شارك هذا الموضوع

عقيلة بني هاشم

سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما نزل الوحي بآية (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر اسمه)، أين هذه البيوت وأشار السائل إلى بيت عليّ وفاطمة.. هل هذا البيت منها؟ فأجاب الرسول فوراً وبلا تردد وعلى مسمع من جميع الصحابة الحاضرين (بلى إنه من أشرفها).


وكيف لا يكون هذا البيت من أشرف البيوت وزغب جناح الوحي لم يفارقه لحظة قط.



الولادة:
في البيت الهاشمي المحمدي العلوي الفاطمي الذي هو من أشرف البيوت وأطهرها، قد بزغ نور أضاء الكون كله، إعلاناً بولادة أعظم مولودة، بعد سيدة نساء العالمين، وقد هبط الأمين جبرائيل من السماء وقال للنبي (صلى الله عليه وآله): (يا رسول الله، السلام يقرئك السلام، ويقول لك سمّها زينب)، وكأن الإرادة الربانية أرادت أن تجمع في حروف اسمها الزهد واليقين والنور والبيان.. أو البلاء فيما بعد. وكان ذلك في اليوم الخامس من جمادى الأولى سنة (ه هـ) عندما حدّثوا أن نبوءةً ذاعت عن مولد الطفلة تشير إلى دورها الفاجع في مأساة كربلاء، وتحدّث بظهر الغيب عما ينتظرها في غدها من محن وآلام.



النشأة:
كيف ينتظر أن تنشأ من تربت في حجر النبوة وحضن الإمامة ودرجت في فناء العصمة وانتهلت من معين الطهر والنجابة رائق وجدها؟!


لقد نشأت هذه البطلة على محبة الله ورسوله وأوليائه، عابدة تقية طاهرة زكية، راضية مرضية، صديقةً كأمها سيدة النساء، فقيهةً عالمة غير معلمة كما وصفها ابن أخيها الإمام السجاد (عليه السلام).


أدركت جدها النبي (صلى الله عليه وآله) وعاشت معه برهة من الزمان فهي صحابية حسب الاصطلاح، وأدركت أمها الزهراء (عليه السلام) ورأت مصيبتها وسمعت خطبتها في المسجد النبوي الشريف وشاهدت أذى القوم لها وكسر ضلعها وسقط جنينها واستشهادها وتشييعها ودفنها ليلاً. وأمضت مع أبيها علي المرتضى (عليه السلام) ما يقرب من 35 عاماً وكانت حاضرة خطبه وجهاده واستشهاده.


وسمعت جبرائيل (عليه السلام) ينادي بين الأرض والسماء (تهدمت والله أركان الهدى)، وصاحبت أخاها الحسن (عليه السلام) وشهدت وقائعه ومصائبه وغدر الناس به وتسميمه وقذف كبده من فمه وتشييعه ورمي جنازته بالسهام، ثم صاحبت أخاها الحسين (عليه السلام) وشاطرته هموم ثورته، وقامت بإكمال الجزء الثاني من مسيرته.


وإذا كان الله قد جعل مع آدم زوجته ومع موسى أخته ومع عيسى أمه ومع محمد بنته، فقد جعل مع الحسين أخته الصديقة الطاهرة، فهما من شجرة واحدة. الفارق بينهما بضع سنوات قليلة والتربية واحدة في كنف الرسول وحضن فاطمة البتول وتحت ظلال أمير المؤمنين علي، فهي إلى ذلك تجسد شمائل أمها بكل جلالها وجمالها وتتمثل بشخصية أبيها بكل تقواها وعلمها وتتناسب مع شخصية أخيها الحسن وتكاد تتطابق مع شخصية أخيها الحسين...


لقد رسمت الزهراء فاطمة (عليها السلام) طريقاً لحمل أعباء الدعوة.. معالمه الهجرة والقيام والقتل والشهادة ثم الكلمة الثائرة التي لا تهدأ والدمعة الناطقة التي لا ترقأ.


وزينب (عليها السلام) بنت الزهراء (عليها السلام) شاهدة عاشوراء، وشقيقة الحسين (عليه السلام) قد استوعبت الدرس تماماً.



إعلام الثورة
حقاً أن زينب (عليها السلام) هي التي جعلت من كربلاء مأساةً خالدة، وهي التي أمدّت الثورة الحسينية بماء الحياة وأبقت روحها متجددةً لا يعتريها الفناء رغم أنف الزمان.


وحقاً إن زينب (عليه السلام) كانت أفضل من يحمل رسالة عاشوراء لكي يوقظ الضمير السابت ويهز الوجدان الهامد ويفجر طاقات الرفض في أمة التوحيد، وقد نهضت العقيلة (عليها السلام) بهذا الدور العظيم عبر ثلاثة محاور:


الأول: الخطاب الجماهيري
وفيه تتلمس عناصر التأثير البالغ والمستمر في التقوس بما لا طاقة لمخلوق على دفعه، لما يمتاز به من صدق لهجة وعفوية، ووضوح رؤية وإيحائية، وسلاسة نطق وفصاحة قول، وسلامة عرض وإقامة دليل وحجة بالغة وبرهان ساطع ونهج قويم كنهج عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).


وامتاز الخطاب الزينبي كذلك بالعاطفة الجياشة والوعي الرسالي والولاء العميق للقيادة الشرعية والدعوة إليها صراحة وتحميل المستمع المسؤولية مباشرة فهي عند ما خطبت بأهل الكوفة مثلاً ركزت الحديث حول مسئوليتهم، لأنهم ربما كانوا يبررون خروجهم لقتال سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخوف من جيش الشام وسلطة بني أمية، وتركت الحديث عن السلطة، فسدت عليهم باب الذريعة وواجهتهم بحقيقة أنفسهم وما عليها من جبن وتخاذل ونقض للعهود وخفر للذمام وبالعكس فعلت في خطابها الذي واجهت به الطاغية ابن زياد أو الطاغوت يزيد، فلم تذكر أي كلام عن الأمة لكي تقطع العذر عليه أيضاً وتوقفه أمام مسئوليته. وهذا من أعظم ركائز البلاغة في الخطاب.



الثاني: اللقاء المباشر
لقد كانت زينب (عليه السلام) لسان الثورة والمحور الذي دارت حوله جميع تفاصيلها منذ البداية، والعامل المهم الذي أراد به الحسين أن تبقى جذوة ثورته متأججة دائماً أبداً، وذلك منذ أن أصرّ - على إخراج عياله وعلى رأسهم زينب - معه من المدينة إلى العراق، وقد أفصح عن غايته حين قال: شاء الله أن يراهن سبايا لعلمه أن السبى سيكون من بعد قتله.. إذن فلنجعل منه وسيلة لنشر وتبليغ أهداف الدم الذي سال على أرض المعركة ليرسم للأجيال طريق التحرر من أغلال العبودية والظلم.


وفي هذه الرحلة الطويلة من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام، عبر الأقطار والأمصار والمدن والقرى والسكك والأزقة وقد خرج الناس من كل فج عميق لينظروا ماذا حلّ بآل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم تدخر الحوراء وسعاً في إعلان الحقائق وإبلاغ صوت المظلومية وعرض فصول المأساة على الملأ عبر اللقاء المباشر والمواجهة الشخصية التي فرضتها حالة السبى التي أثارت سخط ونقمة الجماهير على قتلة الحسين وأصحابه النجباء، فارتفعت الشعارات المناوئة للسلطة وجوبه العسكر الحافُّ بالسبايا بالضرب بالحجارة والسبّ واللعن ولا حقته صرخة (يا قتلة أولاد الأنبياء) أينما حلّ وارتحل.


وينقل لنا التأريخ أن زينب حسين أسكنت هي والنساء والأطفال ومعهم زين العابدين (عليه السلام) في دار قريبة من قصر الإمارة في الكوفة، أمرت أن لا يدخل عليها إلا امرأة سبيت من قبل، لأنها ذاقت مرارة الأسر مثلها وهناك قامت بدورها في بث الدعوة. ولعل السبب في اختيار هذا النوع من النساء هو أنهن أقرب إلى الاستجابة للدعوة ونقل وقائع المأساة إلى الجماهير وهكذا فعلت زينب في الشام والمدينة.


الثالث: النياحة والبكاء
بعد عودة السيدة العقيلة إلى حرم جدها كتب وإلي يزيد على المدينة إلى يزيد ما يلي:


إن وجودها بين أهل المدينة مهيج للخواطر وأنها فصيحة عاقلة لبيبة، وقد عزمت هي ومن معها على القيام للأخذ بثأر الحسين، فكتب إليه فرق بينها وبين أهلها.


كيف قامت الصديقة الصغرى بإثارة أهل المدينة؟!


بالنياحة، إذ أنها أقامت مجالس العزاء، وكانت هذه المجالس التي ما زالت مستمرة في العالم الإسلامي حتى اليوم بمثابة مؤسسة إعلامية تتميز بالتعبئة والتوعية الدينية إلى جانب التزكية والتربية.


لقد كان بكاء السيدة زينب (عليه السلام) ذا هدف رسالي فلم يكن بكاءً ذليلاً ولا ندماً على ما مضى ولا جزعاً من المصائب وإنما كان بكاء تحد وإيقاظ وهكذا كانت سائر أفعالها وممارساتها التي قد تبدو في صورة هلع وجزع وهي في الحقيقة كانت تخفي في طياتها أسمى الغايات وأعلى الأهداف.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع