شارك هذا الموضوع

موقف الإمام الهادي (عليه السلام) من مسألة خلق القرآن

الواثق ومحنة خلق القرآن
امتحن الواثق العباسي الناس في قضية خلق القرآن فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان وأن لا يجيزوا إلاّ شهادة من قال بالتوحيد، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً.


وفي سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين ورد كتاب إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن، وكان قد تبع أباه في ذلك ثم رجع في آخر أمره.


وفي هذه السنة قتل احمد بن نصر الخزاعي وكان من أهل الحديث وقد استفتى الواثق جماعة من فقهاء المعتزلة بقتله فأجازوا له ذلك، وقال: إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد فمشى إليه فضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد فصلب بها، وصلبت جـثته في سرّ من رأى، واستمر ذلك ست سنين إلى أن ولي المتوكل فأنزله ودفنه، ولما صلب كتب ورقة وعلقت في أذنه فيها: (هذا رأس احمد ابن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلاّ المعاندة فعجله الله إلى ناره) ووكل بالرأس من يحفظه.


وفي هذه السنة تم تحرير من الروم ألفاً وستمائة أسير مسلم فقال ابن داود ـ قبحه الله ـ ! من قال من الأسرى (القرآن مخلوق) خلصوه وأعطوه دينارين ومن امتنع دعوه في الأسر(1).


قال الخطيب: كان احمد بن أبي داود قد استولى على الواثق وحمله على التشدد في المحنة ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن.


ومن جملة من شملهم ظلم الواثق أبو يعقوب بن يوسف بن يحيى البوطي صاحب الشافعي الذي مات سنة (231 هـ) محبوساً في محنة الناس بالقرآن، ولم يجب إلى القول بأنه مخلوق وكان من الصالحين(2).


وجيء بأبي عبد الرحمن عبد الدين محمد الآذرمي (شيخ أبي داود والنسائي) مقيّداً إلى الواثق وابن أبي داود حاضر، فقال له: أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه، أعلمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يَدعُ الناس إليه أم شيء لم يعلمه؟ فقال ابن أبي داود: بل علمه. فقال: فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه وأنتم لا يسعكم؟ قال: فبهتوا وضحك الواثق وقام قابضاً على فمه ودخل بيتاً ومدّ رجليه وهو يقول: وسع النبي (صلى الله عليه وآله) أن يسكت عنه ولا يسعنا! فأمر له أن يعطى ثلاثمائة دينار وأن يرد إلى بلده ولم يمتحن أحداً بعدها ومقت ابن أبي داود من يومئذ.


وعن يحيى بن أكثم: ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق، ما مات وفيهم فقير(3).


موقف الإمام الهادي (عليه السلام) من مسألة خلق القرآن


لقد عمت الأمة فتنة كبرى زمن المأمون والمعتصم والواثق بامتحان الناس بخلق القرآن وكانت هذه المسألة مسألة يتوقف عليها مصير الأمة الإسلامية، وقد بيّن الإمام الهادي (عليه السلام) الرأي السديد في هذه المناورة السياسية التي ابتدعتها السلطة فقد روي عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطين أنه قال: كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إلى بعض شيعته ببغداد :


(بسم الله الرحمن الرحيم، عصمنا الله وإياك من الفتنة فإن يفعل فاعظم بها نعمة وإلاّ يفعل فهي الهلكة. نحن نرى إن الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب فتعاطى السائل ما ليس له وتكلف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلاّ الله وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين. جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون)(4).


الإمام الهادي وخلفاء عصره


إخبار الإمام الهادي (عليه السلام) بموت الواثق
كان الإمام الهادي (عليه السلام) يتابع التطورات السياسية ويرصد الأحداث بدقة. فعن خيران الخادم قال: قدمت على أبي الحسن (عليه السلام) المدينة فقال لي: ما خبر الواثق عندك؟ قلت: جعلت فداك خلفته في عافية، انا من أقرب الناس عهداً به، عهدي به منذ عشرة أيام قال: فقال لي: إن أهل المدينة يقولون انّه مات، فلما أن قال لي: (الناس)، علمت انه هو، ثم قال لي: ما فعل جعفر؟ قلت: تركته أسوء الناس حالاً في السجن، فقال: أما إنه صاحب الأمر. ما فعل ابن الزيات؟ قلت: جعلت فداك الناس معه والأمر أمره. فقال: إما انه شؤم عليه. ثم سكت وقال لي: لا بد أن تجري مقادير الله تعالى وأحكامه. يا خيران، مات الواثق وقد قعد المتوكل جعفر وقد قتل ابن الزيات. فقلت: متى جعلت فداك؟ قال: بعد خروجك بستة أيّام(5).


وهذه الرواية دون شكّ تظهر لنا حدّة الصراع والتنافس على السلطة داخل الأسرة العباسية الحاكمة، كما تظهر لنا مدى متابعة الإمام (عليه السلام) للأوضاع العامة والسياسية أولاً بأول. واهتمامه الكبير هذا يوضح مستوى الحالة السياسية التي كانت تعيشها قواعد الإمام (عليه السلام) الشعبية ومواليه، فكان يوافيهم بمآل الأحداث السياسية، ليكونوا على حذر أولاً، ولينمّي قابلياتهم في المتابعة وتحليل الظواهر ثانياً.


المتوكّل (232 ـ 247 هـ)


هو جعفر بن المعتصم بن الرشيد، أُمّه أُم ولد اسمها شجاع. أظهر الميل إلى السنّة، ورفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق سنة (234 هـ )، واستقدم المحدّثين إلى سامرّاء وأجزل عطاياهم وأمرهم أن يحدّثوا بأحاديث الصفات والرؤية.


وقالوا عنه: انّه كان منهمكاً في اللذات والشراب، وكان له أربعة آلاف سُرِّيّة (أمة يتسرّى بها). وقال علي بن الجهم: كان المتوكل مشغوفاً بقبيحة أُم المعتزّ، والتي كانت أُم ولد له، ومن أجل شغفه بها أراد تقديم ابنها المعتزّ على ابنه المنتصر بعد أن كان قد بايع له بولاية العهد، وسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى، فكان يُحضره مجلس العامّة ويحطّ منزلته ويتهدّده ويشتمه ويتوعّده(6).


وكان المتوكل مسرفاً جداً في صرف بيت المال على الشعراء الذين يتقرّبون إليه بالمديح ـ في الوقت الذي كان عامة الناس يشتكون الفقر والحاجة ـ حتى قالوا: ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكّل، وفيه قال مردان ابن أبي الجنوب:


فامسِك ندى كفّيك عني ولا تزد *** فقد خفتُ أن أطغى وأن اتجبّرا


فقال المتوكل: لا أمسك حتى يغرقك جودي، وكان قد أجازه على قصيدة بمائة ألف وعشرين ألفاً(7).


ولعلّ من وصف المتوكل بالجود سوف يتراجع عن وصفه إذا سمع أن المتوكّل قال للبحتري: قُل فيّ شعراً وفي الفتح بن خاقان، فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني، فقل في هذا المعنى، فقال البحتري:


يا سيّدي كيف أخلفتَ وعدي *** وتثاقلت عن وفاء بعهدي؟


لا أرتني الأيام فقدك يا فتـ *** ـحُ ولا عَرَّقتْك ما عشتَ فقدي


أعظم الرزء أن تقدّمَ قبلي *** ومن الرزء أن تؤخّر بعدي


حذراً أن تكون إلفاً لغيري *** إذ تفرّدت بالهوى فيك وحدي


وقد قتل المتوكل والفتح بن خاقان في مجلس لهوهما في ساعة واحدة وفي جوف الليل في الخامس من شوّال سنة (247 هـ ).


الإمام الهادي (عليه السلام) والمتوكل العباسي
وقد عُرف المتوكل ببغضه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولآل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، ففي سنة (36 هـ) أمر بهدم قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وهدم ما حوله من الدور. ومنع الناس من زيارته وأمر بمعاقبة من يتمرّد على المنع.


قال السيوطي: وكان المتوكّل معروفاً بالتعصّب فتألّم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء.


ولم يقف المتوكّل عند حدّ في عدائه ونصبه لأهل البيت (عليهم السلام) وإيذاء شيعتهم فقد قتل معلّم أولاده إمام العربية يعقوب ابن السكّيت حين سأله: من أحب إليك؟ هما ـ يعني ولديه المعتز والمؤيد ـ أو الحسن والحسين؟ فقال ابن السكّيت: قنبر ـ يعني مولى علي ـ خير منهما، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات، وقيل أمر بسلّ لسانه فمات، وذلك في سنة (244 هـ )(8).


وأهم حدث في زمن المتوكّل فيما يخص حياة أهل البيت (عليهم السلام) بحيث يكشف عمّا وصل إليه الرأي العام الإسلامي من التوجه إليهم والاهتمام بهم في الوقت الذي كان العباسيون يفقدون فيه موقعهم في النفوس هو حدث اشخاص المتوكّل للإمام علي الهادي (عليه السلام) من مدينة جدّه ووطنه إلى سجون سرّ من رأى بعيداً عن حواضر العلم والدين والأدب.


ففي سنة (234 هـ) أي بعد سنتين(9) من سيطرته على كرسي الخلافة أمر المتوكل يحيى بن هرثمة بالذهاب إلى المدينة والشخوص بالإمام إلى سامراء، وكانت للإمام (عليه السلام) مكانة رفيعة بين أهل المدينة، ولمّا همّ يحيى باشخاصه اضطربت المدينة وضج أهلها كما ينقل يحيى نفسه، حيث قال: دخلت المدينة فضج أهلها ضجيجاً عظيماً، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهادي (عليه السلام) ـ وقامت الدنيا على ساق، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً المسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا فجعلت أسكتهم، وأحلف لهم أني لم أوامر فيه بمكروه وأنه لا بأس عليه ثم فتّشت منزله فلم أجد إلاّ مصاحف وأدعية، وكتب علم، فعظم في عيني(10).


ونستفيد من هذه الرواية أُموراً منها :


1 ـ قوة تأثير الإمام الهادي (عليه السلام) وإنشداد الناس إليه وتعلقهم به لكثرة إحسانه إليهم، ولأنه يجسّد الرسول والرسالة في هديه وسلوكه.


2 ـ خشية السلطة العباسية من تعاظم أمر الإمام (عليه السلام) ومن سهولة اتصال الجماعة الصالحة به ، وإشخاصه إلى سامراء يعتبر إبعاداً له عنهم ومن ثم يمكن وضعه تحت المراقبة الشديدة .


3 ـ تأثر قائد الجيش العباسي ـ يحيى بن هرثمة ـ بالإمام (عليه السلام) وتعظيمه له، لكذب الاتهامات حوله بالنسبة لعدّ العدة والسلاح للإطاحة بالخليفة العباسي.


4 ـ عزوف الإمام (عليه السلام) عن الدنيا وملازمة المسجد متخذاً من سيرة آبائه نبراساً له، ومن المسجد طريقاً لبث علوم أهل البيت (عليهم السلام) وتصحيح معتقدات الأمة.


5 ـ عزل الإمام (عليه السلام) عن شيعته ومحبيه ، فسامراء مدينة أسسها المعتصم العباسي وكانت تسكنها غالبية تركية (قوّاد وجنود) ولم يكونوا يعبؤون بالدين والقيم قدر اهتمامهم بالسيطرة والسلطة .
 
الهوامش:
1- يراجع تاريخ اليعقوبي: 2 / 482 ـ 483، وتاريخ الخلفاء : 401 .
2- تاريخ ابن الوردي: 1 / 335 .
3- تاريخ الخلفاء: 342 .
4- أمالي الشيخ الصدوق: 489 .
5- أصول الكافي: 1 / 498 ح 1 ب 122 .
6- تاريخ الخلفاء: 349 ـ 350 .
7- تاريخ الخلفاء: 349 ـ 350 .
8- تاريخ الخلفاء 348:.
9- أن تاريخ الرسالة التي استقدم بها المتوكل الإمام الهادي (عليه السلام) على ما في جملة من المصادر هو سنة (244هـ) وليس (234 هـ)، ويشهد لذلك ما صرّح به الشيخ المفيد (قدس سره) من أن مدّة إقامة الإمام الهادي بسرّ من رأى عشر سنين وأشهراً، وحيث استشهد في سنة (254 هـ ) فيظهر من ذلك أن استقدامه كان سنة (244 هـ) أي بعد اثنتي عشرة سنة من حكم المتوكّل، وهو غير بعيد.
10- تذكرة الخواص، سبط ابن الجوزي: 203.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع