شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (27) - الجمهور يأكُلنا

عملية الحساب بكل خطوة تكفي المرء متاعب النتائج ... أمّا السائرون على غير حساب ... فلهم في عواقبهم خُسران إن لم يكن كثيراً فقليل ... الشّحاذون أيضاً يجمعون ويحسبون ما يجنونه أوّل بأول ... كلما ورد عليه قرش أعاد الحساب بإضافته ...


حريٌ إذن بنا أن نحسب لعواقب الأعمال ... ماذا ستعطي ... وماذا ستأخذ مقابل العطاء ... فمن يُعطي أكثر مما يأخذ خاسر ... بأبسط قول أنت تعطي الكثير لتأخذ أكثر منه بأضعاف في يوم توزن الحسنة بعشر أمثالها ...


في وفاة أمير المؤمنين (ع) في الحادي والعشرين من شهر رمضان ... ككل المناسبات تُجلل الحيطان بالسواد في المآتم ... وتُرفع الأعلام ... يوضع في رأس العلم كُرةٌ نُحاسية تُسمى (رمّانة) ... بلمعان نحاسها يرتبط استمرار الذكرى وعودتها ... فمنذُ صِبانا ونحن نراها جاثمة فوق رأس العلم ... أما في المحرم فبعض الأعلام يُختم رأسها بكفٍّ نُحاسية كتلك التي تُوضع في الراية ...


في وفاة أمير المؤمنين (ع) تحيى الليالي الثلاث من التاسع عشر حتى الحادي والعشرين ... ليلة أصيب وليلة ذاق واهج سم السيف ... وليلة فارق أبناءه مغدوراً ... عصراً تحيى المناسبة كمسيرة ... لا يخلع المعزون ملابسهم للطم كا يصنعون ليلاً ... فطبيعة الصائم تختلف عن طبيعة غيره ...


في كلمات علي حِكَمٌ كثيرة تجتذبك لحفظها ... وتأسرك ببديع معانيها ... لحّنت قولته الشهيرة ... الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ... والأخرى ... الناس أعداء ما جهلوا ... وفي تلحين الكلمات المنثورة يبرز إبداع الملحن ... فلا إيقاع في أصل صياغتها ... عليه إيجاد إيقاع لها ...


عليه البحث بعناية حتى يجد الإيقاع ... فلكل كلمة إيقاع ... ولكن الصعوبة في جمع أكثر من إيقاع لكلمة نثرية غير موزونه على إيقاع موسيقي لا يُقر به أصحاب الوزن والعَرُوض ... ثم تتلو تلك المهمة ... مهمة الشاعر ... هو أيضاً مطلوبٌ منه نسج الكلمات على وزن العبارة ...


المهمتان متظافرتان في إبراز المقدرة الفنية في موسقة النص ... كتبت على الكلمة الأولى نصاً يوضح حياة الظالمين المُرفّهة ... وما هي إلا متاع الغرور لو رأوا ما ينتظرهم من عذابٍ لأدركوا أنهم في جنّة الدنيا ... أحد الأقفال يقول ... الأسرى عند الدنيا ... لا يمحوهم آسر ... ولا يخفى على اللبيب ما فيها من وزن يُساوق الكلمة الأصلية ... أما الكلمة الثانية فكتبت في قفلها ... والظلم يكفيه إن غفلوا...


جديرٌ بالذكر أنَّ تلحين النصوص المقدسة كالكلمات الحكمية والأحاديث لها فائدتها الأكيدة ... النفوس بطبيعتها تعتاد على حفظ ما يُردد لمرات ... ومستهلات قصائدنا هكذا في الترديد ... فإن كان النص كما ذكرنا استطعنا إيصاله إلى الحافظة لدى مستمعينا ودون عناء ...


وبالتفحص في سجل مواكبنا تجد الكثير من هذه الظاهرة ... وهو فن لا تجده في الكثير من الاتجاهات الشعرية والفنية إلا نادرا ... بالنسبة لي كتبت قصيدة لحسن المعلمة في إحدى المرات ... تتسلسل في تفصيل أدوار حياة الإنسان ... ليعلم كيف لطف الله به منذ كان جنيناً في رحم أمه ... أقفال القصيدة كلها تبدأ بآية يعقبها نص بيت من الشعر ... مثلاً ... فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق ... ولا يكونن غضوباً حنق ...


في هذه الذكرى أيضاً قمت بمحاولة لجعل الوقفة أكثر نشاطاً ... المعروف لدينا أنَّ الوقفة لا تبدأ إلا بعد أن يقف الموكب بتماميته عن المسير ... في هذه المرة بدأت بتقديم الوقفة قبل عشرة أمتار من الموقع الرئيسي لها تقريباً ... هذا بالاتفاق معَ رادود المسير طبعاً ... بجعله يُنهي فقرته في الموعد المُحدد ...


أعتقد أنَّ الوقفة بهذا الأسلوب تضفي حماساً فائضاً على الموكب ... أكثر من تقديمها أثناء الوقوف التام ... في المواكب لدينا ليس من اليسير تغيير شيء من مكانه ... أو أسلوب إلى آخر ... المسألة تحتاج إلى عناءٍ وجُهد...الحركة لم تُقيّم ولم تلقَ القُبول على ما يبدو ... وإن كنت حاولت تكرارها ثانية ...


في عام (1408هـ) استقبلنا جعفر سهوان حُراً من قضبان ظالميه ... الكل ينتظر مشاركته على أحر من اللظى ... بدأنا بإعداد الجدول لموسم عاشوراء ... حيث أقبل علينا ونحن على أهبة الاستعداد... أسلحتنا قصائدنا موجهة في صدور أعداء أبي عبدِالله ...


وبدأ التقارب بين المأتمين يتم شيئاً فشيئا ... أدرجنا جعفر في مأتم السنابس ليلة التاسع ... وفي مأتم بن خميس الرادود عبدالنبي المخوضر ... أكثر الجمهور توجه لمأتم السنابس ... تلك أول مشاركة لجعفر بعد خروجه من المعتقل ... وله جمهور كبير ... لو استطاع الجمهور في مأتم بن خميس أكلنا بأسنانه تلك الليلة لما تورّع عن ذلك ...


ولا يضيرني أن اعترفت بأنَّ الجمهور كانَ مُحقاً ساعتئذٍ ... كُنا مُخطئين حين لم نُوازن بين جعفر في مأتم السنابس ورادود آخر بما يُقارب ثقله في موكب بن خميس ... خطأنا هذا كان يؤجج دواخل النفوس ... كتبت قصيدة جعفر ... غيّر مستهلها فكان ... علي الأكبر مثال ... في ساحات القتال ... حاولت تعويض النقص بوقفتين تُغطيان الخلل ... الوقفة حقاً تستطيع إنقاذ الموقف ... ولكن ليس لدرجة إحياء الموتى ... ليلى اطلعت ... وخلاچ وراح ... وقفتان حاولتا بما أوتيتا من تميز إنساء الجمهور زلتنا العُظمى ولا من فائدة .


ليلة العاشر التالية استطعنا سد الخلل ... موكب المسير من نصيب جعفر ... جاءنا جعفر بقصيدة مُنجزة قوية البُنية ... عمودية النص ... نحن في ليل عبوس ... بظلامٍ قمطرير ... أخمدوا كل ضياء ... وشهيق وزفير ... اعترضنا على النص لخشيتنا على جعفر ... ففي مطلع النص أسلوب يوحي بالتحدي والثورة ... وخوفاً عليه من الأسماع الأجيرة المُتربصة بالموكب وبه ...


الأسماع اليقظة لسماع أي زلة ... ولنقل أي مفردة من تصريف الثورة والرفض والتحدي والطغاة والظلم ... فهم يحسبون كل صيحة عليهم ... ونحن لا نفتئ نشير إلى ما نعاني من قهر وكبت ...


أصرّ جعفر على قصيدته ... في النهاية تركناه وشأنه يُقدم قصيدته كما يشاء ... حمدنا الله على مرور الأمر دون مُساءلة ولا قلق ... استفدنا من تجربتنا بضرورة الموازنة في وضع الجدول ... ولا يخفى ما للرادود من مستوى ... ولا نستطيع أن نُغمض أعيننا عن المستويات وتقديرها ... في وضع الجدول تحتاج لوضع كل كفاءة في موقعها المناسب ... من ليس لديه قدرة المشاركة في موكب المسير بوضعه في هذه المشاركة تحرجه ... وتشكل فشلاً للموكب ... الموكب نعم لتقبل الثواب والأجر ... ولكن هذا لا يمنع من جعله موكباً ناجحاً ... وبوضع المستويات في أماكنها المناسبة ومحاولة زيادة كفاءتها ننقل الموكب من مستوىً لأفضل ...

التعليقات (1)

  1. avatar
    المعارض ، عضو في الصرح الحسيني سابقاً

    بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم و رحمة الله و بركاته شكراً لجهود الرادود عبدالشهيد الثور لإطلاعه تلك الحقبة التاريخية من عمر الموكب في السنابس ، و لكن إسمح لي بأن أسئلك لماذا لا تذكر أسماء المؤلفين و حتى الملحننين في تلك الحقبة ، فمثلاً تقول في مقالك " جاءنا جعفر بقصيدة مُنجزة قوية البُنية ... عمودية النص ... نحن في ليل عبوس ... بظلامٍ قمطرير ... " من كتب و لحن لجعفر ؟ الصورة مازالت مغبشة غير واضحة . كما أنت يا عزيزي أبو علي لم تذكر لجنة الشيليل من هم الأعضاء و كيف تم تعينهم و ما كانت الشروط لكي تقبل القصائد و الألحان من الرواديد . شكراً مجدداً و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع