شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (26) - بحَّةُ الأسى الأخّاذة

مركبٌ تعتمدُ على رُبّانها في إدارة دفّتها فقط ... لا مُساعد ولا بديل يُجيد إدارتها غيره ... مركب مُعرضةٌ لعواصف المجهول العاتية ... وفي مُعترك اللجج العاتية تبدو الحاجة لوريث يُجيد السير في درب المخاطر ... مسافرو البحر لا يُجازفون بأعمارهم دونَ ضمان .


في قريتنا كَمٌ وفير من الرواديد ... يتوفر فيهم الكيف المطلوب ... مع غياب البعض في غَيابةِ السجن ... تتولد المواهب ... ونحن بانتظار ما تجود به بادرة موكب أبناء الرسالة ... مع ذلك نحتاج بين فترة وأخرى إلى وجوه غير سنابسية ... وفي وفاة الإمام الحسن العسكري (ع) صوتٌ جديد أطلّ على الموكب ... مهدي حبيب من قرية باربار ...


بقصيدةٍ روّعت الكبار ... وأعادت لهم ذكرى جعفر سهوان المحجوب خلف القضبان ... يا إمام المنتظر ثُور ... ثورة تمحي الظلم والجور ... بأدائه المتقن قدّم موكباً مختلفاً عن المألوف ... وكرر المحاولة ثانية في مناسبة أخرى .. غير أنه لم يحظ َ بالنجاح الأول ...


وكانت محاولة أيضا من الرادود حسين النينون من المقشع في موكب المسير ... كتبت له قصيدة ... أيامك أيامك تشهد ليك أيامك ... وفي الأعوام التالية جاءت محاولة من الشيخ حسين الأكرف ... زارني في البيت ... لابساً زي طلبة العلم دون عمامة ... مُكتفياً بالغترة المسدلة على كتفيه ... المُندسة تحت البشت ...


المطلب من جهته كان واضحاً ... المطلب تفعيل دور الرواديد الآخرين من المناطق الأخرى في موكب السنابس ... لكونه موكباً مركزياً ... وليس مُلكاً للسنابس فقط ... وقتئذ كنتُ إدارياً ... لم أعده بشيء ... ولم أقطع حبل الأمل ... وأني لأعلم بالجواب ... أمهلته حتى أراجع الإدارة ... لم تستحسن الإدارة الطلب ... خوفاً من انفلات الزمام بقصائد تجلب على الإدارة وجع الرأس من جهاز الأمن ...


الناشئة لدينا كثيرون ... منهم من يمتلك نفساً طويلاً ... فلا يكل ولا يمل ... يكبو وينهض ... يتعلم من هفواته ... علي المحرقي بمتابعتي له كتبت له عدة قصائد ... ليلة الثامن قصيدة ... الوالدة ابوسط الخيم ... اتقلك ابصوت الألم ... أبدع في أدائها وأبرزها أتمّ ما يكون ...


راي من دعوة بياني ... بالإطلاب ...هذه الكلمة الأخيرة أثارت استغراباً ودهشة وتساؤلاً عن معناها ... معناها هو معنى (مطالب) ... أعترف أنني كنت جانبت الصواب في استخدامها ... الكلمة السهلة في الوصول كفكرة أوقع في نفس المستمع ... أمّا الكلمة الغريبة ... تبقى تثير السامع وتشغله طوال الطريق ... برجوعنا للمعجم وجدناها صحيحة التصريف كجمع لكلمة طلب ... ولا يمنع هذا من صعوبتها في محتوى المستهل ...


علي سهوان زاول مهنة الرادود في الستينات ... ثُمّ تركها لسنوات ... في أيام تنظيمنا للموكب شجّعناه على العودة ... صوته جميل وله نبرة مُميزة ... ليس كباقي الأصوات ... فيما فات تنقل عنه قصيدة كانَ يُلقيها يوم العاشر ... جاني الشمر واتربع اعلى صدري ... والسيف حطّه برقبتي وحز نحري ... يبدو الشعر بحرانياً بحتاً ... لما يحمل من كلمات معتاد استخدامها لدينا في أوساطنا الشعبية ...


في عودته الجديدة كتبت له مجموعة قصائد ... قدّمها أفضل تقديم ... وبألحان مُتنوعة ... داخل المأتم الكفاءة في أحيان كثيرة موجودة ...تحتاج لمن يكشفها ... أو يفتح لها الفرصة للإبداع...


والده ملا حسن سهوان رحمه الله ... سمعت له تسجيلاً صوتياً مشهوراً ... صوته يمتلك من الرَخامة ما يكفي لاستدرار الشجن ... فيه بحّة أسىً أخّاذة ... يصعد المنبر في حُسينية بن خميس ... بعد الانتهاء من المجلس الحسيني يُعقب بلطمية ...


اللطمية في عُرفنا تختلف عن القصيدة ... اللطمية تعتمد على ثلاث لطمات متتالية ثم فراغ وبعدها أيضاً ثلاث لطمات ... القصيدة الموكبية... لطمة ففراغ ولطمة ... موقع اللطمة في القصيدة هو موقع اللطمة الأولى من كل ثلاث لطمات ... اللطاميات يستخدمها خطباء المنبر عقب انتهائهم من مجلسهم ... ولإضفاء عبرة إضافية في المجلس ...


ملا حسن سهوان في تسجيل مشهور ينتهي من المجلس ... ويُضيف لطمية مكونة من أبيات ملا عطية الجمري المنبرية ... يا نازحاً في طوس حيا الله محياك ... بعد إكمالها يوجه الجمهور إلى نزع الملابس والاستعداد للقصيدة ...


قصيدته ... يا ضامن لجنان ... موتك فجيعة يا علي ... بلحنها الشبيه بصوت الناعي ... صارت القصيدة بمطلعها مرتبطة بوفاة الإمام الرضا (ع) ... يطلبها كثير من اللاطمين ... فتعاد لهم ... ومن أجل الخروج من حرج التكرار ... كتبنا لأكثر من مرة على وزنها أبياتاً جديدة .


ورثه من أبنائه أربعة ساروا بخطى والدهم ... واتخذوا الحسين سيداً يخدمونه ... ويبذلون فيه أغلى ما بأيديهم ... علي وجعفر وحسين ومهدي ... مُرتبين بحسب الأكبر فالأصغر ... هذه الصفة لا تتواجد في كثير من البيوت ... ففي البيت الواحد تجد رادودا واحدا فقط ... أمّا أن تجد أربعة ... فظاهرةٌ لا تتكرر كثيراً ...


وظاهرةٌ أخرى لديهم ... أربعةٌ ولكل ٍ منهم صوته وأسلوبه ... لا تجد اثنين يلتقيان في مدرستهما العزائية ... وهذه حسنة قلّ ما تجدها ... فالمعروف عن الإخوة تماهي أصواتهم ... وتقارب أساليبهم ...


لا يكتفي الشيعة الكبار بالإكتواء بنار التنكيل في حب الحسين ... بل يورثونه لصغارهم ليشيبوا على حبه ... يرون في مجاورته سعادة أبدية ... وهي كذلك ... وتضيق الصفحات بذكر من رأوا الحق اليقين في حب الحسين فمن يهبه القليل مخلصاً ... يجد الكثير بلا ريب .


تعبر المواكب طُرقات القرية الضيقة ... تأخذ دورتها وتعود للمأتم ... بعض الفتيات المتبرجات اعتدن على التبرج بمواجهة الموكب والتفرج عليه ... في وفاة السيدة الزهراء (ع) في 13 جمادى الأولى لعام 1407هـ ألقيت قصيدة بعنوان ... بعدك يبو القاسم ...


المناسبة وفاة أطهر امرأة تشرفت بها الكرة الأرضية ... المرأة القدوة ... مثال العفَّة ... الموضوع يُعالج كرامة المرأة المهدورة ... وحث الآباء على حفظ بناتهم ... وتوجيه للمرأة بالتنبه لما يُرادُ لها من سقوط وتحلُل ... وهل أنسب من ذكرى وفاة الصديقة فاطمة للتبليغ بهذا الموضوع ...


هذه أوّل قصيدة ألقيها بعد عقد قراني في ذلك العام ... وللسماع بالأذن ارتباط بالعودة إلى الذكريات ... جميلها وسيئها ... هذا ثابتٌ حتى في علم النفس ... بضغطة زر بسيطة تسمع لحناً وتعود إلى ما قبل عُقود ... وفي الأجواء أنفاس الماضي ... نسماتها تعيدنا إلى ما نَحُنُّ إليه ونتوق لتذكر جميله ... وكهذه الذكرى تنتج كل الذكريات اختمارها في النفوس ... تعود بشفرة ... وتختفي كأنها غير موجودة ... غير أنها مُتخفيةٌ في اللا وعي ...

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع