شارك هذا الموضوع

في رحاب الحسين (ع) وأصحابه

نحن لا نعلم صفات الربوبية!.. ورد في القرآن الكريم: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً}، وجاء في بعض الروايات: (أنَّ اللهَ أَشَدُ فَرَحَاً بِتَوبَةِ عَبْدِهِ، مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَه، وزَاده في ليلةٍ ظلماء؛ فوجَدَها.. فاللهُ أشدُ فرحاً بتوبةِ عبدهِ، منْ ذلكَ الرجل براحلتِه حينَ وجدَها)، ولكن كيف يتأذى رب العزة والجلال، وكيف يفرح؟!.. نحن لا نعلم!.. على كل حال عَزَّ على رب العزة والجلال، هذه المصيبة الكبرى؛ مصيبة الحسين (ع).. ولهذا من الأسرار المودعة في ذكرى الحسين (ع)، الجزاء الجزيل على إقامة عزائه.. البعض يستغرب من حجم الثواب المنقول على إقامة العزاء على الإمام الحسين (ع).. هذا الاستغراب قد يكون في محله، لو نظرنا إلى واقعة الحسين (ع) كواقعة تأريخية، كإنسان مظلوم، أو شهيد في الإسلام؛ ولكن الحسين (ع) بكته السماوات والأرض.. نقل في بعض مصادر العامة، عن الزهري قال: (لما قتل الحسين بن علي -رضي الله عنه- لم يرفع حجر ببيت المقدس إلا وجد تحته دم عبيط).  


فإذن، إن قضية الإمام الحسين (ع) قضية مرتبطة بالله -عز وجل- اقشعرت لقتله أظلة العرش، حتى الحور بكته في الجنان.. فالقضية قضية إلهية، منتسبة لله عز وجل.. الحسين (ع) خرق الموازين كلها: لو ناقشنا حركة الحسين من زاوية فقهية محضة، لعل البعض منا لا يرى المبرر لذلك، لعله يبرر خروج الحسين إلى ليلة العاشر، أو إلى يوم العاشر.. الإمام كان يرى أن المعركة عاقبتها القتل، ولهذا في ليلة العاشر يصرح للقوم: أن هناك قتالا غدا وهناك شهادة، فارجعوا إلى أوطانكم: (وإنّي لأظنّ أنّهُ آَخِر يومٍ لنا مِنْ هؤلاء، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم منّي ذمام.. هَذَا اللَّيل قَد غَشِيَكُم، فاتَخِذُوه جَمَلاً)؛ كان هذا هو التصريح الأخير للحسين (ع)؛ لأن القضية قضية دم وشهادة، وليس هناك أي انتصار بالمنظور المادي أو بالمنظور القريب.. والإمام (ع) لو أبقى نفسه للإمامة لقاد الأمة حيا، ولعله عمل ما عمل.. ولكن (شاء الله أن يراني قتيلاً، وأن يراهنّ سبايا)، كما ورد على لسان الحسين (ع)، لما في القتل من انتصار للحق على الباطل طوال التاريخ.. لو أن الحسين (ع) انتصر على يزيد، وقتله، ودخل الشام فاتحا، وأقام حكومة إسلامية رشيدة.. هل بقي ذكر الحسين (ع) كما هو الآن؟.. بالتأكيد لا،  فالله -عز وجل- أراد لهذا الدم أن يفور طوال التاريخ.


- حديث العِبْرة:


أولاً: لماذا التخاذل عن نصرة الحسين؟..


كلنا نقرأ في زيارة الحسين (ع): (يا لَيْتَني كُنْتُ مَعَكُمْ؛ فَاَفُوزَ فَوْزاً عَظيماًً)!.. هذه أمنية جيدة، ولكننا لا نعلم لو كنا في زمان الحسين (ع)، وفي ظل الملابسات التي أحاطت بثورته؛ هل كنا كأصحاب الحسين أم لا؟.. السؤال: لماذا كان هذا التخاذل في المدينة وفي مكة؟.. فقد كان واضحا أن الحسين (ع) خارج في ثورة منذ البداية: من ساعة وداعه قبر جده وأمه، ومن خلال محاورته لأخيه محمد بن الحنفية، أفصح عما في قلبه: (وأني لم أخرج أشِراً ولا بَطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً.. وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص)).. وكذلك في مكة، وفي خروجه من مكة إلى كربلاء.. فلماذا بقي العدد هزيلا جدا؛ قياسا للأمة، وقياسا للقيادة (الحسين)، وقياسا للرسالة (الإسلام) التي يحملها الحسين، وقياسا للظلم (الذي يمارسه يزيد وأعوانه)، وأخيرا يبقى مع الحسين (ع) سبعون رجلا فقط!..


إن قتل مسلم سفير الحسين (ع)؛ يعكس هذا التخاذل الفظيع أيضا!.. فقد بايعه جمع غفير، ثم تخلوا عنه؛ فقُتل وأُلقي برأسه الشريف من دار الإمارة.. ولكن التاريخ لم يخبرنا عن حركة جماهيرية، ولا أصوات معترضة بحجم الكوفة، لماذا؟.. ما السبب: رغم وضوح الرسالة، ووضوح القائد، ووضوح الظلم اليزيدي الأموي؟..


الجواب في نقاط ثلاث:


1. عدم تبلور صورة الإمامة في أذهان الناس: إن علينا أن نشكر الله -عز وجل- على نعمة: الوعي، والثقافة، والبصيرة!.. لم يمر على التشيع زمان كهذا الزمان، الفساد والشهوات بلغت أوجها، ولكن -بحمد الله- الجانب الثقافي، والوعي الموجود في جيلنا اليوم؛ لم يكن موجودا في العصور الماضية، حيث انتقلت قضية الحسين من زوايا البيوت والمآتم.. إذ كان إحياء الشعائر يعقد قبل صلاة الفجر، وفي السراديب المظلمة؛ خوفا من بعض الطغاة.. والآن أصبح صوت الحسين (ع)، وفكر الحسين (ع)؛ يشعّ في الآفاق، وفي القنوات، وفي الصحف.. وأصبح الحسين معروفاً عند زعماء العالم، لأنه يعلم أن هناك إسلاما: متحركا، وصارخا، ومدويا؛ يحمل راية الحسين (ع).. ففي مكتبة الفاتيكان يوجد أكثر من ألف كتاب عن الحسين (ع)؛ لأنهم يعرفون من هو الحسين (ع) وما الذي فعله الحسين (ع).


إن هذا الوضوح لم يكن في زمان الحسين (عليه السلام)، لذا نلاحظ البعض في المدينة، يتعامل مع الإمام الحسين (ع) على أنه: سبط النبي (ص)، وابن علي (ع).. أما أنه إمام زمانهم، وقوله قول الله عز وجل، وأنهم حرب لمن حاربه، وسلم لمن سالمه؛ هذا المفهوم لم يكن متبلورا.. لهذا الإمامان الباقر والصادق (ع) هما اللذين أعطيا لهذا الخط ملامحه.. لماذا الإمام الباقر (ع) يطلب أن يُندب في منى عشر سنوات؟.. عن الإمام الصادق (ع): -ما مضمونه- (لقد قال لي أبي: يا جعفر، ليوقف من مالي، ويؤجر به من يرثني عشر سنوات في منى في مواسم الحج، ويبكي علي، ويجدد المآتم؛ لإظهار مظلوميتي).. لماذا هذا التأكيد على البكاء على الحسين (عليه السلام)؟.. لماذا هذا الإغداق على شعراء أهل البيت (ع)؟.. لماذا هذه الوعود العظيمة بالشفاعة لمن يذكر في الحسين شعرا ويقيم ذكره (ع)؟.. قال الرضا عليه السلام: (فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام).


الجواب:
أولاً: أن الأئمة (ع) أرادوا أن يقدموا هذه الفكرة في قالب فكري..


ثانياً: ومحاطا بهالة من العاطفة، ومن الارتباط النفسي؛ لتستقر في النفوس.


ولهذا لم يعهد التأريخ شخصية رُثت بأفضل أنواع الرثاء؛ مثل الحسين (ع).. لم تمر على البشرية فترة تألق فيها الأدب والفن، بما يجعل محوره رجلا كالحسين (ع)... لم نشهد في تاريخ البشرية هكذا شخصية، تحلق حولها الأدباء والمفكرون والسياسيون والمحبون.


2. حب الدنيا: البعض رأى الحسين (ع) في الأيام الأخيرة، واقتنع بجدوى خروج الحسين (ع).. الذين خرجوا مع مسلم، لا يمكن أن نصفهم جميعاً بقلة الوعي.. فالوعي موجد عند البعض، ولكن حب الدنيا رأس كل خطيئة، يقول الله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}.. لهذا علينا أن نسأل الله الثبات، فنحن ننتظر إمام الزمان (عج).. وقد نكون على مستوى جيد من الوعي والتنظير، ولكن قد نتخاذل إذا وصل الأمر إلى السيف وإلى إراقة الدم.. يُروى أنه بُشِّر أحدُهم في زمان الغيبة بمشاهدة الإمام الحجة (ع)، وفي الطريق للقاء الإمام (عج) أمطرت السماء.. فاعتذر لمرافقه، بأنه نسي صابونه على السطح، وهذا الصابون يتلفه المطر.. ولكل منا ما يتعلق به من متاع الدنيا البسيط، عندما يخرج إمام الزمان (عج).


3. عدم الوصول إلى درجة اليقين: البعض عنده وعي، يحب القتال؛ ولكنه لم يصل إلى درجة اليقين.. في حين نجد أن أصحاب الحسين (ع) وصلوا إلى اليقين الذي هو سر خلودهم.. هذا النص يرينا هذا اليقين، الإمام الحسين (ع) يقول في أصحابه: (فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي).. الإمام أعطاهم هذا الوسام؛ لأنهم بلغوا هذا اليقين، يقول أحد أصحابه، مسلم بن عوسجة: (أما والله!.. لو علمت أني أُقتل ثم أُحيا، ثم أُحرق ثم أُحيا، ثم أُذرى.. يُفعل ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك.. فكيف لا أفعل ذلك، وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا).. وقال زهير بن القين: (والله!.. لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت، حتى أُقتل هكذا ألف مرة.. وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك).. أحدهم كان يضحك يوم عاشوراء: (فجعل برُير يضاحك عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن: يا بُرير أتضحك؟.. ما هذه ساعة باطل، فقال برير: لقد علم قومي أنني ما أحببت الباطل كهلا ولا شابا، وإنما أفعل ذلك استبشارا بما نصير إليه، فو الله ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم ساعة، ثم نعانق الحور العين).. هكذا بلغ يقينهم: بأن هذه المعركة على خسرانها الظاهري؛ لأن الله -عز وجل- أراد ذلك؛ هو عين الانتصار.


وهنا درس للمؤمنين: أن المؤمن في إقدامه وفي إحجامه؛ ينظر إلى ما يرضي الله -عز وجل-.. أما المكاسب؛ فأمر آخر، هذه آثار: إن شاء الله -عز وجل- أن يعطي المكاسب للعبد، وإلا قد يشاء أن يؤخرها.. إذن، ما عليه إلا أن ينظر إلى رضا الله عز وجل: في مواقفه، وفي عمله، وفي كلمته.. وليدع المكاسب؛ فالله -عز وجل- خبير بالعباد!..


ثانياً: كيف نعبد الله؟..


الإمام الحسين (ع) لِم لَم يكمل حجته في مكة؟.. يقول الشاعر المعروف السيد جعفر الحلِّي:


مثل ابن فاطمة يبيت مشردا
ويزيد في لذاته متنعم 
   
 وقد انجلى عن مكة وهو ابنها
وبه تشرفت الحطيم وزمزم 



  لم يدر أين يريح بدن ركابه
  فكأن المأوى عليه محرم


ذهب إلى مكة ينتظر موسم الحج؛ فلماذا لم يُكمل حجته؟.. الإنسان يحب أن يكمل عبادته، ولكن الله قد يريد شيئاً آخر.. قد يكون عليك أن تخدم أبويك، وإن كان على حساب العمرة المستحبة والحجة المستحبة.. البعض يتحير: هل يذهب للحج المستحب، أم يدفع هذا المبلغ لمتورط من عباد الله الصالحين؟.. علينا أن ننظر كنظرة الحسين (ع)، ليس من المهم أن نأتي بالعبادات على الصورة التي نريدها، ولكن بالصورة التي يرتضيها الله عز وجل.. إبليس طلب من الله أن يعفيه من السجود لآدم، ويعبده بعدها عبادة لا مثيل لها، فجاءه الخطاب من الله عز وجل: (إنما عبادتي من حيث أريد، لا من حيث تريد).. عن الصادق (ع): (قال إبليس: رب!.. إعفني من السجود لآدم، وأنا أعبدك عبادة لا يعبدكها ملك مقرب، ولا نبي مرسل.. فقال جل جلاله: لا حاجة لي في عبادتك، إنما عبادتي من حيث أريد، لا من حيث تريد). 


ثالثاً: لماذا البكاء على الحسين (ع)؟..


إن الاتزان في الأمور هو المطلوب؛ لا إفراط ولا تفريط.. فيجب ألا ننتقص من قيمة البكاء، وكأنها عملية لا قيمة لها.. ولا أن نعطي للبكاء أكثر من حده.. البكاء عملية شعورية، ولكنها تأتي بعد مراحل ثلاث:


 المراحل الثلاث الأولى: الفكر، والعاطفة، والجوارح.. الاعتقاد بمن يبكى عليه، إذا كنت لا تعتقد بمن يبكى عليه؛ فلمَ تبكي؟.. من روائع الآيات في سورة يوسف، وتعد من قواعد السلوك إلى الله عز ووجل: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}.. لماذا قطعن أيديهن؟.. وصف زليخا لم يكن كافيا لأن يقطعن أيديهن.. ولكن عندما {رَأَيْنَهُ} رأي العين، هناك وصل العلم إلى عين اليقين، ثم أكبرنه في صدروهن.. رؤية معرفة ويقين بجمال يوسف، وبعد ذلك الإكبار النفسي.. في قلوبهن بدا جمال يوسف، والأثر الخارجي قطعن أيديهن.. هذا التقسيم الثلاثي: الفكر، والعاطفة، والجوارح؛ موجود في هذه الآية، رأينه: الفكر، والقناعة، واليقين.. أكبرنه: العاطفة، والنفس، والحب.. وقطعن أيديهن: هو العمل الجوارحي.. إذن قطعن أيديهن مسبوق بحركتين: رأينه، وأكبرنه.. البكاء كذلك: ترى عظمة الحسين (ع) وتعتقد بعظمة بالحسين (ع) رغم أنه إيمان بسواد على بياض.. النبي (ص) بكى شوقا إلى إخوانه، ذهب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى شهداء أحد، ووقف على قبور الشهداء، وقال: (السلام عليكم يا شهداء أحد!.. أنتم السابقون، وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون، وإني -إن شاء الله- بكم لاحق).. وأثناء رجوعه من الزيارة، بكي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟.. قال: (اشتقت إلى إخواني)، قالوا: أوَ لسنا إخوانك يا رسول الله؟.. قال: (لا، أنتم أصحابي.. أما إخواني: فقوم يأتون من بعدي، يؤمنون بي، ولم يروني).. لم نر النبي (ص) ولم نر المعجزات التي جرت على يديه، ولكن مع ذلك آمنا بالنبي (ص).. البعض يسمع ذكر النبي، فيجري دمعه على خديه.. هذا مصداق رأينه، ثم أكبرنه، ثم جرت الدموع على خدودنا.. فلو بكينا على الحسين من منطلق الظلامة؛ هذا لا يكفي.. إذ لابد من الرؤية، ومن الإكبار النفسي؛ ولهذا تأخذ الدمعة موقعها في حياة الإنسان المؤمن.


المرحلة الرابعة: الإلتزام بهذا الموقف.. فالبكاء موقف!.. مادام الإنسان بكى على الحسين (ع)؛ يكون قد أعلن موقفه من الحق، وأنه متبرىء من يزيد.. في زيارة عاشوراء نتبرأ ونلعن من ظلمهم ونصب لهم الحرب: (اللهُمَّ!.. الْعَنْ أوّلَ ظالِم ظَلَمَ حَقَّ مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَآخِرَ تَابِع لَهُ عَلَى ذلِكَ).. فبعد عاشوراء، على الإنسان أن يكون سلوكه سلوكا حسينيا، لا سلوكا مشابها ليزيد وأعوان يزيد.


المرحلة الخامسة: إشاعة الإصلاح: كما ورد في كلمة الحسين (ع) قبل خروجه إلى كربلاء: (وإني لم أخرج أشِراً ولا بطراً، ولا مُفسِداً ولا ظالماً.. وإنما خَرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جَدِّي محمد -صلى الله عليه وآله- أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر).


- حديث العَبْرة : 


توبة الحر بن يزيد الرياحي: الإمام قبل أن يقاتل، أراد أن يتمَّ الحجةَ على أصحابه.. في إحدى خطبه، خطب خطابا بليغا، من أثر خطابه تراجع الحر.. وتراجع الحر لم يكن تراجعا عشوائيا، يقول في النص: عندما خطب الإمام (ع) فضرب الحر بن يزيد فرسه، وجاز عسكر عمر بن سعد إلى عسكر الحسين (ع) واضعا يده على رأسه، وهو يقول: "اللهم!.. إليك أنيب فتب عليَّ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد  نبيك"، ثم قال: يا بن رسول الله، هل لي من توبة؟.. قال: (نعم، تاب الله عليك).. هكذا أنقذ الإمامُ الحرَّ من النار، وأتم الحجة على العباد إلى اللحظات الأخيرة من حياته، بخطبه وكلامه مع أعدائه.


الدعاء والاستغفار ليلة العاشر: عندما بعث العباس ليفاوضهم في تأجيل القتال قال له: (ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غد، وتدفعهم عنا العشية.. لعلنا نصلي لربنا الليلة، وندعوه، ونستغفره.. فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار).. الإمام (ع) مقدم على الشهادة، ومع ذلك يطلب مهلة أخيرة: للصلاة، والدعاء، والاستغفار.. إن الدم الذي أريق في يوم عاشوراء، كان يجري في جسد الحسين (ع) ليلة العاشر: دعاء، وابتهالا، وتضرعا، واستغفارا.


مسلم وحبيب: الحسين صهر الأصحاب في بوتقته، وخرج منهم من خرج.. هذا حوار جرى بين مسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر.. فسقط مسلم إلى الأرض وبه رمق.. فمشى إليه الحسين، ومعه حبيب بن مظاهر فقال له الحسين (ع): (رحمك الله يا مسلم!.. {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا}).. ثم دنا منه حبيب فقال: يعزّ عليّ مصرعك يا مسلم!.. أبشر بالجنة، فقال له قولا ضعيفا: بشّرك الله بخير، فقال له حبيب: لولا أعلم أني في الأثر، لأحببت أن توصي إليّ بكل ما أهمك.. فقال مسلم: فإني أوصيك بهذا!.. وأشار إلى الحسين (ع) فقاتلْ دونه حتى تموت!.. فقال حبيب: لأنعمنك عيناً، ثم مات رضوان الله عليه.. الحسين هو همهم حتى اللحظات الأخيرة. 


جون مولى أبي ذر الغفاري: تقدم جون مولى أبي ذر الغفاري، وكان عبداً أسود، فقال له الحسين: (أنت في إذن مني، فإنما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتل بطريقنا).. فقال: يا بن رسول الله!.. أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدة أخذلُكم.. والله!.. إن ريحي لمنتن، وإن حسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفّس عليّ بالجنة: فتطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيض وجهي؟.. لا والله!.. لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم.


سويد بن عمرو: تقدم سويد بن عمرو بن أبي المطاع، وكان شريفا كثير الصلاة، فقاتل قتال الأسد الباسل، وبالغ في الصبر على الخطب النازل، حتى سقط بين القتلى وقد أُثخن بالجراح.. فلم يزل كذلك وليس به حراك، حتى سمعهم يقولون: قُتل الحسين.. فتحامل، وأخرج سكينا من خُفّه، وجعل يقاتل حتى قُتل.


هكذا أصحابه، فكيف بأهل بيته من بني هاشم؟..


القاسم بن الحسن: القاسم بن الحسن (ع) وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم، فلما نظر الحسين إليه قد برز، اعتنقه وجعلا يبكيان حتى غُشي عليهما.. ثم استأذن الحسين (ع) في المبارزة، فأبى الحسين أن يأذن له.. فلم يزل الغلام يقبّل يديه ورجليه حتى أذن له -الحسين كان يرى أنه أمانة من أخيه الحسن، الإمام الذي قال عند استشهاده، عندما رأى أخاه الحسين (ع) يبكيه: (ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله)-.. تقول الرواية: فخرج ودموعه تسيل على خديه وهو يقول: 


إن تنكروني فأنا ابن الحسن
سبط النبي المصطفى والمؤتمن

هذا حسين كالأسير المرتهن
 بين أناس لا سقوا صوب المزن


 وكان وجهه كفلقة القمر، فقاتل قتالا شديدا حتى قتل على صغره خمسة وثلاثين رجلا.. قال حميد: كنت في عسكر ابن سعد، فكنت أنظر إلى هذا الغلام عليه قميص وإزار ونعلان، قد انقطع شسع أحدهما، ما أنسى أنه كان اليسرى.. فقال عمرو بن سعد الأزدي: والله لأشدن عليه، فقلت: سبحان الله، وما تريد بذلك؟.. والله!.. لو ضربني ما بسطتُ إليه يدي، يكفيه هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه.. قال: والله لأفعلن!.. فشد عليه، فما ولّى حتى ضرب رأسه بالسيف، ووقع الغلام لوجهه، ونادى: (يا عماه)!.. فجاء الحسين كالصقر المنقضّ، فتخلّل الصفوف، وشدّ شدّة الليث الحرِب فضرب عمرا قاتله بالسيف، فاتقاه بيده فأطنّها من المرفق.. فصاح ثم تنحّى عنه، وحملت خيل أهل الكوفة؛ ليستنقذوا عمرا من الحسين.. فاستقبلتْه بصدورها، وجرحته بحوافرها، ووطئتْه حتى مات الغلام.. فانجلت الغبرة، فإذا بالحسين (ع) قائم على رأس الغلام، وهو يفحص برجله.. فقال الحسين: (يعزّ والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا يعينك، أو يعينك فلا يغني عنك.. بُعداً لقوم ٍقتلوك)!.. ثم احتمله، فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطّان في الأرض، وقد وضع صدره على صدره.. فقلت في نفسي: ما يصنع؟.. فجاء حتى ألقاه بين القتلى من أهل بيته، ثم قال: (اللهم!.. أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، ولا تغفر لهم أبدا.. صبرا يا بني عمومتي!.. صبرا يا أهل بيتي!.. لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا)!..


العباس أخو الحسين (ع): إن العباس لما رأى وحدته (ع) أتى أخاه وقال: (يا أخيّ، هل من رخصة)؟.. فبكى الحسين (ع) بكاء شديداً ثم قال: (يا أخي أنت صاحب لوائي، وإذا مضيت تفرّق عسكري)!.. فقال العباس: (قد ضاق صدري، وسئمت من الحياة، وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين).. فقال الحسين (ع): (فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلا من الماء).. فذهب العباس، ووعظهم، وحذّرهم؛ فلم ينفعهم.. فرجع إلى أخيه فأخبره، فسمع الأطفال ينادون: العطش العطش!.. فركب فرسه، وأخذ رمحه والقربة، وقصد نحو الفرات؛ فأحاط به أربعة آلاف ممن كانوا موكلين بالفرات، ورموه بالنبال فكشفهم، وقتل منهم على ما رُوي ثمانين رجلا، حتى دخل الماء.. فلما أراد أن يشرب غُرفة من الماء، ذكر عطش الحسين وأهل بيته، فرمى الماء -وهنا سر من أسرار خلوده- وملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن، وتوجّه نحو الخيمة.. فقطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب، فحاربهم حتى ضربه نوفل الأزرق على يده اليمنى فقطعها، فحمل القربة على كتفه الأيسر، فضربه نوفل فقطع يده اليسرى من الزند، فحمل القربة بأسنانه، فجاءه سهم فأصاب القربة وأُريق ماؤها، ثم جاءه سهم آخر فأصاب صدره.. فانقلب عن فرسه وصاح إلى أخيه الحسين: (أدركني)!.. فلما أتاه رآه صريعا، فبكى وحمله إلى الخيمة ثم قالوا: ولمّا قُتل العباس قال الحسين (ع): (الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي). 


وأخيرا بقي الحسين (ع) وحيدا!..

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع