شارك هذا الموضوع

حِيْنَ يَكُوْنُ التَّفَاوُضُ مِنْ فَوْهَةِ العَقْلِ لا البُنْدُقِيَّة

حِيْنَ يَكُوْنُ التَّفَاوُضُ مِنْ فَوْهَةِ العَقْلِ لا البُنْدُقِيَّة


في ندِّية علاقاتهما المتوترة منذ ثلاثة عقود، يستمرئ الإيرانيون والأميركيون خطاباً متعدد الأوجه، لكنه قادر على أن يجمع ذلك التعدد في مرحلة " القِطف " فيقلّل الهوة بين قاع المصالح وقمتها، أو بين أدناها وأعلاها .


ففي طهران تتوزع أدوار الساسة ضمن صفّيْن من الشخوص؛ يُطلق الأول خطاباً محدداً ببداية ونهاية وجمل تضيق حروفها وتتسع وكأنها الطلاء الموجه الذي يتحرك وفقاً لكثافته، ثم يتبعه من يليه موالاة بخطاب لا يتقايس معه بالضرورة، بل قد يصيِّره إلى حقبة منسوخة .


وهم بذلك يجنحون صوب استعمال فن إطلاق الرسائل المتعددة والمتحدة المصدر في آن واحد، للوقوف على مجسّات الإقليم وعمقه الدولي بغرض المناورة على الفعل ومبادرات الخصوم والتي قد لا تلبي طموح المفاوض الإيراني .


وبالتالي فهي تعرض خياري الرفض والقبول لإيجاد التوازن المطلوب خلال جولات الربح والخسارة، وتحويلها إلى جولات الربح والربح كما وصفها رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني قبل أيام .


في واشنطن يشتغل العقل السياسي الأميركي ضمن خطّين مزدوجين . الأول ناقع في الخل البراغماتي الصرف للقفز على أكبر قدر ممكن من الخسائر والضربات، وهو في العادة يتموضع في أروقة وزارتي الخارجية والدفاع باعتبارهما الواجهة الحقيقية لمباشرة السياسات العامة للدولة .


والثاني متورط في شبكة معقدة من المصالح المحلية والدولية تنطلق من المجمّعات الصناعية للسلاح مروراً بخزينة المال لتنتهي إلى حيث المبضع الأيديولوجي المتلازم مع ثقافة الحتميات التاريخية والنبوءات المحفورة في الألواح المقدسة، وهو ما يعني وجود خطاب مماثل للخطاب المتعدد ذاته بين البراغماتية والأيديولوجية .


في طهران قد نسمع الرئيس أحمدي نجاد يقول كلاماً أشبه باليوتوبيا كإزالة الكيان الصهيوني من الخريطة، ثم يخرج وزير خارجيته منوشهر متقي ليقول إن بلاده لا ترفض أي مفاوضات بناءة قائمة على الاحترام المتبادل للحقوق مع الولايات المتحدة فيقلّ سقف الإثارة السياسية .


لكن الناطق باسم الحكومة حسين إلهام يعيد رفع النبرة من جديد فتقف بين منزلتين من الرئيس ووزيره؛ حين يصرح بأن بلاده لن ترضخ لأي تهديد وستقطع أيدي كل الذين ينوون التعدي على الشعب الإيراني، وهي على استعداد تام لمواجهة أي هجوم عسكري ! .


ثم يعيد سكرتير مجمع تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي الكرة إلى الوسط عندما يدعو إلى التعامل بصورة " منطقية " مع الاقتراحات التي قدّمتها الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا إلى بلاده، مع الحفاظ على إنجازات إيران في مجال التكنولوجيا النـووية السلمية .


في واشنطن نسمع الرئيس جورج بوش يقول إن خياراته كلها معروضة على الطاولة ومن ضمنها الخيار العسكري، ثم يصرح رئيس هيئة الأركان العسكرية الجنرال مايك مولن بأن فتح جبهة ثالثة بالإضافة إلى جبهتي أفغانستان والعراق سيكون مجهداً للغاية بالنسبة إلى الجيش الأميركي وسيزعزع من استقرار الشرق الأوسط .


لكن نائب وزير الخزانة الأميركي روبرت كيميت يعيد سقف الخطاب إلى أعلاه عندما يقول إن البنوك الإيرانية قد تواجه مزيداً من العقوبات إذا لم تستجب طهران للمطالب الدولية بخصوص برنامجها النووي (راجع صحيفة «هاندلسبلات» الألمانية عدد الجمعة الماضي) .


ثم يبادر الناطق باسم الخارجية الأميركية شون ماكورماك فيقلّل من سقف الخطاب الراديكالي مرة أخرى ويعلن أن بلاده لا ترفض " المفاوضات التمهيدية " على أسس أقل تشدداً حتى مع عدم إيقاف تخصيب اليورانيوم، بالإضافة إلى عدم نفيه صيغة " تجميد مقابل تجميد " .


ضمن هذه المعادلة ينبري الإيراني والأميركي في تسيير خطابه السياسي في الملفات العالقة بينهما، وهي في الغالب سقوف متبدّلة تنتهي إلى منطقة هدنة مرّة، وإلى منطقة احتراب مرّة أخرى طبقاً للظروف الموضوعية التي تحكم أدوات الصراع بين الجانبين .


وربما يكون أحد أهم الملفات الساخنة بينهما هو ما يتعلق بأزمة تخصيب اليورانيوم ومعامل الأبحاث في نطنز وأراك . فمنذ العام 2002 ولغاية الآن شهد هذا الملف جولات من الدبلوماسية القاسية، وأخرى ناعمة .


فقبل ثلاثة أيام (الجمعة) قدم السفير الإيراني في بروكسل علي أصغر خاجي إلى الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا رد بلاده على عرض الحوافز الذي قدمته إليها الدول الست الكبرى .


وبشكل متوازٍ قام سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني سعيد جليلي بالاتصال بسولانا واتفقا على استئناف المفاوضات نهاية الشهر الجاري، الأمر الذي دفع بالأخير لأن يتوقع " عناصر مفصلة ملموسة " من الإيرانيين تتعلق بردهم على عرض الحوافز، بحسب وعود جليلي .


في هذه الخطوة الدبلوماسية، لإيران والتي يعتقد بأنها جاءت لامتصاص الضغوط الأميركية والدولية اتبع الإيرانيون السياسة ذاتها التي تهدف لكسب الوقت والمشي على حواف الأزمة . فالرد الإيراني اقتصر على رسالة جوابية وقعها وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي، رداً على رسالة وزراء خارجية الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا لا أكثر ولا أقل .


وعلى رغم أن الحديث يدور اليوم حول تحسينات يجري الانتهاء منها قد تشذّب من عروض الطرفين الأوروبي والإيراني للوصول إلى نقاط مشتركة مع استحضار المخرج السويسري القائم على " التجميد المتوازي " للعقوبات وللتخصيب خلال فترة التفاوض ومدتها ستة أسابيع وأيضاً من دون زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي، فإن طهران لم تستعجل في ردّها الأخير، مشيرة إلى أن الرد النهائي على عرض الحوافز سيسلّم إلى سولانا بعد الانتهاء من درسه، وتحديد النقاط المشتركة مع الاقتراحات الإيرانية التي قدمت للدول الست في وقت سابق .


لا يعلم بالضبط ما إذا كان رد طهران سيكون مغايراً عن سابقه من الردود خلال مرحلة الهدنة القائمة، لكنه بالتأكيد سيكون مختلفاً إلى حد ما، وخصوصاً مع التغييرات التنفيذية التي حصلت داخل النظام في طهران بعد تعيين سعيد جليلي ممثلاً للمرشد في مجلس الأمن القومي بالإضافة إلى أمانته له، ووصول المفاوض السابق لاريجاني إلى رئاسة البرلمان واضطلاعه بمسئوليات أكبر في التعاطي مع القضية النووية، وهو ما يعني وجود سياسات أخرى بجانب سياسات أحمدي نجاد .



التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع