلت : هذا مسرور ، دخل إليّ بلا إذن ولم يسلم ، ما هو إلاّ القتل ، وكنت جنباً فلم أجسر أن أسأله إنظاري حتى أغتسل ، فقالت لي الجارية : لما رأت تحيّري وتبلّدي : ثق بالله عزّ وجلّ وانهض ، فنهضت ، ولبست ثيابي ، وخرجت معه حتى أتيت الدار ، فسلمت على أمير المؤمنين وهو في مرقده فرد عليَّ السلام فسقطت فقال : تداخلك رعب .؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، فتركني ساعة حتى سكنت ثم قال لي : صر إلى حبسنا فأخرج موسى بن جعفر بن محمد وادفع إليه ثلاثين ألف درهم ، واخلع عليه خمس خلع ، واحمله على ثلاث مراكب ، وخيره بين المقام معنا أو الرحيل عنا إلى أيّ بلد أراد وأحب .


فقلت : يا أمير المؤمنين تأمر بإطلاق موسى بن جعفر ؟ قال : نعم فكرّرت ذلك عليه ثلاث مرات ، فقال لي : نعم ويلك أتريد ان أنكث العهد ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين وما العهد ؟ قال : بينا أنا في مرقدي هذا إذ ساورني أسود ما رأيت من السودان أعظم منه فقعد على صدري وقبض


على حلقي وقال لي : حبست موسى بن جعفر ظالماً له ؟ فقلت : فأنا أطلقه وأهب له ، وأخلع عليه ، فأخذ عليّ عهد الله عزّ وجلّ وميثاقه ، وقام عن صدري ، وقد كادت نفسي تخرج .


فخرجت من عنده ووافيت موسى بن جعفر (ع) وهو في حبسه ، فرأيته قائماّ يصلي فجلست حتى سلم ، ثم أبلغته سلام أمير المؤمنين ، وأعلمته بالذي أمرني به في أمره ، وأني قد أحضرت ما وصله به ، قال : إن كنت أمرت بشيء غير هذا فافعله ؟ فقلت : لا وحق جدّك رسول الله ما أمرت إلاّ بهذا ، فقال : لا حاجة لي في الخلع والحملان والمال إذ كانت فيه حقوق الأمة فقلت : ناشدتك بالله أن لا ترده فيغتاظ ، فقال : إعمل به ما أحببت ، وأخذت بيده (ع) وأخرجته من السجن .


ثم قلت له : يابن رسول الله أخبرني بالسبب الذي نلت به هذه الكرامة من هذا الرجل ، فقد وجب حقي عليك لبشارتي إياك ، ولما أجراه الله عزّ وجلّ علي يدي من هذا الأمر ، فقال (ع) : رأيت النبي (ص) ليلة الأربعاء في النوم فقال لي : يا موسى أنت محبوس مظلوم ؟ فقلت : نعم يا رسول الله محبوس مظلوم ، فكرر عليً ذلك ثلاثاً ثم قال :


{ وإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } (الانبياءِ/111) أصبح غداً صائماً وأتبعه بصيام الخميس والجمعة ، فإذا كان وقت الإفطار فصلّ اثنتي عشر ركعة تقرأ في كلّ ركعة الحمد واثنتي عشرة مرة قل هو الله أحد ، فإذا صلّيت منها أربع ركعات فاسجد ثم قل : يا سابق الفوت يا سامع كلّ صوت يا محيي العظام وهي رميم بعد الموت ، أسألك باسمك العظيم الأعظم أن تصلي على محمد عبدك ورسولك وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين وأن تعجل لي الفرج مما أنا فيه “ ففعلت فكان الذي رأيت (2).


2 - وقد دعا سيدنا الكاظم (ع) لإنقاذ بعض المؤمنين من شيعته من ظلم الطاغية ن فاستجاب الله دعاءه حيث جاء في التاريخ عن صالح بن واقد الطبري قال : دخلت على موسى بن جعفر فقال : يا صالح إنه يدعوك الطاغية يعني هارون فيحبسك في محبسه ويسألك عني فقل إني لا أعرفه ، فإذا صرت إلى محبسه فقل من أردت أن تخرجه فأخرجه بإذن الله تعالى ، فدعاني هارون من طبرستان فقال : ما فعل موسى بن جعفر فقد بلغني أنه كان عندك ؟ فقلت : ما يدريني من موسى بن جعفر ؟ أنت يا أمير المؤمنين أعرف به وبمكانه ، فقال : اذهبوا به إلى الحبس ، فوالله إني لفي بعض اللّيالي قاعد وأهل الحبس نيام إذ أنا به يقول : يا صالح ، قلت : لبيك قال : صرت إلى ههنا ؟ فقلت : نعم يا سيدي ، قال: قم فاخرج واتبعني ، فقمت وخرجت ، فلما صرنا إلى بعض الطريق قال : صالح يا رسول الله محبوس مظلوم فكرر عليّ ذلك ثلاثاً ، ثم قال :


السلطان سلطاننا كرامة من الله أعطاناها ، قلت : يا سيدي فأين أحتجز من هذا الطاغية ؟ قال : عليك ببلادك فارجع إليها فإنه لن يصل إليك ، قال صالح : فرجعت إلى طبرستان ، فوالله ما سأل ولا أدري أحبسني أم لا (3).


3 - وكان يؤدب شيعته على التقوى ، ويعطيه الرب نوراً يعلم به خباياهم ، فقد جاء في الحديث عن عبد الله بن القاسم بن الحارث البطل ، عن مرازم قال : ( دخلت المدينة فرأيت جارية في الدار التي نزلتها فعجبتني فأردت أن أتمتع منها فأبت أن تزوجني نفسها ، فجئت بعد العتمة فقرعت الباب فكانت هي التي فتحت لي ، فوضعت يدي على صدرها فبادرتني حتى دخلت ، فلما أصبحت دخلت على أبي الحسن (ع) فقال : يا مرازم ليس من شيعتنا من خلا ثم لم يرع قلبه ) (4).


4 - وينتفع بعلمه الإلهي في سبيل تربية شيعته على الانضباط ، باعتباره ضرورة قصوى في سائر حقول الحياة ، وبالذات حقل الجهاد ، جاء في الآثار :


عن محمد بن الحسين بن علي عن حسان الواسطي ، عن موسى بن بكر قال : ( دفع إليّ أبو الحسن الأول (ع) رقعة فيها حوائج وقال لي : إعمل بما فيها ، فوضعتها تحت المصلّى ، وتوانيت عنها ، فمررت فإذا الرقعة في يده ، فسألني عن الرقعة فقلت : في البيت ، فقال : يا موسى إذا أمرتك بالشيء فاعمله وإلاّ غضبت عليك (5) .


5 - وربما اقتضى الأمر الإعجاز بهدف تأديب الشيعة على التواضع للحق ، والإبتعاد عن الكبر والتعالي للارتفاع بهم إلى مستوى ( حزب الله ) الذين لا يتمايزون عن بعضهم بما يملكون من مال أو علم أو منصب ، دعنا نقرأ معاً قصة علي بن يقطين ، وهو وزير في سلطان الطغاة ، وبحكم منصبه ربما أخذه الغرور وتعالى على سائر المؤمنين ، لننظر كيف يؤدبه الإمام ، ويستخدم قدرته الإلهية لتربية روح التقوى فيه .


عن محمد بن علي الصوفي قال : ( استأذن إبراهيم الجمّال رضي الله عنه على أبي الحسن علي بن يقطين الوزير فحجبه ، فحج علي بن يقطين في تلك السَّنة فاستأذن بالمدينة على مولانا موسى بن جعفر فحجبه ، فرآه ثاني يومه فقال علي بن يقطين : سيدي ما ذنبي ؟ فقال : حجبتك لأنك حجبت أخاك إبراهيم الجمال ، وقد أبى الله أن يشكر سعيك أو يغفر لك حجب إبراهيم الجمّال ، فقلت : يا سيدي ومولاي من لي بإبراهيم الجمّال في هذا الوقت وأنا بالمدينة وهو بالكوفة ؟ فقال : إذا كان الليل فامض إلى البقيع وحدك من غير أن يعلم بك أحد من أصحابك وغلمانك واركب نجيباً هناك مسرجاً ، قال : فوافى البقيع وركب النجيب ولم يلبث أن أناخه على باب إبراهيم الجمّال بالكوفة ، فقرع الباب وقال : أنا علي بن يقطين.


فقال إبراهيم الجمّال من داخل الدار : وما يعمل علي بن يقطين الوزير ببابي ؟! فقال علي بن يقطين : يا هذا إن أمري عظيم ، وآلى عليه أن يأذن له ، فلما دخل قال : يا إبراهيم إن المولى (ع) أبى أن يقبلني أو تغفر لي ، فقال : يغفر الله لك فآلى علي بن يقطين على إبراهيم الجمّال أن يطأ خده فامتنع ابراهيم من ذلك ، فآلى عليه ثانياً ففعل ، فلم يزل ابراهيم يطأ خده ، وعلي بن يقطين يقول : اللهم اشهد ، ثم انصرف وركب النجيب وأناخه من ليلته بباب المولى موسى بن جعفر (ع) بالمدينة ، فأذن له ودخل عليه فقبله ) (6) .


6 - باعتباره قائد المسلمين ، وخليفة رسول الله (ص) الذي تحلّى بمكارم الخلق المحمدي ، فإنه كان رحيماً بالمؤمنين عزيزاً عليه ما عندتم .


وكثيراً ما كان ينظر بنور الله فيرى الضر الّذي قد يلحق بهم فيبادر برفعه عنهم بطريقة أو باخرى حتى ولو كان من النوع الفردي أو الجزئي ، دعنا نقرأ معاً القصة التالية :


عن إبراهيم بن عبد الحميد قال : ( كتب إليّ أبو الحسن (ع) - قال عثمان بن عيسى وكنت حاضراً بالمدينة - : تحوّل عن منزلك ، فاغتمَّ بذلك ، وكان منزله منزلاً وسطاً بين المسجد والسوق ، فلم يتحوّل ، فعاد إليه الرسول : تحوّل عن منزلك ، فبقي ، ثم عاد إليه الثالثة : تحوّل عن منزلك ، فذهب وطلب منزلاً وكنت في المسجد ، ولم يجيء إلى المسجد إلاّ عتمة فقلت له : ما خلّفك ؟ فقال : ما تدري ما أصابني اليوم ؟ قلت : لا ، قال : ذهبت أستقي الماء من البر لأتوضأ فخرج الدلو مملوءاً خرءاً وقد عجّنا خبزنا بذلك الماء ، فطرحنا خبزنا وغسلنا ثيابنا ، فشغلني عن المجيء ، ونقلت متاعي إلى البيت الذي أكتريته ، فليس بالمنزل إلاّ الجارية ، الساعة أنصرف وآخذ بيدها ، فقلت : بارك الله لك ، ثم افترقنا ، فلمّا كان سحراً خرجنا إلى المسجد فقال : ما ترون ما حدث في هذه الليلة ؟ قلت : لا “ قال : سقط والله منزلي ، السفلى والعليا ) (7) .


هكذا قدم الإمام نصيحته لشيعته في مسألة حياتية جزئية ولكنها هامة بالنسبة إلى الفرد المؤمن صاحب المسألة ، وفي واقعة أخرى نجد الإمام ينصح الفرد في مسألة تجارية تبدو هي الأخرى جزئية ولكنها تكشف عن حقيقة الإهتمام بامور المسلمين ، والواقعة رويت هكذا :


عن الحسن بن علي بن النعمان ، عن عثمان بن عيسى قال : ( أبو الحسن (ع) لإبراهيم بن عبد الحميد ، ولقيه سحراً وإبراهيم ذاهب إلى قبا ، وأبو الحسن (ع) داخل إلى المدينة فقال : يا إبراهيم فقلت : لبيك ، قال : إلى أين ؟ قلت : إلى قبا ، فقال : في أي شيء ؟ فقلت : إنَّا كنا نشتري في كل سنة هذا التمر فأردت أن آتي رجلا من الأنصار فأشتري منه من الثمار ، فقال : وقد أمنتم الجراد ، ثم دخل ومضيت أنا فأخبرت أبا العز ، فقال : لا والله لا أشتري العام نخلة ، فما مرت بنا خامسة ، حتى بعث الله جراداً فأكل عامة مافي النخل ) (8) .


علم الإمامة :
إن قاعدة الرسالات الإلهية قائمة على أساس الإيمان بالغيب ، وأبرز مظاهر الغيب هو العلم به من قبل عباد الله المقربين ، أوليس ذات الكتاب الذي يوحى إلى النبي - أيّ نبي - ويؤمر الناس باتباعه من الغيب ؟


كيف علّم الله رسوله النبي الأمي كل تلك الرسالة العظيمة وذلك الكتاب الكريم ، الذي تحدّى العالمين أن يأتوا بمثل بعض سوره أو آياته .


إننا نقرأ في الكتاب حجة عيسى ابن مريم على قومه أن ينبئهم بما يدّخرون في بيوتهم .


وهكذا يكون علم الإمام الإلهي الذي تجاوز حدود علم الناس دليلاً على أنه مؤيد بالله ، وأنه الإمام ، والحجة على الناس أجمعين .


كيف يكون هذا العلم ؟ هل يكون عبر توارث الحديث عن رسول الله عن جبرائيل عن الله ، أم عبر نكت في القلوب ونقرٍ في الأسماع ، أو عبر عمود من نور ينظر إليه الإمام متى شاء الله أن يعلم شيئاً فيعلم ، أم بنزول الروح - وهو أعظم من الملائكة - عليه ليلة القدر ؟!


الصحيح أن كل ذلك وربما غير ذلك مما لا نعلم من سبل العلم الإلهي يكون طريق علم الإمام ، ولم نكلف نحن بمعرفة تفاصيل ذلك ، إنما يكفينا أن الإمام يعلم - بإذن الله - بما يجهله الناس ، وبذلك يفضّل عليهم ، ولا بدّ أن يكون مطاعاً فيهم بإذن الله .


جاء في حديث شريف عن أبي عبد الله الصادق (ع) :


“ فال قلت : أخبرني عن علم عالمكم ؟ قال : وراثة من رسول الله (ص) ومن علي بن أبي طالب (ع) ، فقلت : إنَّا نتحدث أنه يقذف في قلبه أو ينكث في إذنه ، فقال : أو ذاك “ (9).


أي لعله يكون ذلك .


والإمام الكاظم نطق بعلم الرسالة في كافة الحقول ، ويكفيك وصيته لهشام التي تعتبر خلاصة حكم الأنبياء ، وزبدة رؤى الرسالات ، وما نذكره فيما يلي رشح من بحر علمه الزاخر :


1 - روي أن إسحاق بن عمار قال : ( لما حبس هارون أبا الحسن موسى (ع) دخل عليه أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، صاحبا أبي حنيفة فقال أحدهما للآخر : نحن على أحد الأمرين ، إما أن نساويه أو نشكله ، فجلسا بين يديه ، فجاء رجل كان موكلاً من قبل السندي بن شاهك ، فقال : إن نوبتي قد انقضت وأنا على الإنصراف فإن كان لك حاجة أمرتني حتى آتيك بها في الوقت الذي تخلفني النوبة ؟ فقال : مالي حاجة ، فلما أن خرج قال لأبي يوسف :


( ما أعجب هذا يسألني أن أكلفه حاجة من حوائجي ليرجع وهو ميت في هذه الليلة ) .


فقاما فقال أحدهما للآخر : إنا جئنا لنسأله عن الفرض والسنَّة وهو الآن جاء بشيء آخر كأنه من علم الغيب .


ثم بعثا برجل مع الرجل فقالا : إذهب حتى تلزمه وتنظر ما يكون من أمره في هذه الليلة وتأتينا بخبره من الغد ، فمضى الرجل فنام في مسجد في باب داره ، فلما أصبح سمع الواعية ورأى الناس يدخلون داره فقال : ما هذا ؟ قالوا قد مات فلان في هذه الليلة فجأة من غير علة ، فانصرف إلى أبي يوسف ومحمد واخبرهما الخبر ، فأتيا أبا الحسن (ع) فقالا : قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال والحرام فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أنه يموت في هذه الليلة ؟ قال :


( من الباب الذي أخبر بعلمه رسول الله (ص) علي بن أبي طالب (ع) ) . فلمّا ردّ عليهما هذا بقيا لا يحيران جواباً ) (10) .


هكذا أوتي الإمام موسى بن جعفر (ع) علم المنايا كما أوتي ذلك من قبل أنبياء الله وأوليائه الكرام .


2 - وكذلك أوتي علم منطق الناس بإذن الله تعالى ، فقد جاء في الحديث عن ابن أبي حمزة قال : (كنت عند أبي الحسن موسى (ع) إذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبشة اشتروا له ، فتكلم غلام منهم فكان جميلاً بكلام فأجابه موسى (ع) بلغته ، فتعجب الغلام وتعجبوا جميعاً وظنوا أنه لا يفهم كلامهم ، فقال له موسى : إني لأدفع إليك مالاً فادفع إلى كل منهم ثلاثين درهماً ، فخرجوا وبعضهم يقول لبعض : إنه أفصح منا بلغاتنا ، وهذه نعمة من الله علينا .


قال علي بن أبي حمزة : فلما خرجوا قلت : يابن رسول الله رأيتك تكلم هؤلاء الحبشيين بلغاتهم ؟! قال : نعم ، قال : وأمرت ذلك الغلام من بينهم بشيء دونهم ؟ قال : نعم أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً ، وأن يعطي كل واحد منهم في كل شهر ثلاثين درهماً ، لأنه لما تكلم كان أعلمهم فإنه من أبناء ملوكهم ، فجعلته عليهم وأوصيته بما يحتاجون إليه ، وهو مع هذا غلام صدق ، ثم قال : لعلك عجبت من كلامي إياهم بالحبشة ؟ قلت : إي والله قال : ( لا تعجب فما خفي عليك من امري أعجب وأعجب ، وما الذي سمعته مني إلاّ كطائر أخذ بمنقاره من البحر قطرة ، أفترى هذا الذي يأخذه بمنقاره ينقص من البحر ؟! والإمام بمنزلة البحر لا ينفذ ما عنده وعجائبه أكثر من عجائب البحر ) (11) .


3 - وجاء في حديث آخر يرويه علي بن حمزة قال : ( أرسلني أبو الحسن (ع) إلى رجل قدّامه طبق يبيع بفلس فلس وقال : أعطه هذه الثمانية عشر درهماً وقل له : يقول لك أبو الحسن : انتفع بهذه الدراهم فإنها تكفيك حتى تموت ، فلما أعطيته بكى ، فقلت : وما يبكيك ؟ قال : ولم لا أبكي وقد نعيت إليّ نفسي ، فقلت : وما عند الله خير مما أنت فيه ، فسكت وقال : من أنت يا عبد الله ؟ فقلت علي بن أبي حمزة ، قال : والله لهكذا قال لي سيدي ومولاي أني باعث إليك مع علي بن أبي حمزة برسالتي ، قال علي : فلبثت نحواً من عشرين ليلة ثم أتيت إليه وهو مريض فقلت : أوصني بما أحببت أنفذه من مالي ، قال : إذا أنا متّ فزوج ابنتي من رجل دين ، ثم بع داري وادفع ثمنها إلى أبي الحسن ، واشهد لي بالغسل والدفن والصلاة . قال : فلما دفنته زوّجت ابنته من رجل مؤمن وبعت داره وأتيت بثمنها إلى أبي الحسن (ع) فزكاه وترحم عليه وقال : رد هذه الدراهم فادفعها إلى ابنته ) (12) .


4 - وإذا كان علم الأئمة من الله ، فإن الله سبحانه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض ، وقد تقضي حكمته أن يجعل علمه عند صبي في المهد ، كما فعل بالمسيح عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا (ع) ، وهكذا أظهر قدرته في شخص الإمام الكاظم (ع) حيث جاء في حديث شريف مأثور عن عيسى شلقان قال : ( دخلت على أبي عبد الله (ع) وأنا أريد أن أسأله عن أبي الخطاب فقال لي مبتدئاً من قبل أن أجلس : ما منعك أن تلقى ابني موسى فتسأله عن جميع ما تريد ؟ قال عيسى : فذهبت إلى العبد الصالح (ع) وهو قاعد في الكتّاب وعلى شفتيه أثر المداد فقال لي مبتدئاً : يا عيسى إن الله أخذ ميثاق النبيين على النبوة فلم يتحوّلوا عنها ، وأخذ ميثاق الوصيين على الوصية فلم يتحولوا عنها أبداً ، وإن قوماً إيمانهم عارية ، وإن أبا الخطاب ممن أعير الإيمان فسلبه الله إياه ، فضممته إليّ وقبلت ما بين عينيه وقلت : ذرية بعضها من بعض .


ثم رجعت إلى الصادق (ع) فقال : ما صنعت ؟ قلت : أتيته فأخبرني مبتدئاً من غير أن أسأله عن جميع ما اردت ، فعلمت عند ذلك أنه صاحب هذا الأمر ، فقال : يا عيسى إن ابني هذا الذي رأيت لو سألته عما بين دفتي المصحف ، لأجابك فيه بعلم ثم اخرجه ذلك اليوم من الكتاب ) (13).


5 - حينما يسقط الحجاب بين الرب وعبده ، وحينما يبلغ الصفاء الروحي والمعرفة الإلهية القمة ، فإن الدنيا تاتي مطيعة للعبد الصالح ، كما قال الله في الحديث القدسي :


“ عبدي ، أطعني تكن مِثلي ( أو مَثَلي ) أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون “ .


هكذا يروي لنا شقيق البلخي جانباً من الكرامة التي خصها الله تعالى لإمامنا السابع موسى بن جعفر (ع) فيقول : ( خرجت حاجّاً في سنة تسع وأربعين ومائة ، فنزلت القادسية فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم ، فنظرت إلى فتى حسن الوجه شديد السمرة ضعيف ، فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة ، في رجليه نعلان وقد جلس منفرداً ، فقلت في نفسي : هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلا على الناس في طريقهم ، والله لأمضين إليه ولأوبخنَّه ، فدنوت فلما رآني مقبلاً قال : يا شقيق :


{ اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } (الحُجُرات/12)


ثم تركني ومضى ، فقلت في نفسي إن هذا الأمر عظيم قد تكلم بما في نفسي ونطق بإسمي ، وما هذا إلاّ عبد صالح لألحقنَّه ولأسألنه أن يحللني ، فأسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عن عيني ، فلما نزلنا واقصة وإذا به يصلّ وأعضاؤه تضطرب ، ودموعه تجري فقلت : هذا صاحبي أمضي إليه وأستحلّه .


فصبرت حتى جلس ، وأقبلت نحوه فلما رآني مقبلاً قال : يا شقيق اتلُ : { وإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } (طه/82)


ثم تركني ومضى ، فقلت : إن هذا الفتى لّمِنَ الأبدال ، لقد تكلّم على سرّي مرتين ، فلما نزلنا زُبالة إذا بالفتى قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يسقي ماءً ، فسقطت الركوة من يده في البئر وانا أنظر إليه ، فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول :


أنت ربي إذ ظمئت إلى الماء * وقوتي إذا أردت الطعاما


“ اللهم سيدي مالي غيرها فلا تعدمنيها “ .


قال شقيق : فوالله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها فمد يده وأخذ الركوة وملأها ماءً ، فتوضأ وصلى أربع ركعات ، ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب ، فأقبلت إليه وسلّمت عليه ، فرد عليّ السلام فقلت : أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك ، فقال : يا شقيق لم تزل نعمة الله علينا ظاهرة وباطنة فاحسن ظنك بربك ، ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكّر ، فوالله ما شربت ألذّ منه ولا أطيب ريحاً فشبعت ورويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً .
ثم لم أره حتى دخلنا مكة ، فرأيته ليلة إلى جنب قبة الشراب في نصف الليل قائما يصلي بخشوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلما رأى الفجر جلس في مصلاه يسبّح ، ثم قام فصلّى الغداة وطاف بالبيت أسبوعاً وخرج فتبعته ، وإذا له غاشية وموال وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه ، فقلت لبعض من رأيته بقرب منه : من هذا الفتى ؟ فقال : هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) فقلت : قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلاّ لمثل هذا السيد ، ولقد نظم بعض المتقدّمين واقعة شقيق معه في أبيات طويلة اقتصرت على ذكر بعضها فقال :


سل شقيق البلخي عنه وما * عا ين منه وما الذي كان أبصرْ
قال لما حججت عاينت شخصاً * شاحب اللون ناحل الجسم أسمرْ
سائراً وحده وليس له زا د * فمازلت دائما اتفكرْ
وتوهمت أنه يسأل الناسّ * ولم أدر أنه الحج الأكبر
ثم عاينته ونحن نزول * دون فيدٍ عَلى الكثيب الأحمر
يضع الرمل في الإناء ويشرب * هْ فناديته وعقلي محير
أسقني شربة فناولني من * هُ فعاينته سويقاً وسكّر
فسألت الحجيج من يك هذا ؟ * قيل هذا الإمام موسى بن جعفر(14)


السيد محمد تقي المدرسي


___________________________________
(1) العلاّمة المجلسي خصص في موسوعته بحار الأنوار الجزء 48 جزءاً مفصلاً ( من ص 29 - 100 ) حول بعض معاجزه .
(2) المصدر : ( ص 213 - 215 ) .
(3) المصدر : ( ص 66) .
(4) المصدر : ( ص 45) .
(5) المصدر : ( ص 44) .
(6) المصدر / ( ص 85 ) .
(7) المصدر : ( ص 45 - 46 ) .
(8) المصدر : ( ص 46 - الرقم 30 ) .
(9) بحار الانوار : ( ج 2 ، ص 174) .
(10) المصدر : ( ص 64 ، 65) .
(11) المصدر : ( ص 70 ) ( 93/ ) .
(12) المصدر : ( ص 76) .
(13) المصدر : ( ص 58 ) .
(14) المصدر : ( ص 80 - 82 ) .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع