شارك هذا الموضوع

صلة العاطفة بالذكرى الحسينيّة

ربّما يثير البعض الجدل حول طريقة إثارة ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)، من خلال التأكيد على العنوان الّذي تخضع له هذه الذكرى في امتداداتها الفكريّة والعمليّة في مدى الزمن، وتأثيراتها الإيجابية في وعي الإنسان المسلم والتزاماته، وفي حركيّتها الإسلامية في المضمون الإسلامي الحركي في علاقته بعناصر القوّة للإسلام وأهله.


فقد طرح هذا البعض مسألة العاطفة في الذكرى، سواء في المضمون الفكري للمأساة، على مستوى تحريك كل العناصر المثيرة للحزن في مفردات قضية عاشوراء بالطريقة الّتي تستنـزف الدموع بشكل مثير، أو في الأُسلوب الفنّي البكائي الّذي يستغرق في اللحن الحزين الشجيّ، ويوزّع عناصر الإثارة في كلّ أنغامه وتقاطيعه، أو في الممارسات الحادّة المعبّرة عن صراخ الذات في تأثّرها بالمأساة وانفعالها بقضاياها المؤلمة، وذلك بالبكاء العنيف، أو لطم الصدور، أو ضرب الظهور بالسلاسل، أو جرح الرؤوس بالسيوف، أو غير ذلك ممّا اعتاد عليه فريق من الناس... وأثار الجدل في مشروعية هذه الطريقة من جهة، وفي جدواها على مستوى علاقتها بالأهداف الإسلامية للذكرى من جهة أخرى، فكانت هناك عدة اتجاهات فكريّة في هذا الموضوع.


الاتجاه الأوّل
هو الاتجاه الّذي يضع مسألة العاطفة في درجة كبيرة من الأهمية، بحيث يلاحظ أنّ الخصوصية الذاتيّة للذكرى لا يمكن إبعادها عن العنصر الحزين للمأساة في أيّ موقع من مواقع الإثارة، الأمر الّذي يجعل من العمق العاطفي مسألة حيويّةً في هذه القضية، فلا مجال للفصل بين إثارة الذكرى في وعي النّاس، وبين الأُسلوب العاطفي، لأنّ ذلك يعني إبعاد الشيء عن ذاته.


ويلاحظ ثانياً: أنّ العاطفة تتيح للذكرى الاستمرار في خطِّ الحياة من خلال تأثيرها في الشعور الإنساني، ما يوصل علاقةً عاطفيةً للناس بأهل البيت (ع)، تماماً كما هي العلاقة بين الإنسان وبين من يحب في انفعاله العفوي بالمآسي الّتي تصيبه في نفسه وأهله، الأمر الّذي يحقّق النتائج الإيجابية الكبيرة في البعد الإنساني الذاتي في انفتاحه على البعد الحركي في المسألة الشعورية، ما يؤدّي إلى نتائج مماثلة في البعد الإسلامي الحركي.


ويرى هذا البعض أنّ الاكتفاء بالمضمون الفكري للذكرى يجعل القضية جامدةً جافّة في الوعي الإنساني، ككلِّ القضايا التاريخية المتّصلة بالصراع بين الحقّ والباطل الّتي يتجاوزها الزمن، لأنّ قضايا الصراع الكثيرة في الواقع الإنساني في المراحل الحاضرة، قد تحمل الكثير من المشاكل الضاغطة على الفكر والشعور، وبالمستوى الّذي لا يجد فيه الإنسان فراغاً للاستغراق في التاريخ، لأنّ ضغط الحاضر لا يسمح بالتفرغ لاستعادة الماضي، فيؤدي ذلك تدريجياً إلى نسيان القضيّة وإهمالها، إلاّ في الحالات الطارئة الّتي قد تدفع ببعض قضايا التاريخ إلى الواقع، في عملية إثارة سريعة لا تلبث أن تذوب _ بعد ذلك _ في غمار الواقع الخطير الضاغط على الإنسان.


بينما يمثّل الأُسلوب العاطفي لوناً من ألوان التربية الشعورية، الّذي يحوّل القضية إلى قضية متّصلة بالذات، تماماً كما لو كانت قضية من قضايا الحاضر، وهذا ما نلاحظه في المسيرة التقليدية لحركة الإنسان في ارتباطه بالمعاني الدينية.


فإنّنا نجد الجانب الشعوري هو الّذي يترك الإنسان في حالة استنفار دائم لحمايتها وتحريكها في الواقع، ومواجهة كلّ التحديات المثارة ضدّها من قبل الآخرين، تماماً كما لو كانت التحرّكات المضادّة موجّهة نحو مسألة شخصية. وهذا ما يجعل من المسائل الدينية والمذهبية مسائل حسّاسة في ساحة الصراع، بحيث تتحرّك الحساسيات في داخلها بالطريقة الّتي يتغلّب فيها الإحساس على جانب الفكر، وتتطوّر في العمق الإنساني لتكون من القضايا السريعة في الإثارة والالتهاب، والشديدة التأثير على مستوى الحوار والمواجهة.


ويتابع هذا البعض: إنّ التجربة الواقعية تؤكّد هذا الاتّجاه، فإنّنا نرى تأثير قضية عاشوراء في الواقع الإسلامي، لا سيّما في الوسط الإسلامي الشيعي، بالدرجة العليا الّتي لا ترقى إليها أيّة قضية أُخرى من قضايا التاريخ الإسلامي المأساوي، على الرغم من مفرداتها الحزينة وعلاقتها ببعض الشخصيات التاريخية الّتي يحترمها المسلمون ويقدسونها.


ولم يكن الفرق إلاّ في أنّ عاشوراء تحمل، في أُسلوب الإثارة للذّكرى ، الأُسلوب العاطفي بالإضافة إلى الأُسلوب الفكري، بينما كان الجانب الفكري هو الّذي يحرك القضايا الأُخرى، حتّى إنّنا نرى الكثير من المسلمين الشيعة غير الملتزمين بالإسلام من الناحية العملية، يجدون في عاشوراء قيمةً روحية وفكرية تتجاوز كلَّ المفردات الأُخرى الّتي يختزنها وعيهم الإسلامي، فهم يتحركون فيها كما لو كانت قضيّة ذاتيّة، وكما لو كانت شخصيتها متّصلة بأوضاعهم الذاتية العاطفية، الأمر الّذي يجعل أيّ مساس بها مساساً بالذات.


وهناك نقطة أُخرى متّصلةٌ بالجانب الشرعي للمسألة، فإنّنا نلاحظ في النصوص الكثيرة الواردة عن النبي محمد (ص) وعن أئمة أهل البيت (ع)، على مستوى التوجيه والممارسة العملية، أنها تؤكّد على البكاء وتدعو إليه، وتخطّط للتربية العامّة للأُمة في اتجاه إبقاء هذا الأُسلوب في خطِّ الذكرى في امتداداتها الزمنية.


فقد كان الأئمّة من أهل البيت (ع) يشجِّعون المسلمين الشيعة من أتباعهم على إقامة الذكرى بالطريقة العاطفية الشجيّة، ويستدعون الشعراء لإثارة التجربة الشعرية بالطريقة الفنيّة المثيرة للعاطفة، بحيث يريدون حشد المفردات المأساوية في داخلها، وتحريك الوسائل الحزينة في إنشاد الشعر، وكان الشعراء يقصدونهم لذلك الغرض، والأئمة يجلسون للاستماع إليهم مع عوائلهم الّتي تجلس وراء الستار.


إنّ كلّ ذلك يدلّنا على أنّ تحريك المسألة العاطفية في الذكرى ليست مسألة عادية، بل هي من المسائل المهمة في التخطيط الإسلامي، لإبقاء هذه القضية حيّةً في المنطقة الشعورية للإنسان المسلم على امتداد الزمن، بحيث تتحول إلى مسألة تتصل بالضمير الإنساني في علاقة الحاضر بالتاريخ.


الاتجاه الثاني
وهناك الاتجاه الآخر الّذي يجرّد المسألة من العنصر العاطفي ليضعها في دائرة الجانب الفكري، فهو يرى أن قضية الحسين (ع) ليست من القضايا الإنسانية الذاتية الّتي تتمحور حول الذّات، بل هي من القضايا الإسلامية الكبيرة الخاضعة للعناوين العامّة، المتّصلة بالمسؤولية الشرعية من جهة، وبالخطّ السياسي الثوري من جهة أخرى.


وعلى ضوء ذلك، فإنّ التركيز على العاطفة _ في رأي هؤلاء _ يبتعد بها عن الطابع الإسلامي العام، ويحوّلها إلى الطابع الذاتي، والاستغراق في المأساة بالطريقة البكائية يملأ النفس بالكثير من الدخان العاطفي الّذي يمنع وضوح الرؤية في النظر إلى العناصر الحقيقية المتمثلة في طبيعتها العامة، حتّى إن الارتباط بالشخصيات القيادية الإسلامية يتحول إلى ارتباط شخصي متّصل بالجوانب الذاتية في صفاتها الخاصة، ومستغرق بالتقليد الجامد الّذي قد يبدو فيه البكاء، وأمثاله من الأساليب العاطفية، شيئاً يتكلفه الإنسان ليكون نوعاً من أنواع التباكي الّذي قد يلتقي بالصورة في معنى الحزن، أكثر مما يرتبط بالمضمون. وقد يتحوّل إلى حالة من التنفيس عن الآلام الذاتية الّتي يختزنها الإنسان في حياته الخاصة، أكثر من التفاعل الجدي بالقضية التاريخية، فيجد الإنسان نفسه باكياً على مأساته لا على مأساة الإمام الحسين (ع)، باعتبار أن الجوّ العام قد يمنح الإنسان فرصةً للتنفيس الذاتي بما يتجاوز معه اللياقات الاجتماعية.


وهذا ما يلاحظ في الجمهور الشيعي العام، حتّى على مستوى الوسط العلمي الديني، فإنّنا نجد أنّ الغالبية منه تعيش الاهتمام بالإيحاءات التاريخية الحزينة، أكثر مما تعيش الاهتمام بالإيحاءات الثورية السياسية في الواقع الإسلامي الحاضر، فيما يواجهه من المشاكل الكبيرة الضاغطة على كلِّ حاضر المسلمين ومستقبلهم.


حتّى إننا نرى البعض منهم يعبّر عن ضيقه بالأحاديث الّتي تتجاوز الحزن إلى الفكرة، ويعتبرها خروجاً عن موضوع الذكرى وابتعاداً عن طبيعتها، وانحرافاً عن خطها الدينيّ الأصيل. وقد لا يكتفي بالتعبير عن الضيق النفسي، بل يتجاوزه إلى الرفض العملي الّذي يضغط فيه على الساحة كلّها.


وربّما يلاحظ _ في هذا الجوّ _ أن العنصر التقليدي البكائي قد حوّل المسألة إلى مسألة تقليدية، على مستوى اعتبارها من الطقوس الدينية العادية الّتي لا تحمل أيّ مضمون سياسي ثوريّ أو أيَّ بعدٍ حركيٍّ إسلامي.


ويتابع أصحاب هذا الاتجاه، بأن هذه الطريقة قد جعلت الارتباط بالإمام الحسين (ع) ارتباطاً ذاتياً يتّصل بشخصه ولا يتصل برسالته، حتّى إنهم يرون في صفته الإمامية الرسالية امتيازاً ذاتياً، لا حركةً قيادية في المجرى الإسلامي العام للنهج القياديّ الّذي تستغرق فيه الشخصية القيادية في الرسالة، بحيث تفقد شعورها بالذات في غمار حركة الرسالة، ولا تستغرق في ذاتياتها استناداً إلى أوضاع الزهو النفسي بالعناصر الحيّة في الذات.


وقد نلاحظ _ في هذا المجال _ أن هؤلاء العاطفيين لا يوافقون على اعتبار النهج الحسيني، في مواجهة الباطل والحاكم المنحرف، نهجاً إسلامياً عاماً يتحرك به المسلمون في ما يستقبلونه من أوضاعهم التي يسيطر فيها الكفر أو الباطل عليهم، أو يتحكم فيهم الظالمون المستبدون المنحرفون على خطّ الإسلام المستقيم.


بل يعتبرونه نهجاً حسينياً خاصاً ينطلق من الخصوصيات الحسينية الذاتية، فيما هي الشخصية الخاصة للحسين (ع) في صفته الإمامية، الّتي تحمل من الأسرار الّتي تسوِّغ له من الأعمال ما لا يمكن تسويغه للناس كافّةً، الأمر الّذي يجعلنا ننحني أمام القرار الحسيني بالشهادة، ونسلّم له ذلك من باب التسليم للإمام فيما لا نفهم معناه الشرعي في التكليف العام، في الوقت الّذي نثور على الطليعة الإسلامية المجاهدة الّتي تنطلق من خلال الانفتاح على أجواء عاشوراء الجهاديّة، لتواجه الكفر والاستكبار بقوة حتّى الشهادة، لنصدر إليهم النصائح والتعليمات بحرمة ذلك، لأن فيه إلقاءً للنفس في التهلكة، ولأن عاشوراء لا تحمل الأساس الاجتهادي الشرعي للثورة، ولا تصلح قاعدةً عامة، بل هي حالة حسينية خاصة، فلنُرجِع أمرها إلى صاحبها من دون أن نتدخل في حركة الأسرار الإمامية.


الاتجاه الثالث
وهناك اتجاه آخر، وهو الموازنة بين الجانب الفكري والجانب العاطفي، فلا يطغى فيها جانب على آخر، وذلك باعتبار أن المسألة الفكرية مرتبطة بالشرعية الإسلامية في المسألة الثورية، وبالهدف الكبير في قضية التغيير والحياة والإنسان، وذلك من خلال العناصر المتنوّعة الّتي تختزنها الثورة الحسينية في هذا وذاك، ما يجعلها منفتحة على الحاضر والمستقبل، بحيث تحقّق الغنى الكبير للإسلام في مسيرته الحركية.


وفي ضوء ذلك، لا بدّ من التأكيد على هذا الجانب، من خلال تحديد الخطوط الفكرية والحركية والفقهية المتَّصلة بالسيرة الحسينية في الشكل والمضمون، واعتبار المنبر الحسيني موقعاً متقدماً من مواقع التثقيف الإسلامي.


فهو المنبر الّذي يجتذب الجماهير الإسلامية اجتذاباً تقليدياً، الأمر الّذي يمنحنا الفرصة للنفاذ إلى عقولهم وقلوبهم من خلال العنوان الإسلامي الكبير للذكرى، فيدفعهم إلى الانفتاح على إسلام الفكرة والحركة والثورة، من خلال انفتاحهم على الإمام الحسين (ع) الّذي يمثّل التجسيد الحي لذلك كلّه، فتكون الذكرى مدرسة إسلامية شعبية متنوعة الأبعاد والأساليب، ووسيلة من وسائل الدعوة إلى الإسلام.


المسألة العاطفية
أما المسألة العاطفية، فهي مسألة إنسانية الأبعاد، إسلامية الروح، غنيّة المؤثرات، كثيرة المعطيات. إنّها تمنح الفكر حرارته وحيويته، وتُخرجه من جموده، وتقوده إلى النشاط والحركة، وتخرجه من حالةٍ فكرية ليدخل في حالة إيمانية. وهي تزيد الإنسان ارتباطاً بمواقعها، واتصالاً بقضاياها، ما يجعل الحالة الفكرية _ في خصوصيات المبدأ والشخص والموقف _ حالةً قريبةً من الشعور، منفتحةً على الوجدان، بحيث يمنحها ذلك بعضاً من القوة والانفتاح والثبات في النفس والامتداد في الواقع.


ويتَّفق هذا الاتجاه مع الاتجاه الأوّل الّذي يركّز على ضرورة الارتباط العاطفي بالحسين (ع) والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه، تماماً كما هو الارتباط العاطفي بالنبي محمد (ص) والطاهرين من أهل بيته وأصحابه، لأن ذلك هو ما يمنح المؤمنين الصلة الروحية بهم، والحرارة في الالتزام الرسالي بالخط الّذي يلتزمونه والنهج الإسلامي الّذي يدعون إليه.


فالمعادلات العقلية لا تعطي الإنسان حيويّة الرابطة الإسلامية الإيمانية بالقيادات الإسلامية التاريخية، لا سيما الذين ابتعد التاريخ بهم على مستوى القرون والأجيال، ما يجعل من مسألة استعادتهم إلى الذاكرة التاريخية قضيةً متصلةً بالحيوية الذاتيّة بالإضافة إلى الحيوية الفكرية، ليتكاملا في تحقيق عودة التاريخ إلى الواقع.


ولكنَّ أصحاب الاتجاه الثالث يضيفون المسألة الفكرية إلى المسألة العاطفية، لأن الفكر المنفتح على العاطفة يجعل لها هدفاً كبيراً تتجه إليه، وتذوب فيه، وتتمحور حوله، لئلا تكون العاطفة مجرّد فقاعات انفعالية تنفتح في الشعور ثم تنفجر في الهواء، أو حالة دخانية تختنق فيها الذات ثم تقذفها في الفراغ، أو تكون انفعالاً نفسياً لا يلبث أن يهدأ ويبرد عندما يعبّر عن نفسه بطريقةٍ تنفيسية بكائية...


إنّ هذا التزاوج بين الحالة العاطفية والحالة الفكرية، هو الّذي يحقّق للرسالة مضمونها العميق في وعي الإنسان وحركته، وبذلك تتطوّر الفكرة إلى إيمان من خلال الفكر المنفتح على الشعور، ويتطوَّر الإيمان إلى حبٍّ أو بغض من خلال انفتاح العقل على القلب.


وهذا ما نستوحيه من الحديث عن الحب لأولياء الله والبغض لأعدائه، في المسألة الإسلامية في الالتزام الإيماني للمسلم، باعتبارها دليلاً على الجدّية والإخلاص. فإن الملحوظ أنّ الغاية هنا تلتقي بالوسيلة، وأنّ المضمون يتحرك في دائرة الالتزام في الواقع.


ولكن هناك نقطةً مهمةً في المسألة العاطفية الّتي نؤكد ضرورتها في الذكرى الحسينية، ونتبنّى التركيز عليها انطلاقاً من إنسانيتها الذاتية من جهة، ومن الاقتداء بالرسول (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) من جهة أُخرى، ونخطّط _ من خلال تخطيطهم _ لإقامة الذكريات المعبّرة عن هذه المأساة الحزينة، بمختلف الوسائل والأساليب.


وهذه النقطة، هي مسألة تطوير أساليب الإثارة العاطفية تبعاً لتطوّر وسائل الإثارة الإنسانية في المؤثرات النفسية العامة والخاصة. فإذا كانت أساليب التعبير عن الفكرة متطورة في قضية الإبداع الفني، فلا بدّ من أن تتطوّر أساليب التعبير عن الشعور العاطفي في قضية الإبداع التعبيري.


فربما كانت بعض الإثارات خاضعةً لمرحلةٍ معينةٍ، فلا تصلح لتحريكها في الواقع في مرحلةٍ أخرى، وقد تكون المسألة متصلةً بالمستوى الثقافي لمجتمع ما في تأثره بأُسلوب معين، فلا يكون عنصراً للإثارة في مستوى ثقافي آخر.


وهذا ما نلاحظه في بعض مفردات الشعر الحسيني، العاميّ والفصيح، الّتي تنطلق من العادات العشائرية في حثّ النساء للرجال لتحريك حماستهم ونخوتهم وحركتهم، فإنّنا لو طرحنا مثل هذه المفردات في مجتمع ثقافيٍّ متطوّرٍ، فإننا لا نجده يتأثر بذلك، لأن الحالة الثقافية قد طوّرت حركة عاطفته كما طوّرت حركة فكره.


وعلى ضوء ذلك، فلا بدّ لنا من دراسة كل الوسائل الشعبية المتّبعة في هذه الذكرى، مقارنةً بالانطباعات الإيجابية أو السلبية الّتي قد تثيرها هذه الوسيلة أو تلك، في النظرة العامة في الواقع الإسلامي أو غير الإسلامي، وبالعناوين الثانوية الّتي قد تنطبق عليها في هذه المرحلة أو تلك.


لأن العناوين الأولية إذا كانت تقتضي إباحتها في ذاتها، فإن العناوين الثانوية قد تقتضي حرمتها بلحاظها، كما لاحظنا ذلك في جواب بعض الاستفتاءات من قبل بعض المراجع الكبار، حيث علّق إباحة بعض هذه الوسائل، كجرح الرؤوس وضرب الظهور، على عدم استلزامها لهتك حرمة المذهب، من خلال النظرة العامة الّتي قد تختزن في داخلها السخرية، فإذا استلزمت ذلك كانت محرّمةً بسبب حرمة ما يوجب هتك الحرمة للمذهب أو للمسلمين.


وإذا كان بعض الناس قد يعترض على ذلك بأنّ الكافرين والمنافقين قد يسخرون من بعض الواجبات العبادية أو غير العبادية، مما لا يمكن الالتزام بحرمتها بلحاظ ذلك، فإنّ الجواب عنه بأنّ هناك فرقاً بين السخرية بالإسلام ذاته وبالأحكام الإلزامية الواجبة أو المحرمة، وبين السخرية في المباحات أو المستحبات الّتي قد تمنح الفعل أو الترك عنواناً محرماً، وقد تمنحه عنواناً آخر، مما يمكننا فيه الابتعاد عن عنوان الحرام إلى العنوان الآخر من دون أن نفقد الموضوع الأساس.


إنّ المشكلة في حديث الكثيرين عن الحكم الشرعي في هذه الأُمور، هي أنّهم يثيرون القضايا بعنوانها الذاتي، من حيث حرمة الضرر مطلقاً، أو من حيث حرمته بانطباق عنوان التهلكة عليه، أو بالمناقشة في الموضوع من حيث صدق عنوان الضرر أو الخطر أو ما إلى ذلك... ولا يناقشونه من الجوانب الأُخرى الّتي تتصل بالعناوين العامة للخط الإسلامي، في نطاق مسألة المصلحة والمفسدة في هذا الموقف أو ذاك.


وأخيراً: إننا ندعو إلى دراسة الأساليب المثيرة للعاطفة، من حيث تأثيرها على الذهنية الجماهيرية الانفعالية تبعاً لتطور وسائل التعبير والإثارة، كما ندعو إلى دراسة المفاهيم الّتي يجب أن نؤكدها في مضمون الكلمات والأشعار والمواقف.


لأن القضية المهمة تتصل بإبقاء الذكرى الحسينية حيّة على مدى الزمن في عقل الأُمة وضميرها وشعورها وحركتها في الحياة، الأمر الّذي يجعلنا نواجه الموضوع بمسؤولية إسلاميةٍ واعيةٍ لكلِّ ما حولنا ومن حولنا في حركة التطور، من دون الابتعاد عن الخط الأصيل.


ويجب أن نؤكّد _ في نهاية المطاف _ على حيوية الدموع الداعية، والمشاعر المنفتحة، والندبيات الموجّهة، لتكون ذكرى الحسين مغسولةً بدموعنا في عناصرها المأساوية الحيّة، وممزوجةً بدمائنا في مواقع الإحساس ومواقف الشهادة، ومفتوحةً على عقولنا في حركة الفكر الباحث في الدعوة الإسلامية، من خلال عاشوراء، عن كل جديد يغني عقولنا ويفتح المستقبل لفجر جديد على خط الإسلام في خط الحسين (ع)

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع