شارك هذا الموضوع

آثار المعرفة على مستوى السلوك الفردي

لا ريب أنّ المعرفة بالله تعالى إذا كانت على نحو الوقوف الصوريّ الساذج فستكون ضئيلة جداً وربّما معدومة، وإذا ما كانت هناك جملة من الآثار التوفيقية التي تحيط بالإنسان الصوريّ في معرفته فذلك نتاج العناية العامّة لله سبحانه بخلقه.
ومعنى المعرفة الصورية الساذجة هو أن يعرف بوجود الله تعالى وبوحدانيته وبجملة من أسمائه وصفاته ولكن دون إقامة دليل على ذلك، بل هو تقليد أعمى وسلوك جمعيّ يسوق عامّة الناس إلى ذلك.
وما نراه في المقام هو أنّ دائرة هذه المعرفة الصورية الساذجة محدودة؛ إذا لاحظنا الدليل الفطري الذي يتحرّك في ضوئه عامّة الناس إن كانوا ملتفتين إلى ذلك، وإلا فالدائرة كبيرة جدّاً في صورة عدم الالتفات إلى النداءات والدلائل الفطرية.
فإن حصل الالتفات منهم فإنّهم سوف يُمثّلون مرتبة معرفية من مراتب الوقوف الثاني التحقيقي.
وأمّا الوقوف الثاني التحقيقي البرهاني فإنّ الآثار المترتّبة عليه كثيرة ومنتجة في الجملة لا بالجملة ، وهذا النتاج الجزئي ينسجم مع طبيعة هذا الوقوف والنمط المعرفي الذي قلنا في أكثر من مورد أنّه لا يشكّل ضمانة لصاحبه، وإن كان يشكّل الحدّ الأدنى من المعرفة الواجبة على كل إنسان، فإنّ هذا الوقوف الصوريّ وإن كان تحقيقياً إلا أنّ أثره الوضعي على الإنسان يبقى محدوداً وغير موجب للعمل، أي: إنّه لا يبعث صاحبه على الفعل المناسب والمطابق للصورة المبرهن عليها، ولذا تجد من أصحاب هذا النمط المعرفي من يرتكبون الذنوب المختلفة.
إنّ المعرفة النظرية التحقيقية لا تكون موجبة للإيمان ولا ملزمة له، ولذا فقد يكون الشخص من الناحية الفطرية يثبت عنده وجود الله تعالى ووحدانيته ولكن لا يؤمن بذلك، أو يسلك في منحاه العلمي غير ما انتهى إليه نظرياً.
لذا فالشرك في الأسماء والصفات والشرك العملي مصدرهما هو أنّ المعرفة النظرية وإن كانت مثبتة للعارف نظراً وجود الذات المقدسة ووحدانيتها وإثبات أسمائه وصفاته الذاتية إلا أنّه لم يصل في درجة إيمانه إلى نفي الأغيار عن ساحة التأثير، فيقع في الشرك العملي، وما الرياء ـ وهو الشرك الخفي كما عرفت ـ إلّا نموذج من نماذج الشرك العملي، لأنّه يرجع إلى الاعتقاد بوجود غيرٍ استحقّ منه الالتفات إليه.
فلو كانت المعرفة النظرية موجبة وملزمة للإيمان لما وقع الإنسان في مثل هذه المتاهات المفضية للشرك العملي كالرياء والكذب والنفاق والجحود. فالكاذب إنّما يلجأ لذلك لاعتقاد مسبق منه بأنّ الكذب سوف يكون منقذاً له، وهذا شرك عمليّ، والنفاق رغم أنّه منافٍ للإيمان تماماً إلّا أنّه شرك هو الآخر إذا لم يكن في دائرة العقائد والإلهيات، وإلاّ فهو الكفر الصراح. وأمّا وقوعه في السلوك العملي ـ كإظهار شخص النصيحة لك وهو يدسّ لك في الباطن، وإظهار الحبّ لك وهو مبغض ناقم عليك، يدعو لك ظاهراً بالسلامة والحفظ وهو يرجو فعلية زوالك وهلاكك ـ فهذا النمط هو الآخر شرك خفيّ، لأن صاحبه يعتقد أنّ ما أظهره سوف يكون منجياً له ومقرّباً له من ودّك وحبّك وعطائك، فيدلّس عليك بشعور منافق كذّاب. وما أكثر هذه الطبقة البغيضة وأسوئها، ففي كلّ آن ومكان نجد من يظهر المودّة والحبّ لأهل البيت عليهم السلام، ولكنّهم في سرّهم ونجواهم يضمرون شيئاً آخر ظلماً وجوراً وعدواناً، فـ (بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لـَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)1، قد أُمروا بمودّة أهل البيت عليهم السلام بنصّ القرآن الكريم: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)2 ولكنّهم ودّوا مُبغضيهم وغاصبي حقوقهم، بل قاتليهم أيضاً.
روى الهيثمي عن ابن عباس (لما نزلت الآية، قالوا: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: عليٌّ وفاطمة وابناهما)3 فقل لي بربّك كيف تجتمع مودّتهم الواجبة قرآناً وسُنّةً مع الترحّم والترضّي على مناوئيهم وقاتليهم؟!
وهكذا حال الجحود الموجب لظلمة القلب، فقد قام الدليل القطعي عندهم على المعارف التوحيدية والحقائق الأخروية، وقام الدليل القطعي أيضاً على نبوّة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وولاية أهل البيت عليهم السلام، ولكنّ اليقين الحصولي لم يحتّم عليهم الإيمان بما ثبت لديهم، فغلبتْهم شقْوتهم، فمنهم من أنكر المعارف التوحيدية، وهذا هو الكفر والشرك الصراح، ومنهم من أنكر نبوّة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله، وهذا هو الضلال المبين، ومنهم من أنكر ولاية وإمامة أئمّة أهل البيت عليهم السلام، فأبدلوا الطاعة بالعصيان، والقبول بالردّ.
إنّ حقيقة التوحيد ونبوّة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وإمامة أهل البيت عليهم السلام توجب على من وقف على الدليل الطاعةَ والالتزام، ولكننا نرى من وقفوا على ذلك ولم يأخذ بأعناقهم الدليل، وما ذلك إلّا لأنّ المعرفة النظرية الحصولية لا تستبطن ضمانة الاتّباع وإن كانت تدعو لذلك، فمن الممكن جدّاً ـ بل الواقع كثيراً ـ اجتماع الجحود والخلاف مع الاعتقاد واليقين؛ قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُفْسِدِينَ)4.
فالمعرفة الحصولية التحقيقية لها أثر صوريّ على صاحب المعرفة يدعوه إلى الامتثال والطاعة ولكنّه لا يأخذ بعنقه نحو الجادّة لأنّه لا يمثّل وجوداً تكوينياً فاعلاً في النفس العارفة.
وأمّا فيما يتعلق بالوقوف الثالث وهو المعرفة التحقيقية الشهودية، فإنّها تختلف تماماً من حيث المتابعة والأثر، فإنّ الواقف شهوداً تترتّب على معرفته هذه من الآثار الجليّة ما يصعب وصفها وحصرها، وكفى بتميزها عمّا سبق من الآثار المعرفية أنّها تأخذ بعنق العارف نحو الطاعة والامتثال. والذي نعتقده في المقام هو عدم الانفكاك بين الأثر والمؤثّر، فالمعرفة
ـ وهي المؤثّر ـ لا تنفكّ البتّة من أثرها، بل ما نعتقده هو أبعد من ذلك، وهو أن أثر المعرفة نفسه يمثّل مرتبة معرفية، لأنّه أثر وجوديّ فاعل في الذات العارفة.
إنّ المعرفة الحضورية والشهود الباطني يعني تحوّل الإنسان العارف إلى وجود قويّ خيريّ محرّك لطاقاته باتجاهات الكمالات المطلقة، بل نحو المطلق نفسه جلّت قدرته، وبهذا التحوّل يكون الإنسان قد ولج أبواب العصمة ليتحوّل بذلك بعد مراتب معرفية ارتقائية من دائرة المخِلصين (بكسر اللام) إلى دائرة المخلَصين (بالفتح).
وإذا عرف الإنسان ربّه تحقّقاً فسوف تغلق دونه جميع دوائر الشرك، وتغلق أيضاً دونه جميع دوائر الفقد، وفي ذلك ترجمة خفيّة لقول الله تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)5. فالإنسان مفطور على حبّ الخلود والبقاء، فهو يشتهي ذلك بقوّة.
ولازم الخلود إغلاق دائرة الفقد وإتمام دائرة الوجدان. إنّ المعرفة الحقّة بالله تعالى تورثه حقيقة كونية خالدة، وهي حقيقة الاكتفاء بالله تعالى، فلا يطلب به بدلاً ولا يرغب عنه حولاً، ولا يُبقي في عرضه ولا في طوله شاغلاً. وهذا المعنى العميق الدقيق قد ترجمه لنا عملياً رائد التفاني في الله تعالى الإمام الحسين بن علي عليهما السلام بقوله الشريف وهو يناجي ربّه في عرصات عرفة: «ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك؟ لقد خاب من رضي دونك بدلاً، ولقد خسر من بغى دونك متحوّلاً»6.
لهم فيها ما يشتهون، فلا فقد ولا نقص أبداً، إنّما الوجدان سرمداً. إنّه تحوّل جوهريّ في حركة الإنسان الوجودية حيث يتحوّل فيه العبد إلى موحّد حقيقيّ بعد أن عرف حقيقة التوحيد التي كان يعيش صورتها قبل التحقّق المعرفي ويقبع في دوائرها الذهنية المغلقة.
بعبارة أخرى: إنّه تحوّل من دائرة الشرك الظاهري والخفيّ إلى دائرة التوحيد الحقيقي الحقّي والذي به سيعرف تجلّيات سورة الحمد في (رَبِّ العَالمَين) و (مَالِك يَوْمِ الدِّين).
إنّه تحوّل من دائرة الأثر المقيّد إلى إطلاق الوجود العيني، ونعني بالأثر الوجودَ الشبحيَّ لحقيقة الإنسان حيث كان قبل التحقّق المعرفيّ بالله تعالى متلبّساً بصورة الإنسان الحقيقي، ومشتملاً على بعض آثاره المحدودة جدّاً، وهذا هو الوجود الشبحيّ له ليتحوّل بالتحقّق المعرفي إلى الوجود الحقيقي والفعلي للإنسان الخليفة قرآنياً والإنسان الكامل عرفانياً.
بعبارة ثالثة: إنّه تحوّل من الإنسان الناقص القاصر إلى الإنسان الكامل الراشد، ومن الجملة الناقصة التي لا يحسن السكوت عنها إلى الجملة التامة التي يحسن السكوت عنها ويصحّ الإخبار بها عن الحقيقة المطلقة المقدّسة.
نعم إنّه التحوّل الكينوني الذي يدرك بواسطته الإنسان العارف الكامل الحقّي من هو المبتدأ وما هو الخبر، ومن هو الفاعل الذي كان ولم يزل كما كان في الأزل متوحّداً في الوجود والتأثير، ويدرك معه أيضاً ما هو المفعول والأثر.
نعم سيدرك آنذاك أنّ الحقيقة واحدة لا غير أزلاً وأبداً، قد تجلّت بصور مختلفة، فإذا ما وقف الواقف الحقّي على حقيقة الشؤون يكون قد تجلّت في قلبه الطاهر حقيقة قوله تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)7، ومعنى المرآتية المشيرة إلى الوجود الواحد الأحد.
وما الوجه إلاّ واحد غير أنّه              إذا أنت أعددتَ المرايا تعدّدا8
فتلخّص إلى هنا أنّ أثر المعرفة بالله على مستوى السلوك الشخصي بلحاظ الوقوف الأول (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً)9.
وأما أثرها بلحاظ الوقوف الثاني فإنّه وإن كان ملحوظاً وذا قيمة معتدّ بها إلاّ أنّها محفوفة بالمخاطر وسهلة الانفكاك في إطارها الإيجابي عن ذي المعرفة، كما أنّها معرفة صورية تبقى قاصرة عن جلب الحقيقة أمام طالبها، ولذا يبقى العارف حصولاً عرضة الشك والتردّد؛ لعدم وقوفه على ذي الصورة.
ومن هنا نفهم لماذا كان أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً»10؛ ذلك لأن الحقيقة حاضرة عنده كما أنّه حاضر عندها، فذلك اليقين المتحقّق به يقين لدنيّ لا يقين حصوليّ، ومن حصل على اليقين اللدنيّ في مورد فإنّه لا توجد مرتبة معرفية فوقه أو هو دونها في دائرة الإمكان.
إنّ موارد الحاجة إلى الحضور والشهود لهي أعظم وأجلّ وأكثر من موارد الحاجة إلى الحصول، وهذه حقيقة حقّة يصعب قبولها من السواد الأعظم من الناس؛ نظراً لتمحّضهم في الغياب واليباب، وعزوفهم بالاضطرار أو بالاختيار عن فيض وإشراق ربّ الأرباب.
إنّ الحصول في مورد الحضور يكون جهلاً محضاً ربّما يقتل صاحبه، كما عبّر عن ذلك أمير المؤمنين علي عليه السلام: «رُبّ عالم قد قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه»11 فذلك عالم حصولاً قتله جهله حضوراً، ولذا فعلمه الذي معه أعجز منه لا ينفعه.
ومن أراد أن يلج موارد الحضور بآلية الحصول يكون قد خالف الحكمة فوضع الشيء في غير موضعه، فلا أثر الحصول جنى ولا من عالم الحضور دنا، بل كان من الجهل والجهالات قاب قوسين أو أدنى. وأمّا أثرها بلحاظ الوقوف الثالث فهو الغاية والمنتهى الإمكاني حيث يتحوّل كل ما بالقوّة في العبد إلى الفعلية الحقّة على نحو الدفعية أو على نحو التدريج، فيصير العبد في كلّ حركاته وسكناته إلهياً ووليّاً من أولياء الله تعالى، يطوي سجلّ الشقاء، ويتحقّق بدار السعادة واللقاء، وذلك هو العطاء غير المجذوذ (أي غير المقطوع) يتحوّل في ظلاله العبد إلى معنى تامّ يحسن السكوت عليه. 
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
(1) النساء: 138.
(2) الشورى: 23.
(3) مجمع الزوائد، مصدر سابق: ج7 ص103، و:ج9 ص168
(4) النمل: 14.
(5) فصِّلت: 31.
(6) مفاتيح الجنان، مصدر سابق: ص342، دعاء عرفة.
(7) الرحمن: 29.
(8) محبوب القلوب لقطب الدين محمد بن الشيخ علي الأشكوري الديلمي اللاهيجي، الناشر: ميراث مكتوب، الطبعة الأولى، 1424 هـ، إيران: ج1 ص 211.
(9) النور: 39.
(10) مستدرك سفينة البحار تحقيق الشيخ حسين علي النمازي، الناشر مؤسّسة النشر الإسلامي، 1419هـ، قم: ج5 ص163.
(11) نهج البلاغة، مصدر سابق: ج4 ص25، رقم الحكمة: 107.

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع