لم يقتصر نشاط الإمام (عليه السّلام) على بناء الجامعة العلميّة وغيرها من الأنشطة العامة; لأنّه كان يدرك جيّدًا أنّ هدفه الكبير هو الحفاظ على الإسلام الذي سوف يتعرّض للتعطيل إذا اقتصر على ذلك ولم يستهدف المحتوى الدّاخلي للأفراد، ولم يسعَ لبناء الشّخصيّات الصّالحة التي تمدّ السّاحة الإسلاميّة العامّة بعوامل القوّة والبقاء والحفاظ على الأمّة والدّفاع عن مقدّساتها.
• الهدف من إيجاد الجماعة الصّالحة
من هنا كان تحرّك الإمام (عليه السلام) نحو بناء الجماعة الصالحة بهدف تغيير المجتمع الإسلاميّ وفق أطروحة أهل البيت (عليهم السلام); لأنّ وجود مثل هذا التّيّار المتماسك يوفّر جملة من المكاسب والمنافع والأهداف التي كان يسعى الإمام (عليه السلام) إلى تحقيقها في حركته الرّساليّة.
إنّ الجماعة الصّالحة تحقّق ديمومة خطّ أهل البيت (عليهم السلام) حيث يشكّل وجودها خطوة عملية باتّجاه مشروعهم الكبير.
ونلخّص فيما يلي بعض النقاط التي يُحقّقها وجود هذه الجماعة الصّالحة[1].
1 - المحافظة على المجتمع الإسلاميّ
إنّ وجود هذا الخطّ في وسط الأمّة سوف يوسّع من دائرة الأفراد الصّالحين والواعين، وكلّما اتّسعت هذه الدّائرة كان الإمام (عليه السلام) أكثر اقتدارًا على التّغيير، وإدارة العمل السياسيّ الذي يخوضه مع الحكّام.
ويمثّل هذا الخطّ القوّة التي تقف بوجه التحدّي الفكريّ والأخلاقيّ الذي واجهه العالم الإسلاميّ حينذاك، وقد كان من المشهود تأريخيًّا ما لهذه الجماعة الصّالحة من دور فعّال ومتميّز في تزييف البُنى الفكريّة والسياسيّة التي تعتمدها الفرق الضالّة من خلال مطارحاتهم ومناقشاتهم مع أقطاب تلك الفرق كالزّنادقة، والمجبّرة، والمرجئة، وغيرها.
وامتاز أصحاب الإمام الصّادق (عليه السّلام) عن غيرهم بالمواقف الشّجاعة والتّمسّك بالمُثل والِقيم العليا، وعدم المداهنة، وعدم الرّكون لإغراءات السّلاطين، وتحمّلوا جرّاء التزامهم بالقِيم المُثلى شتّى ألوان القمع والاضطهاد، وكان لمواقفهم الشّجاعة الأثر الكبير في ثبات ومقاومة المجتمع الإسلاميّ أمام موجات الانحراف.
لقد كان الإمام الصّادق (عليه السّلام) يطلب من شيعته أنْ يكون كلٌّ منهم القدوة والمَثل الأعلى في الوسط الذي يعيش فيه، فقد روي عن زيد الشحّام أنّه قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): "اقرأ على مَن ترى أنّه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السّلامَ، وأوصيكم بتقوى الله (عزّ وجلّ) والورع في دينكم، والاجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السّجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلّى الله عليه وآله)، وأدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برًّا، أو فاجرًا، فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدّى الأمانة، وحَسن خُلقه مع النّاس، قيل: هذا جعفريّ"[2].
وكان الإمام (عليه السّلام) يأمر شيعته بالاهتمام بوحدة الصفّ الإسلاميّ، والانفتاح على المذاهب الأخرى، وترسيخ روح التّعايش والمحبّة، وتأكيد التّماسك بين الجماعات الإسلاميّة، فنجده يحرّضهم على التّضامن، والتّكافل، والوفاء بالعهود مع باقي المسلمين، قال (عليه السلام): "عليكم بالصّلاة في المساجد، وحسن الجوار للنّاس، وإقامة الشّهادة، وحضور الجنائز، إنّه لا بدّ لكم من النّاس، إنّ أحدًا لا يستغني عن النّاس في حياته، والناس لا بدّ لبعضهم من بعض"[3].
وكان (عليه السّلام) يطرح للشّيعة الأفق الإسلاميّ الرّحيب في السّلوك؛ ليتحرّكوا باتّجاهه، وأنْ لا يكتفوا بالمستويات الدّانية مخافة أنْ تهزّهم ريح التّحدّي والإغراء، فيصف الشّيعة لهم قائلاً: "فإنّ أبي حدّثني: إنّ شيعتنا أهل البيت كانوا خيار مَن كانوا منهم: إنْ كان فقيه كان منهم، وإنْ كان مؤذِّن كان منهم، وإنْ كان إمام كان منهم، وإنْ كان كافل يتيم كان منهم، وإنْ كان صاحب أمانة كان منهم، وإنْ كان صاحب وديعة كان منهم، وكذلك كونوا، حبّبونا إلى الناس، ولا تبغّضونا إليهم"[4].
2- الحفاظ على الشّريعة الإسلاميّة
وقف الإمام الصّادق (عليه السّلام) ضدّ حملات التّشويه التي أرادت أنْ تعصف بالشّريعة الإسلاميّة، وتعرّضها للانحراف الذي أصاب الشرايع الأخرى من خلال دخول أفكار غريبة عن الشّريعة بين أتباعها، واستخدام أدوات جديدة لفهم الشّريعة كالقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة.
ونتيجة للمستوى العلميّ الرفيع الذي كان يتمتّع به أصحاب الإمام (عليه السلام) وشيعته لم تصبح مسألة الإفتاء والاستنباط خاضعة لمصلحة السّلاطين وأهوائهم، أو منسجمة مع متبنّياتهم الفكريّة، بل بقي الفهم الصحيح للكتاب والسُنّة مستقلاً عن تلك المؤثّرات، وبعيدًا عن استخدام تلك الأدوات الدّخيلة على التّشريع.
وعندما استخدمت الجماعات الأخرى تلك الأدوات الاجتهاديّة أدّت هذه الجرأة إلى آثار سلبيَّة ممّا اضطرّها إلى أنْ تلجأ إلى غلق باب الاجتهاد، وكان هذا القرار قد ترك هو الآخر آثارًا سلبيّة في المجتمع الإسلاميّ؛ لعدم قدرتها على معالجة التّطوّرات الجديدة التي كانت تواجهها البلاد الإسلاميّة فيما بعد.
لقد أكّد الإمام الصّادق (عليه السلام) قضيّة مهمّة، واعتبرها رصيدًا مهمًّا لفهم النّصوص، وتبيينها، والاستنباط منها، وتلك هي مَلَكة التّقوى والعدالة التي لا بدّ للفقيه أنْ يتمتّع بها؛ ليكون حارسًا أمينًا للشّريعة والأمّة التي تريد تطبيقها في الحياة.
والعدالة عند الإمام (عليه السّلام) شرط في كثير من الممارسات الحياتيّة، فهي شرط في إمام الجماعة، وفي شهود الطّلاق، وفي القاضي والحاكم والوالي.
وهذه المزيّة لها دور كبير في حفظ الشّريعة، وحفظ النّصوص الإسلاميّة بحيث تميّز هذه المدرسة عن غيرها، كما أنّ أصحاب الإمام (عليه السّلام) لم يتعاملوا مع النّصوص الواردة عن الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، والأئمّة (عليهم السّلام) كما تعاملوا مع النّصّ القرآنيّ القطعيّ الصّدور، بل تناولوها بالدّراسة والنّقد والتّحليل، لأنّ الرّاوي قد لا يكون معصومًا عندهم بالرّغم من إيمانهم بعصمة الإمام (عليه السلام) المرويّ عنه.
3- المطالبة بالحكم الإسلاميّ
إنّ القيادة السياسيّة حقّ مشروع للأئمّة المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام) وفق النّصوص الإسلاميّة الثّابتة عن الرّسول (صلّى الله عليه وآله) والتي تواترت عند مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
والإمام (عليه السّلام) كان يرى ضرورة العمل؛ من أجل إيجاد الكيان الإسلاميّ الصّحيح والمطلوب وذلك من خلال وجود المجتمع الإسلاميّ الصّالح الذي يؤمن بالقيادة الشّرعيّة الحقيقيّة المتمثِّلة في الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام).
وهكذا كان الإمام (عليه السلام) يلفت النّظر إلى ضرورة وجود هذه القاعدة الصّالحة حين كان يجيب على التّساؤلات التي كانت تدور في نفوس أصحابه.
وهكذا تبدو أهمية السّعي؛ لتكوين، وترشيد حركة الجماعة الصّالحة في هذه المرحلة من حياة الإمام (عليه السلام)، وتوسيع رقعتها في أرجاء العالم الإسلاميّ.
________________________________________
[1] راجع للتفصيل: السيد محمد باقر الحكيم، دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة، الجزء الأوّل.
[2] وسائل الشيعة: 12/5 ح2 عن أصول الكافي: 2/464 ح5.
[3] وسائل الشيعة: 12/6 ح5 عن الكافي: 2/464 ح1.
[4] مشكاة الأنوار: 146، وبحار الأنوار: 74 / 162.
التعليقات (0)