شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (46) - دمُ عاشوراء

اعتمدت الداخلية نظاماً معنا يفرض على رئيس المأتم تدوين كل المناسبات التي سيحييها مأتمه ... لم يُدون رئيس المأتم لدينا في مأتم بن خميس وفاة السيدة زينب (ع) ... الجميع عازمون على إحيائها في الخارج ... لم يكن للغضب حدود حين علم الكل بما لم يُدونه رئيس المأتم ... ولكن ليس باليد حيلة ...


أثناء لحظات انتظارنا لإطلاق سراح مهدي سهوان بالقُرب من بيتنا وبيتهم ... وأثناء وجود الشيخ حسين اقترح أحدهم عمل ثُنائي بيني وبينه ... لاقت الفكرة استحسانًا من الجميع ...


عملنا على تهيئة الظروف لها ... جاء باللحن شيخ حسين واستقرينا عليه ... توزّعت القصيدة بين السيد ناصر العلوي ... وعبدالطاهر الدرازي ... النصوص ذات اللغة الفصحى للسيد والنصوص الدارجة لعبدالطاهر ... مدّة أسبوع فقط لحفظ اللحن ... ألحان الشيخ ليست من الألحان البسيطة ... فيها انعطافات وتحسينات صوتية يلزمها دِقّة في الحفظ ... وجاءت المناسبة حثيثاً ...


جلسنا في البيت للمراجعة والبروفات ... أشرت على شيخ حسين بشطب فقرة ... فيها بُعد سياسي واضح وذكر للأسارى ... كُنا بحاجة لتهدئة الخطب ... العين لا زالت مسلطةٌ علينا ...وللتو خرجت من اعتقال لمدة ثلاثة أيام ... دفعت فيه مبلغ ثلاثمائة دينار ... وصدري موجع من لكمات ضابط لا يجد الله ولا الحساب في قاموسه ... وحسناً فعلنا ... حتى الوقت لم يسع لتكملة القصيدة ...


لم يكن مُقرراً إقامة العزاء في الداخل ... كان تخطيطنا للقصيدة لتُلقى في موكب المسير ... أردنا شيئاً وأرادت الأقدار غيره ... ما لم يُدون رئيس المأتم هذه المناسبات كذكرى معتمدة لدى الداخلية ... لا نتمكن من الخروج ... أصبح القرار الواضح عند الكل إقامة الموكب داخل المأتم ... وأقيمت الذكرى داخل المأتم ... وأصبحنا نشكر الله أنها أقيمت في الداخل ... فلولا أنها في الداخل لما تحصلنا على تسجيل نظيف ممتاز .


بكل صدق أقول لم أتحصل على الوقت الكافي لحفظ اللحن وإجادته ... قد أكون أجدت كثيراً من حركاته ... إلا أنَّ السامع صاحب الخبرة يستطيع إيجاد مواقع الخلل ... والهفوات الواضحة في أداء اللحن ... وهنا تكمن ضرورة الوقت الكافي لحفظ اللحن في الثنائيات ... والبروفات المتكررة ليتسنى لصاحب اللحن تصليح مواقع السقطات عند صاحبه ... وإلا كان الثُنائي شكلياً .. لا يُقدم مستوى يدل على جودة ...


أحيينا المناسبة وأصبحت تلك القصيدة أسطورة لا يُشقُ لها غبار ... أعتقد جازماً أننا في الموكب قدّمنا ما يُساوي هذه القصيدة ... إلا أنّ الظروف والتسجيل دفعت بها للمقدمة وللأخريات في مؤخرة الركب .


وفاة الإمام الكاظم (ع) التي تلت تلك القصيدة كانت ثمالة المناسبات لي ... بعدها تم الاعتقال ... لعام كامل أصبحت مُبعداً عن المواكب وشذاها ... أتسقط الأخبار من خلف جدران الزنازين ...


نسمع بالمواكب ولا نراها ... نسمع عن مواكبنا وقوتها ... وتفد إلينا أخباراً تكدر ما يتبقى من راحة بالنا ... أخباراً تنبئ عن ضرب بعض المواكب ومهاجمتها ... ليس بأيدينا ما نصنعه لها ... نتحرّق لها ونحترق بأنبائها المؤسفة .


الغياب يفقدك أجزاءً من الحقيقة لا ريب ... عام بأكمله مُغيبون في قعر الاعتقال المجحف ... وبعد العام عُدت أتطلع إلى الموكب غير الموكب ... وأسمع غرائباً وعجائباً ... أسمع عن الجماهير اللا متناهية التي تزحف إلى الموكب ... وعن الهتافات الصاخبة في الموكب ... وعن أسلاك السماعات التي تتقطع ... ولا يجدون لها حلاً ..


قُبيل شهر رمضان خرجت ... وأنا لا أخلع الشوق عن مباشرة الموكب ... كالهلال تحجبه الغيوم ... ولكن لا بُدّ له من الظهور ... في ذكرى وفاة الإمام الصادق (ع) أعددت قصيدتي ... جعفريون ... حيدريون ... انطلق الموكب ... انطلق قليلاً وتوقف عند الناصية ... عند المقبرة... عشرون دقيقة وقفنا والموكب يُرتب صفوفه لكثرة المُقبلين على الموكب ...


الرهبة تأخذ بعنق الناظر وهو يرى سيلاً من الشباب المُتدفق على إحياء الموكب ... الأرض لا تسعهم ... اجتمع عشقهم لأئمتهم بولائهم لوطنهم ...


سرنا بالموكب وعيناي تتنقلان من ورقتي إلى أطراف الموكب ... فتية جادة في الأطراف يُزينون الشارع بلافتات سياسية ... تعبر عن الهم الشعبي ... وجوههم مُغطاة ... أنتَ تمشي بين جدران هي الصحيفة ... وأنَت تتنقل من صفحةٍ لأخرى... صِور وكتابات ويافطات ... حركة إعلامية منظّمة ...


اقترحت على الأخوة شراء أسلاك قوية تُعزز بحبل يمنع تقطّعها ... إذ سبب تقطُعها ضعفها وقِدَمها ... فعلاً لمّا اشتريت الأسلاك الجديدة صعُبَ تمزقها ... وبقيت تقاوم الشدّ والسحب .


وبخروجي من المعتقل وجدت الأخوة الداعين للوحدة جادّين في إكمال مسيرتهم بتطبيق التناوب ... في لقاء بيني وبينهم سألوني عن رأيي أجبتهم بضرورة تنفيذ التناوب للظروف الحرجة التي نَمُرُّ بها ... الوضع لا يحتمل بقاءنا بهذه الطريقة .


نفس الموضوع كان يُطرح بصيغةٍ إدارية لدينا في أروقة الإدارة ... هناك من يُروج للاندماج بعمل مقارنات خاطئة مليئة بالمُغالطات ليُوهمَ السامع بجدوى الاندماج قِبالَ التناوب ... ويخفي حسنات التناوب عامدا...


رحت أُصرّح بحقيقة ما أرى في الموضوع ... ومن ضرورة التناوب ... ومن عجب أنّ هذا الأمر لم يرُق لبعضهم ... يُجيزون لأنفسهم أن يُنظِروا لصالح الاندماج ويُكمموا أفواه من يُخالفهم ...


كلّمني بعض الإداريين بوجوب السكوت عن الدعوة للتناوب ... ولكني لم أجد في كلامهم مُبرراً يدعو له المنطق... وكأنني فتحت على نفسي باب حربٍ أجهله ... لتوي عرفت الكبرياء المُندس في النفوس ... فالتناوب يُهدد مكانة عاشها البعض ... ولا يمكنه التخلي عنها ليلاً للمأتم الآخر ... بينما الاندماج يُبقيه في قمة الهرم ... يستخدم اسم الحسين لملأ ذاته وغروره ...


مع كل ما وجّه لي من لوم كنت أرى أن التناوب هو الهدف الأسمى للمنطقة ... ولتحقيق أهداف الحسين (ع) ... ولعلمي بما في الاندماج من جهد ضائع وقصائد مهدورة يُمكننا توفيرها بالتناوب ...


الظاهر أنَّ أؤلئك اللائمين لم يدركوا حجم إصراري إلا بعد سنوات ... وبعد أن فات أوان فهمهم ... حملت همّ الوحدة على عاتقي ... مُعترضاً طريق اللائمين والرافضين ... فرأوني شخصاً مُختلفاً عمّا كنت عليه قبل المعتقل ... ولم يجدوني متواطئاً معهم على ما نعرف عدم صحته ... ولم يجدوني إلا عنيداً في هدفي لا أعودُ بتقريعٍ ... ولا أرجعُ بتعنيف .


حتى لقد رموني بتهم الزور فيها واضح ... بعضهم زعمني متواطئا مع جهات تهدف إلى النيل من الموكب ... البعض ألصق بي تهمة التعاون مع المخابرات ... حتى الأقربين لم أنجو منهم ... ولكن هيهات أن تنال الأهداف النبيلة دون عناء وتحمل ... لقد علمنا الحسين كيف يعتني للموت من يسعى لتحقيق أهدافه ...إذن فليكن ما يكون...

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع