شارك هذا الموضوع

عصر الإمام موسى بن جعفر (ع)

لقد كانت مدّة إمامة الكاظم (ع) خمسةً وثلاثين عاماً حيث اضطلع بها منذ أن كان عمره عشرين ربيعاً عام 148 هـ إلى أن استشهد عام 183 هـ وعمره خمسة وخمسون عاماً .


وهكذا عاصر من ملوك بني العباس بقية ملك المنصور ، وملك المهدي لمدة ( 10) سنوات ، والهادي لمدة سنة واحدة ، وهارون الملقب بالرشيد لمدة (15) عاماً .


وكان ملك بني العباس من أقوى ما يكون خلال هذه الفترة حتى سمّي عصر الرشيد بالعصر الذهبي ، ولا ريب أن قوة البلاد الإسلامية خلال هذا العصر لا يمكن قياسها بسائر العصور ، وفي ذات الوقت كانت الحركة الرسالية قد بلغت من القوة خلال عهد الإمام الكاظم (ع) ما أهّله للقيام بثورة شاملة لولا بعض الأقدار التي منعت اندلاع الثورة ، وأخرت نجاحها .


وقد بلغ الصراع بين السلطة العباسية والحركة الرسالية الذَّروة في عهد الرشيد ، حيث نستوحي من مجموعة نصوص وحوادث تاريخية أن مخطط الثورة كان جاهزاً ، وأن السلطة العباسية قد فشلت في احتواء الثورة على أنها كانت في عصرها الذهبي ، ذلك لأن أنصار الحركة الرسالية قد ازدادوا ليس فقط بين الناس بل كان بعض كبار رجالات الدولة يميلون إلى حدٍ ما إلى الحركة الرسالية ، ولعل ذلك يفسر لنا محاولة المأمون العباسي خليفة الرشيد ، للتقرب إلى البيت العلوي وبالذات إلى الإمام علي بن موسى الرضا (ع) الذي قتل الرشيد والده (ع) . والحوادث التي تهدينا إلى تلك الحقيقة هي التالية :


هناك بعض الأحاديث التي تدل على أنه كان المقدر أن يقوم الإمام السابع بالأمر ، وقد اشتهر عند الشيعة أنه القائم من آل محمد (ص) وأنه لا يموت حتى يملأ اللـه على يديه الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً .


فعن أبي حمزة الثمالي قال : قلت لأبي جعفر (ع) إن علياً (ع) كان يقول : ( إلى السبعين بلاء ، وكان يقول : بعد البلاء رخاء ) وقد مضت السبعون ولم نر رخاءً ، فقال أبو جعفر (ع) : ( يا ثابت إن اللـه تعالى قد وقّت هذا الأمر في السبعين ، فلما قتل الحسين اشتد غضب اللـه على أهل الأرض فأخّره إلى أربعين ومائة سنة ، فحدثناكم فأذعتم الحديث وكشفتم قناع السرّ ، فأخّره اللـه ولم يجعل له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو اللـه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) قال أبو حمزة : وقلت ذلك لأبي عبد اللـه (ع) فقــال :


( قد كان ذلك ) .


وهنالك رواية عن داود الرقّي قال : قلت لأبي الحسن الرضا (ع) جعلت فداك أنه واللـه ما يلج في صدري من أمرك شيء إلاّ حديث سمعته من ذريج يرويه عن أبي جعفر (ع) قال لي : ( ما هو) قال سمعته يقول : ( سابعنا قائمنا إن شاء اللـه ) .


قال : ( صدقت وصدق ذريج وصدق أبو جعفر (ع) ، فازددت واللـه شكاً ، ثم قال لي : ( يا داود بن أبي كلدة ! أما واللـه لولا أن موسى قال للعالم { سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللـه صَابِراً } (الكهف/69) ما سأله عن شيء ، وكذلك أبو جعفر (ع) لولا أن قال إن شاء اللـه لكان كما قال : فقطعت عليه ) .


لقد بدأ الرساليون في ذلك الظرف يتناقلون الكلام ، وبلغ الأمر إلى السلطات ، إلى درجة أنه شاع وفشى ، فاعتقلت مجموعة من الرساليين وسجنت الإمام (ع) وقتلته بعد ذلك (1).


ولقد شاعت فكرة قيام الإمام السابع إلى درجة أن السلطة استخدمتها كورقة إعلامية ضد الحركة الرسالية ، بعد أن دسّت السمّ إلى الإمام وقتلته في غياهب سجون بغداد ، كيف ؟


إن من المعروف أن القائم لا يموت حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً ، وها هو الإمام السابع قد فارق الحياة ، إذاً هو ليس القائم المنتظر .


وهكذا حاولت السلطة إبراز التناقض في أقوال الحركة الرسالية ، حيث نادى أزلام السلطة على نعش الإمام الكاظم (ع) ما يلي :


هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت ، فانظروا إليه فنظروا (2).


والواقع أن ( فشل الثورة ) أو تأخيرها ، واستشهاد الإمام المنتظر لقيادتها ، سبّب صدمة عنيفة لبعض أبناء الحركة الرسالية ، وكان امتحاناً عسيراً لولا ما ظهر بعدئذ من حكمة ذلك حيث تحول الوضع السياسي لمصلحتهم بعد هارون من دون إراقة الدماء .


ولقد استغل بعض أصحاب المصالح الطامعين في الرئاسة أو المال هذه الصدمة عند السذّج من الناس ، وطفقوا يقولون أن موسى بن جعفر (ع) لم يمت ، وأنه لا يموت حتى يقوم بالأمر .


ولقد قاوم الإمام علي بن موسى الرضا (ع) هذا المذهب الفاسد ، حتى اضمحل ولم يعد لهم وجود يذكر .


فمثلاً جاء في الحديث المأثور عن جعفر بن محمد النوفلي قال : أتيت الرضا (ع) وهو بقنطرة أربق (3) ، فسلمت عليه ثم جلست وقلت : جعلت فداك إن أناساً يزعمون أن أباك حيّ ، فقال : كذبوا لعنهم اللـه ، لو كان حياً ما قسم ميراثه ولا نكح نساءه ، ولكنه واللـه ذاق الموت كما ذاقه عليّ بن أبي طالب (ع) (4) .


وهكذا كانت المواجهة بين السلطة العباسية والحركة الرسالية قد بلغت الذروة ، وكان مخطط الثورة الشاملة جاهزاً لولا إذاعة السرّ ومبادرة السلطة باعتقال الإمام موسى الكاظم . وقد سردنا نصوصاً وشواهد تاريخية على ذلك ، وهناك المزيد من الشواهد نبينها فيما يلي :


عهد الرشيد : قمة الإرهاب العباسي :


بسبب تصاعد المد الرسالي ، وازدياد احتمالات سقوط النظام العباسي ، مارس هارون الرشيد إرهاباً لا مثيل له في تاريخ المواجهة بين السلطة العباسية وأئمة آل البيت (ع) .


لقد كانت التقية - والتي تعني العمل السري - على أشدها في عصر الإمام موسى (ع) ، ولعل لقب الإمام الكاظم يشير إلى أن منهج حياته كان التقية ، وكظم الغيظ عمّا يصيبه من آلام وضغوط .


وسائر ألقابه أيضاً تدل على ميزة عصره ، فقد كان شيعته يكنون عنه بـ ( العبد الصالح ) و ( النفس الزكية ) و ( الصابر ) وتنوع كناه يدل أيضاً على السرّية التي اتسمت بها الحركة في عصره ، فهو “ أبو الحسن “ و “ أبو علي “ و “ أبو إبراهيم “ وقيل أيضاً “ أبو إسماعيل “ .


ولقد بقي سيدنا الإمام موسى (ع) فترة طويلة في سجون آل عباس ، وكانت شهادته أيضاً بصورة مأساوية لا يساويها إلاّ شهادة جده أبي عبد اللـه الحسين (ع) ، وذلك يدل على أن خشيتهم كانت عظيمة من قيامه (ع) ضد ظلمهم وإرهابهم ، ذلك لأنه لا أحد من الطغاة كان يفكّر في تكرار غلطة يزيد بن معاوية في قتله لسيد الشهداء (ع) بصورة علنية ، إنما كانوا يفضلوا اغتيال أئمة آل البيت للتخلص منهم ، وللبراءة من دمائهم عند الجماهير المسلمة الذين كانوا يكّنون لآل بيت رسول اللـه كل ولاء واحترام .


حتى الرشيد الذي استشهد الكاظم (ع) في سجنه ، حاول التبرؤ من دمه ، والتمويه بانه مات حتف أنفه ، أو أن السندي بن شاهك قائد شرطته هو الذي بادر بقتل الإمام دون أمره (5) .


ومن هنا نعلم أن السلطة لم تخاطر بقتل سيد أهل البيت ، لو لم تشعر بالخوف على مركزها . على أن السلطة قد قتلت - صبراً - الكثير من قيادات البيت العلوي .


محنة البيت العلوي :


وهكذا كانت محنة البيت العلوي عظيمة في تلك الحقبة ، حيث أنهم رفضوا التسليم لإرهاب النظام ، فزجّ بهم في السجون الرهيبة ، ومورس في حقهم كل ألوان التعذيب ، كما قتل النظام الكثير منهم صبراً . وإن ذلك لدليل على قوة شوكة المعارضة الرسالية وتهديدها للنظام ، كما هو دليل على مدى احتمال هذا البيت الطاهر للمآسي والمصائب من أجل رسالات اللـه ، ولم يكن عبثاً تأكيد الرسول (ص) على الإهتمام باهل بيته واعتبارهم ورثته ، وجعلهم محور أهل الحق ، وإن مثلهم مثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق وهلك .


وفي القصة التالية بعض تلك المحن العظيمة التي توالت على أهل بيت الرسول من أبناء فاطمة وعلي عليهم السلام .


عن عبيد اللـه البزاز النيسابوري - وكان مسناً - قال : كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة ، فرحلت إليه في بعض الأيّام ، فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت وعليّ ثياب السفر لم أغيّرها ، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر .


فلمّا دخلت إليه رأيته في بيت يجري فيه الماء فسلمت عليه وجلست ، فأتي بطست وإبريق فغسَّل يديه ، ثم أمرني فغسلت يدي واحضرت المائدة وذهب عني أنَي صائم وأني في شهر رمضان ، ثمّ ذكرت فأمسكت يدي ، فقال لي حميد : مالك لا تأكل ؟ فقلت أيها الأمير هذا شهر رمضان ، ولست بمريض ولا بي علّة توجب الإفطار ، ولعلّ الأمير له عذر في ذلك أو علّة توجب الإفطار ، فقال : ما بي علّة توجب الإفطار وإنّي لصحيح البدن ، ثم دمعت عيناه وبكى .


فقلت له بعدما فرغ من طعامه : ما يبكيك أيّها الأمير ؟ فقال : أنفذ إليّ هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب ، فلمّا دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتقد وسيفاً أخضر مسلولاً وبين يديه خادم واقف ، فلما قمت بين يديه رفع رأسه إليَّ فقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ فقلت : بالنفس والمال ، فأطرق ثم أذن لي في الانصراف .


فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إليَّ وقال : أجب أمير المؤمنين ، فقلت في نفسي : أنا واللـه أخاف أن يكون قد عزم على قتلي وأنه لما رآني استحيى منّي ، فعدت إلى بين يديه فرفع رأسه إليَّ فقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ فقلت : بالنفس والمال والأهل والولد ـ فتبسم ضاحكاً ، ثم أذن لي في الانصــراف .


فلما دخلت منزلي لم ألبث أن عاد الرسول إليَّ فقال : أجب أمير المؤمنين فحضرت بين يديه وهو على حاله ، فرفع رأسه إليَّ فقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ، فقلت : بالنفس والمال والأهل والولدل والدين فضحك ، ثم قال لي : خذ هذا السيف وامتثل ما يامِّرك به هذا الخادم .


قال : فتناول الخادم السيف وناولنيه وجاء بي إلى بيت بابه مغلق ففتحه فإذا به بئر في وسطه ، وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة ، ففتح باب بيت منها فإذا فيه عشرون نفسا عليهم الشعور والذوائب ، شيوخ وكهول وشبّان مقيَّدون ، فقال لي : إنَّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء ، وكانوا كلهم علويّة من ولد علي وفاطمة (ع) فجعل يخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه حتى أتيت على آخرهم ، ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر .


ثم فتح باب بيت آخر فإذا فيه أيضاً عشرون نفسا من العلويّة من ولد علي وفاطمة (ع) مقيدون ، فقال لي : إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء ، فجعل يخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه ويرمي به في تلك البئر ، حتى أتيت على آخرهم ، ثم فتح باب البيت الثالـث فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد علي وفاطمة (ع) ، مقيدون عليهم الشعور والذوائب فقال لي : إن أمير المؤمنين يأمرك أن تقتل هؤلاء أيضاً فجعل يخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه فيرمي به في تلك البئر ، حتى أتيت على تسعة عشر نفساً منهم ، وبقي شيخ منهم عليه شعر فقال لي : تبّاً لك يا مشؤوم أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدنا رسول اللـه (ص) وقد قتلت من أولاده ستين نفساً ، قد ولدهم عليّ وفاطمة (ع) ، فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي فنظر إليَّ الخادم مغضباً وزبرني ، فأتيت على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته ورمى به في تلك البئر ، فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستين نفساً من ولد رسول اللـه (ص) فما ينفعني صومي وصلاتي وأنا لا أشك أني مخلد في النار (6) .


محنة العلماء الرساليين :
وكانت محنة العلماء الكبار من الموالين لآل البيت عظيمة أيضاً أو ليسوا شيعة آل محمد (ص) ؟ فلابد أن يقتدوا بهم في بلائهم ، ومن أعظمهم بلاء محمد بن أبي عمير الأزدي البغدادي وهو في نفس الوقت من أعظمهم شأناً . وكان من أوثق الناس عند الخاصة والعامة ، وأنسكهم نسكاً ، وأورعهم وأعبدهم ، وحكي عن الجاحظ أنه قال : كان أوحد أهل زمانه في الأشياء كلها ، وقال أيضاً : وكان وجهاً من وجوه الرافضة ، حبس أيام الرشيد ليلي القضاء . وقيل بل ليدلّ على الشيعة وأصحاب موسى بن جعفر (ع) ، وضرب على ذلك ، وكاد يقر لعظيم الألم ، فسمع محمد بن يونس بن عبد الرحمن يقول له : إتق اللـه يا محمد بن أبي عمير فصبر ففرّج اللـه عنه ، وروى الكشي أنه ضرب مائة وعشرين خشبة أيام هارون ، وتولى ضربه السندي بن شاهك ، وكان ذلك على التشيع ، وحبس فلم يفرج عنه ، حتى أدى من ماله واحداً وعشرين ألف درهم ، وروي أن المأمون حبسه حتى ولاه قضاء بعض البلاد ، وروى الشيخ المفيد في الاختصاص أنه حبس سبع عشرة سنة ، وفي مدة حبسه دفنت أخته كتبه فبقيت مدة أربع سنين ، فهلكت الكتب ، وقيل أنه تركها في غرفة فسال عليها المطر ، لذلك حدّث من حفظه ، ومما كان سلف له في أيدي الناس أدرك أيام الكاظم (ع) ولم يحدث عنه ، وأيام الرضا والجواد (ع) وحدّث عنهما ، ومات سنة 217 (7) .


التسلل إلى النظام :
ولعل أوضح شواهد القوة عند الحركة الرسالية في عصر الإمام الكاظم ( عليه السلام ) هو حجم تسلل عناصرها في أجهزة النظام ، والذي يدل على مدى نفوذهم في مجمل المؤسسات الرسمية ، ولعلّ رأس النظام كان على علم وإن بصورة إجمالية بولاء رجاله لآل البيت ، لكنه كان عاجزاً عن الانقلاب عليهم لسبب أو لآخر ، وقبل أن نورد بعض القصص التاريخية لهذا التسلل ، يجدر أن نعلم أن متانة الشبكة التنظيمية التي كانت تتمتع بها الحركة الرسالية التي أوجدت هذا المدى الواسع من العناصر في مختلـف أجهزة النظام الحساسة ، لتعتبر نموذجاً لما ينبغي أن تكون عليه التنظيمات الرسالية في كل مكان .


1 - يبدو أن بعض رؤساء المحافظات أو حسب تعبيرهم يومئذ ( الولاة ) كانوا منتمين إلى الحركة ، فمثلاً مدينة ( الري ) وهي طهران الحالية ، كانت من الحواضر العامة في ذلك اليوم ، ومع ذلك كان واليها واحداً من موالي أهل البيت ، كما تذكر الرواية التالية من كتاب قضاء حقوق المؤمنين لأبي علي بن طاهر الصوري بإسناده عن رجل من أهل الري قال : ولّي علينا بعض كتاب يحيى بن خالد ، وكان عليّ بقايا يطالبني بها ، وخفت من إلزامي إيّاها خروجاً عن نعمتي ، وقيل لي : أنه ينتحل هذا المذهب ، فخفت أن أمضي إليه فلا يكون كذلك فأقع فيما لا أحب ، فاجتمع رأيي على أني هربت إلى اللـه تعالى ، وحججت ولقيت مولاي الصابر - يعني موسى بن جعفر (ع) - فشكوت حالي إليه فأصحبني مكتوباً نسخته : بسم اللـه الرحمن الرحيم اعلم أن لله تحت عرشه ظِلاً لا يسكنه إلاّ من أسدى إلى أخيه معروفاً أو نفّس عنه كربة ، أو أدخل على قلبه سروراً ، وهذا أخوك والسلام .


قال : فعدت من الحجّ إلى بلدي ، ومضيت إلى الرجل ليلاً ، واستأذنت عليه وقلت : رسول الصابر (ع) فخرج إليّ حافياً ماشياً ، ففتح لي بابه ، وقبّلني وضمني إليه ، وجعل يقبّل بين عيني ، ويكرّر ذلك كلما سألني عن رؤيته (ع) ، وكلما أخبرته بسلامته وصلاح أحواله استبشر وشكر اللـه ، ثمّ أدخلني داره وصدّرنــي في مجلسه وجلس بين يدي ، فأخرجت إليه كتابه (ع) فقبّله قائماً وقرأه ثم استدعى بماله وثيابــه ، فقاسمني ديناراً ديناراً ، ودرهماً درهماً ، وثوباً ثوباً ، وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته ، وفي كلّ شيء من ذلك يقول : يا أخي هل سررتك ؟ فأقول : أي واللـه ، وزدت على السرور ، ثم استدعى العمل فأسقط ما كان باسمي وأعطاني براءة مما يتوجّه عليّ منه ، وودّعته ، وانصرفت عنه .


فقلت : لا أقدر على مكافأة هذا الرّجل إلاّ بأن أحج في قابل وأدعو له وألقى الصّابر (ع) وأعرّفه فعله ، ففعلت ولقيت مولاي الصابر (ع) وجعلت أحدّثه ووجهه يتهلّل فرحاً ، فقلت : يا مولاي هل سرّك ذلك ؟ فقال : أي واللـه لقد سرني وسرّ أمير المؤمنين ، واللـه لقد سرّ جدي رسول اللـه (ص) ، ولقد سرّ اللـه تعالى (8) .


2 - كان علي بن يقطين وزيراً للخليفة وكان يشرف على بلاد واسعة وكان من أقرب المستشارين لهارون الرشيد وفي الوقت ذاته كان من الموالين لأهل البيت (ع) (9) وسنذكر بإذن اللـه بعض الأحاديث التي تبين لنا مواقف علي بن يقطين والتي تكشف أن سياسة التقية أو العمل السري لم تكن سياسة مرحلية مؤقتة ، بل كانت بمثابة استراتيجية عمل بعيدة المدى ، فلعل أئمة الهدى رأوا أن تمكين رجالهم من مراكز الحكم بصورة أو بأخرى ، أفضل وسيلة لإصلاح أمر الأمة ، ولم يجدوا حاجة إلى التغيير السريع في قمة الهرم السلطوي ، وتحمل مسؤوليات الحكم بصورة مباشرة وحتى ولو لم يكن بناء الأمة الحضاري قد بلغ من النصج ما يحتمل نظاماً إلهيّاً ، كالذي كان أهل البيت (ع) يريدونه .


وبتعبير آخر : إن استراتيجية ( التقاطع ) مع نظام الحكم وذلك بالسيطرة على مراكزه الهامة ، وشل قدرته من الداخل عن المعارضة ربما كانت الاستراتيجية المثلى لتلك الظروف .


ألف : قصة الدرّاعة :
في الوقت الذي كان علي بن يقطين مقرباً إلى الرشيد ، كان جواسيسه لا يفتأون يحيطون به وبسائر الوزراء ، إذ كان هاجس موالاة وزراءه للإمام الحق موسى بن جعفر (ع) يلاحق الرشيد ليل نهار ، إلاّ أن العلم الإلهي الذي كان لأئمة آل البيت (ع) منع الرشيد من إثبات أي شيء بحق علي بن يقطين ، كما أن انضباط علي بن يقطين وشدة التزامه بالأوامر القيادية فوّتت على الرشيد فرصاً كثيرة ، ومنها ما ذكرت قصة الدرّاعة التي نبيِّنها فيما يلي : -


روى إبراهيم بن الحسن بن راشد ، عن ابن يقطين قال : ( كنت واقفاً عند هارون الرشيد إذ جاءته هدايا ملك الروم ، وكان فيها درّاعة ديباج سوداء منسوجة بالذهب لم أر أحسن منها ، فرآني أنظر إليها فوهبها لي ، وبعثتها إلى أبي إبراهيم (ع) ومضت عليها برهة تسعة أشهر وانصرفت يوماً من عند هارون بعد أن تغدّيت بين يديه ، فلمّا دخلت داري قام إليّ خادمي الذي يأخذ ثيابي بمنديل على يده وكتاب لطيف ختمه رطب ، فقال : أتاني بهذا رجل الساعة فقال : أوصله إلى مولاك ساعة يدخل ، ففضضتُ الكتاب وإذ به كتاب مولاي أبي إبراهيم (ع) وفيه : يا علي هذا وقت حاجتك إلى الدرّاعة وقد بعثت بها إليك ، فكشفت طرف المنديل عنها ورأيتها وعرفتها ، ودخل عليّ خادم هارون بغير إذن فقال : أجب أمير المؤمنين .


قلت : أيًّ شيء حدث ؟ قال لا أدري .
فركبت ودخلت عليه ، وعنده عمر بن بزيع واقفاً بين يديه فقال : ما فعلت بالدرّاعة الّتي وهبتك ، قلت : خلع أمير المؤمنين عليّ كثير من دراريع وغيرها فعن أيّها يسألني ؟ قال : درّاعة الديباج السوداء الرّومية المذهّبة ، فقلت : ما عسى أن أصنع بها ألبسها في أوقات وأصلّي فيها ركعات ، وقد كنت دعوت بها عند منصرفي من دار أمير المؤمنين السّاعة لألبسها ، فنظر إلى عمر بن بزيع فقال : قل يحُضرها ، فأرسلت خادمي جاء بها ، فلمّا رآها قال : يا عمر ما ينبغي أن تنقل على عليّ بعد هذا شيئاً ، قال : فأمر لي بخمسين ألف درهم حملت مع الدرّاعة إلى داري، قال عليّ بن يقطين: وكان الساّعي ابن عم لي فسوَّد اللـه وجهه وكذَّبه والحمد لله ) (10).


 باء : سرية الاتصالات :
كيف كان يتم الاتصال بين الإمام وبين شيعته المتخفّين من أمثال علي بن يقطين ؟


نحن لا نعرف مزيداً من التفاصيل حول طبيعة الاتصالات ، إلاّ أن الباحث باستطاعته أن يتعرف على القضايا من خلال بعض الأخبار المتناثرة ، فالخبير الزراعي يتعرف على طبيعة التربة والماء والهواء والبذر والسماد و . و .. من خلال ثمرة واحدة من شجرة التفاح مثلاً ، وهكذا المؤرخ بإمكانه أن يتعرف على المزيد من التفاصيل من خلال التفكر في أبعاد حادثة تاريخية تروى .


وهكذا الحادثة الثانية تبين أبعاد الاتصالات السرية التي كانت تتم بين أئمة الهدى وشيعتهم .


عن محمد بن مسعود ، عن الحسين بن شكيب ، عن بكر بن صالح ، عن إسماعيل بن عباد القصري، عن إسماعيل بن سلام وفلان بن حميد ، قالا : ( بعث إلينا علي بن يقطين فقال : اشتريا راحلتين ، وتجنبا الطريق - ودفع إلينا أموالاً وكتباً - حتى توصلا ما معكما من المال والكتب إلى أبي الحسن موسى (ع) ولا يعلم بكما أحد ، قال : فأتينا الكوفة واشترينا راحلتين وتزوّدنا زاداً ، وخرجنا نتجنب الطريق ، حتى إذا صرنا ببطن الرمة شددنا راحلتنا ، ووضعنا لها العلف ، وقعدنا نأكل ، فبينما نحن كذلك ، إذ راكب قد أقبل ومعه شاكري ، فلما قرب منَّا فإذا هو أبو الحسن موسى (ع) ، فقمنا وسلّمنا عليه ، ودفعنا إليه الكتب وما كان معنا ، فأخرج من كمّه كتباً فناولنا إيّاها فقال : هذه جوابات كتبكم .


قال : فقلنا : إنّ زادنا قد فني فلو أذنت لنا فدخلنا المدينة ، فزرنا رسول اللـه وتزوّدنا زاداً فقال : هاتا ما معكما من الزّاد ، فأخرجنا الزّاد إليه فقلّبه بيده فقال : هذا يبلّغكما إلى الكوفة ، وأما رسول اللـه (ص) فقد رأيتماه ، إني صليت معهم الفجر ، وإنّي أريد ان أصلي معهم الظهر ، انصرفا في حفظ اللـه ) (11) .


جيم : التقية حتى في كيفية الوضوء:


وفشلت محاولات الوشاة ورجال مباحث النظام في كشف حقيقة علي بن يقطين ، فقام الرشيد بنفسه بعملية التجسس عليه ، فكانت عاقبته الفشل أيضاً كما في الخبر التالي : -


روى محمد بن إسماعيل ، عن محمد بن الفضل قال : ( اختلفت الرواية بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء هو من الأصابع إلى الكعبين ؟ أم من الكعبين إلى الأصابع ؟ فكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى (ع) أن أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين ، فإن رأيت أن تكتب إليّ بخطك ما يكون عملي عليه فعلت إن شاء اللـه ، فكتب إليه أبو الحسن (ع) : فهمتُ ما ذكرتَ من الاختلاف في الوضوء والذي آمرك به في ذلك فأن تتمضمض ثلاثاً وتستنشق ثلاثاً ، وتغسل وجهك ثلاثاً ، وتخلل شعرلحيتك وتمسح رأسك كله ، وتمسح ظاهر أذنيك . وباطنها ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً ولا تخالف ذلك إلى غيره .


فلما وصل الكتاب إلى عليّ بن يقطين تعجب بما رسم فيه ، ممّا أجمع العصابة على خلافه ، ثم قال : مولاي أعلم بما قال وأنا ممتثل أمره ، وكان يعمل في وضوئه على هذا الحدّ ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالاً لأمر أبي الحسن (ع) ، وسعي بعليّ بن يقطين إلى الرشيد ، وقيل له : إنه رافضي مخالف لك .


فقال الرشيد لبعض خاصّته : قد كثر عندي القول في عليّ بن يقطين والقذف له بخلافنا وميله إلى الرفض ولست أرى في خدمته لي تقصيراً ، وقد امتحنته مراراً فما ظَهَرْتُ منه على ما يُقذف به ، وأحبّ أن استبرئ أمره من حيث لا يشعر بذلك فيتحرز منّي .


فقيل له : إنّ الرّافضة يا أمير المؤمنين تخالف الجماعة في الوضوء فتخفّفه ولا ترى غسل الرّجلين فامتحنه يا أمير المؤمنين من حيث لا يعلم ، بالوقوف على وضوئه ، فقال : أجل إنّ هذا الوجه يظهر به أمره ، ثم تركه مدّة وناطه بشيء من الشغل في الدّار ، حتّى دخل وقت الصلاة ، وكان علي بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته ، فلمّا دخل وقت الصلاة وقف الرّشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى عليّ بن يقطين ، ولا يراه هو، فدعا بالماء للوضوء ، فتمضمض ثلاثاً ، واستنشق ثلاثاً ، وغسل وجهه ثلاثاً ، وخلّل شعر لحيته ، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ، ومسح رأسه وأذنيه ، وغسل رجليه والرشيد ينظر إليه .


فلما رأه وقد فعل ذلك ولم يملك نفسه حتّى أشرف عليه بحيث يراه ، ثمّ ناداه : كذب يا علي بن يقطين من زعم أنّك من الرافضة ، وصلحت حاله عنده ، وورد عليه كتاب أبي الحسن (ع) : ابتداءً من الآن يا علي بن يقطين فتوضّأ كما أمر اللـه ، واغسل وجهك مرة فريضة ، وأخرى إسباغاً ، واغسل يديك من المرفقين كذلك وامسح مقدم رأسك وظاهر قدميك بنداوة وضوئك ، فقد زال ما كان يخاف عليك والسلام ) (12) .


3 - كان المسيّب نائب رئيس شرطة النظام سندي بن شاهك ، وكان موكلاً بسجن الإمام (ع) ، وكان يوالي الإمام (ع) كما يظهر من بعض التواريخ ، وكان يتصل بالشيعة ويأمرهم بما يوصيه الإمام ، والواقع أن كثير ممن سجن الإمام عندهم قالوا بولايته لما شاهدوا منه من المعاجز ، فهذا بشّار مولى السندي بن شاهك يقول : ( كنت من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب (ع) ، فدعاني السندي بن شاهك يوماً فقال لي : يا بشار إنّي أريد أن أئتمنك على ما ائتمنني عليه هارون ، قلت : إذن لا أبقي فيه غاية ، فقال : هذا موسى بن جعفر قد دفعه إلّي وقد وكّلتك بحفظه ، فجعله في دار دون حرمه ووكّلني عليه ، فكنت أقفل عليه عدّة أقفال ، فإذا مضيت في حاجة وكّلت امرأتي بالباب فلا تفارقه حتّى أرجع .


قال بشّار : فحوّل اللـه ما كان في قلبي من البغض حبّاً ، قال : فدعاني (ع) يوماً فقال : يا بشّار امضِ إلى سجن القنطرة فادع لي هند بن الحجاج وقل له : أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه ، فإنّه سينهرك ويصيح عليك ، فإذا فعل ذلك ، فقل له : أنا قد قلت لك وابلغت رسالته ، فإن شئت فافعل ما أمرني ، وإن شئت فلا تفعل ، واتركه وانصرف ، قال : ففعلت ما أمرني وأقفلت الأبواب كما كنت أقفل وأقعدت امرأتي على الباب وقلت لها : لا تبرحي حتّى آتيك .


وقصدت إلى سجن القنطرة فدخلت إلى هند بن الحجّاج ، فقلت : أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه ، قال : فصاح عليّ وانتهرني فقلت له : أنا قد أبلغتك وقلت لك ، فإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل ، وانصرفت وتركته وجئت إلى أبي الحسن (ع) فوجدت امرأتي قاعدة على الباب والأبواب مغلقة ، فلم أزل أفتح واحداً منها حتى انتهيت إليه فوجدته وأعلمته الخبر ، فقال : نعم قد جائني وانصرف ، فخرجت إلى امرأتي فقلت لها : جاء أحد بعدي فدخل هذا الباب ؟ فقالت : لا واللـه ما فارقت الباب ولا فتحت الأقفال حتى جئت )(13).


ـــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار : ( ج 48 ، ص 291 ) .
(2) مقاتل الطالبيين : ( ص 505) .
(3) من نواحي رامهرمز في خوزستان إيران .
(4) موسوعة البحار : ( ج48 ، ص 260 ) .
(5) المصدر : ( ص 226 - 227 ) .
(6) المصدر : ( ص 176 ، 178 ) .
(7) المصدر : ( ص 179 ) الهامش عن شرح مشيخة الفقيه : ( ص 56 - 57 ) .
(8) المصدر : ( ص 174 ) .
(9) علي بن يقطين بن موسى البغدادي مسكناً ، والكوفي أصلاً ، مولى بني أسد يكنى أبا الحسن ، من وجوه هذه الطائفة ، جليل القدر ، وقد ضمن له الإمام الكاظم (ع) الجنة وأن لا تمسه النار ، وفي الكشي أحاديث دلت على عظم شانه وجلالة قدره ، وأنه كان يحمل إلى الإمام الكاظم (ع) أموالاً طائلة ، فربما حمل مائة ألف إلى ثلاثمائة ألف ، وكان علي يبعث في كل سنة من يحج عنه حتى أحصى له في بعض السنين مائة وخمسين أو ثلاثمائة ملبي ، وكان يعطي بعضهم عشرة آلاف وبعضهم عشرين ألف ، مثل الكاهلي وعبد الرحمن بن الحجاج وغيرهما ، ويعطي أدناهم ألف درهم ، له كتب رواها عنه أبنه الحسن وأحمد بن هلال مات سنة 182 في أيام حياة أبي الحسن الكاظم ببغداد ، وأبو الحسن في سجن هارون وقد بقى فيه أربع سنين .
" باقتضاب عن شرح مشيخة الفقيه : ( ص47 ) عنه هامش كتاب البحار : ( ص 178 ، ج 48 ) " .
(10) المصدر : ( ص 59 - 60 ) .
(11) المصدر : ( ص 35) .
ويبدو ان الامام امرهم بالانصراف من زيارة النبي (ص) والاكتفاء بزيارة خليفته زيارة مباشرة ، وذلك حين قال : اما رسول اللـه فقد رأيتماه .
(12) المصدر : ( ص 38 - 39 ) .
(13) المصدر : ( ص 241) .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع