شارك هذا الموضوع

هكذا فهمت هيهات

تفكرت مرة في كلمة أبي عبد الله الحسين (ع) الرائعة (هيهات منا الذلة ) , ما عساها تصنع في الوجدان الشعبي, وما عساها تعني حين تفكيكها, كلمة لا تتجاوز الثلاث كلمات, وبتأملي في أبعاد كل كلمة من مفرداتها وجدت الكثير مما تدل عليه الكلمة مجموعة بعد تفكيكها, قد لاتتفق معي أيها القارئ الكريم, ولكنها رؤية اجتهادية قاصرة من متأمل لا يسأم من التأملات.


لماذا قال الإمام هيهات؟ في الوقت الذي يحمل فيه قاموس العربية المفردات الكثيرة المؤدية للمعنى ذاته. لماذا لم يقل بعدت عنا الذلة! ولم يقل (لا للذلة). هيهات كلمة تمر بالمستمع لتسكن في مشاعره الشعور بالأبدية وتشعر بسماعها بيد تحملك من زمن إلى آخر على طريق لا تنقطع عن مسامعك فيه هيهات , هيهات في النطق بها حكاية عن الحسين(ع) شعور بالإحساس المفعم بالرفض0


إذا تخطينا إلى ( منا) لا نجدالحسين يفخم ذاته بقدر ما يعني ذلك البيت الطاهر بمبادئه واصراره على رسالته, فلذلك قال(منا) إشارة إلى جده ووالده وأخيه في ما مضى وإلى مالا يحصى من نسله فيما سيأتي, وهي إشارة إلى صحة موقف أخيه الحسن (ع) وعدم تراجعه عن المبادئ الحقة.


في حديث مروي عن الرسول(ص) قال: سلمان منا أهل البيت , هذه هي نفس الكلمة(منا) استطاع سلمان بسمو تربيته الروحية اقتحامها والدخول في دائرة البيت المقدس0 وبقدر مايتشبه المحب بتلك الخصال الملكوتية يحرز مكانة من (منا) فلو عكسناها على من يتبع منهج أهل البيت(ع) كان عليه إذا طلب الولوج إلى مراتب(منا) التعلق بهيهات ليتخلص من صور الذلة المخزية .


آخر مفردة في الكلمة تحمل برأيي ثلاثة وجوه ربما ظهر لنا وجه منها وغاب الآخران , الذلة حالة تعتري النفس جراء تبعه تقحمته بفعل أو بترك0 قد يصيبني الذل لخطأ ارتكبته , ولربما أصابني الذل لخوف عن رد خطأ بحقي , أو لربما اعتراني الذل لمجرد شعور يخالجني فقط ولا غير. ولربما كانت عقدة ا لشعور بالنقص حال ذل داخلية.


الحسين في خطابه هذا يصرح ببعد كل الأنواع الآنفة من الذل عن دائرتهم بفضل توافر العصمة والأنفة والسمو في أصل شخصياتهم . فلأنهم لا يقربون باب معصية أبداً, ولذلك عقب على كلامه بالقول ( يأبى الله ورسوله لنا ذلك) ولو تفكرنا قليلاً في آية التطهير لوجدنا اشارة من الإمام إليها عبر خطابه . الآية تقول( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) نلمس من الآية تأكيد رب العزة على اقصاء أهل البيت عن الرجس, وإقصاء الرجس عنهم ونقرأ في الآية بوضوح طهارتهم الذاتية, الله طهرهم من كل الرجس , والحسين يقول (يأبىالله لنا ذلك) وهي إشارة لطيفة إلى العصمة.


بكل القراءة السابقة نصل إلى نتيجة تقول: أن هذا البيت مطهر من كل ما يمت إلى الدنس بصلة , وهم مطهرون حتى من العقد التي قد تعلق بالنفوس , ومنزهون عن الضعف النفسي في كل أحوالهم. فلن تجد لديهم خللاً نفسياً يوهن من مواقفهم, ولن تجد لهم تراخ في عزيمة, ولن تجد بهم ما يخدش الأنفة والعزة0 ولا أفهم مقولة الإمام منحصرة في رفض الذلة من قبل الجهاز الحاكم وحسب, بل أرى الكلمة تشير إلى ثلاثة وجوه على أقل تقدير.


الوجه الأول/ ذلة في النفس:
يوضح لنا الإمام طهارة الرسالة متمثلةً في شخصياتهم النورانية ممثلةً القدوة المحتداة , ممثلةً الشخصية المترفعة عن مستنقع المعصية , والمحلقة في أجواء القدس الإلهي , الشخصية البعيدة كل البعد عن موارد الزلل تلك هي شخصياتهم المشعة بالنور فلا ذلة تعتريها من جراء معصية 0 وإنما ترافقها العزة وكما قال رب العزة: ( العزة لله ولرسوله وللمؤمنين) هو عز الطاعة ذاك هو الوجه الطاهر لأهل البيت يحرض كل المحبين إلى التشبه بهذه الصفات وتملك أرقى الملكات النفسية , الملكات الشاخصة إلى كمال الخلق والأخلاق والترفع عن دنايا الأحاسيس المهينة والعقد النفسية المكدرة لنقاء الشخصية0


الوجه الثاني/ ذلة التراجع عن الواجب:
يتمتع البيت النبوي كنموذج سماوي بأعلى درجات القوة في معالجة الأمراض الاجتماعية , فمنذ رسول الله (ص) وحتى لحظة الحسين وقتذاك لايروي التاريخ لنا ولا روايةً واحدة يذكر فيها سكوتاً من أحد أعضاء هذا البيت النبوي عن منكر اجتماعي يستطيع الرد عليه ولم يرد عليه بل على النقيض من ذلك نراهم يعلمون الناس فن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 0


الرواية الواردة التي تحكي عن الحسن والحسين (ع) وكيفية معالجتهما للخطأ الوارد لدى شيخ كبير لم يتقن الوضوء, هذه الرواية تشير إلى اهتمام أهل البيت بفن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضلاً عن ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكمسلمة طبيعية يكون استفحال المنكر موجباً لحالة ذل اجتماعية من تفشي المعاصي واستشرائها في أوردة الأمة , ولاريب حينها ينصب ميزاب الذل على عامة المجتمع بالويلات والسقوط في مستنقعات المنكرات0 وكل ذا بسبب التقهقر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 0


أهل البيت سلطة روحية لايسعها الصمت حيال أي منكر وتجاوزه 0 ولذلك نرى أمير المؤمنين (ع) يقف ليحد (ابن أبي معيط أخ الخليفة الثالث (عثمان ابن عفان ) في شربه الخمر حين خاف الجميع من ولوجهم باب الاصطدام بالخليفة 0


ولكن هيهات لعلي أن ينحني لذلة المجاملات على حساب الأمر بالمعروف وإقامة الشرع0 وهكذا كانت مبادرات علي الجريئة سمة بارزة ورثها منه أبناؤه ليعكسو صورها في بطولات وروايات تكاد من كمالها تشبه الأساطير وفيها حافز لكل عاشق للنبل للسير خلفها مهما عصفت بها العقبات 0


الوجه الثالث/ ذل الخضوع للطغاة:
كانت الجزيرة العربية بكل مفازاتها ووديانها تائهة في أحراش الشرك والخضوع لأصحاب النفوذ والمال فأنقذهم الله بمحمد يعلمهم الجهر بالصوت لنيل الحق والتمتع بحياة لا يعبد غير الله فيها , علمهم الوقوف بذل وخضوع أمام الله وحده لا سواه 0


علمهم كيف يستمدون من عبوديتهم لله عزاً يشمخون به في أوجه الظالمين العتاة , ولكن بعد مرور ستين عاماً على حركة الرسول المباركة خبت تلك الجذوة المتوقدة في المسلمين وتحللت عزيمتهم في بحر شهوات الولاة , كيف لا يكون هذا وقد استولى على أمور المسلمين معاوية ابن أبي سفيان , لذا هم بحاجة لإعادة العزة إلى دمائهم0


وليس من الكلام المأثور فقط الحديث القائل: ( حسين مني وأنا من حسين) وإنما هي دلالة حركة الرسول عبر الحسين ( حسين مني ) الحسين أخذ من الرسول زمام الاصلاح..... وهو المكلف في زمن امامته بالوقوف استمراراً لمبادى جده ( وأنا من حسين) دماء الحسين تعيد إلى الرسول وحركته الحيوية المؤودة بعروش الظلمة.


نعم هكذا أستطيع رؤية (هيهات) غضبةً في وجوه المتآمرين على الأمة بعد تحولها من رفض لتفشي المنكرات في زوايا المجتمع وبعد أن تنفست من محاربة الثغرات النفسية المسببة لتسرب المعاصي0 نعم عرفنا من هيهات أن تتغلب النفس وتنطلق في اصلاح المجتمع لتغدو مناهضة لكل ظالم يبتغي اذلال المؤمنين0


والشيطان ركيزة ملحوظة في اذلال المؤمنين على كل الأصعدة وهو الرقم المفقود في كل المآسي التي تنزل على رأس الانسان فأينما تجد شراً ابحث عن الشيطان , اطلق عليه قذيفةً هيهاتية تدحره من حيث أتى وعد عزيزاً متسربلاً بلباس الحرية 0


الشيطان هو من يبذر في النفوس عقد الضعف والنقص والعداوة ويشحن في خفاياها كل سمومه لينفثها في جسد المؤمن جبالاً من العوائق وسدوداً عن مرضاة الله0 وهو الشيطان من يضع التلكؤ في عزيمة الذائذين عن المعروف والمناهضين للمنكر وهو أيضاً من يخوفهم ويثبطهم عن الإصلاح .


بعد كل ماصنع الشيطان هو أيضاً من يسلط الحاكم الجائر على ظهور الأمة ليمتطي ضعفها وإذعانها وتقهقرها عن رد المظالم والفساد , فلا بد لهذا الشيطان من (هيهات) ترجمه كلما تسلل إلى المناطق المحرمة 0 ولهذا كان الحسين يخاطب كل الحالات منطلقاً من حالة واحدة 0

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع