شارك هذا الموضوع

نَقُولُ آسِفيْن

نَقُولُ آسِفيْن


 


 


كان الفلاسفة الرواقيّون يذهبون بيقين فاقع إلى أن أصول الكلمات تنبع من مُكوّنات الطبيعة، وهي بالتالي نظيرٌ مُتَمّم للموجودات المّادية . ولأن تأريخ الكلمات أو تأصيلها ومعرفة منبتها قد تفرّغ له المهتمون بتاريخ الألفاظ منذ القرن الخامس قبل الميلاد؛ فقد كفانا أولئك عن التأويلات العارضة المتعلقة بالجماعات المنقرضة . وفي أمرٍ موازٍ لعمل الرواقيين في اللغات؛ فقد تجشّم الكثيرون من حَفَظَة التاريخ في الغرب والشرق لأن يتتبعوا أصول الأحداث والوقائع، ويعصروا آخر قطرات الذاكرة الإنسانية ليضعوا ما حدث بسواده وبياضه في بطون الأسفار، فدوّن لنا كوتن ماذر وسليفن كيتز ودوبينز وجان لوي برلاندييه سجلاً بالجرائم التي فعلها الرجل الأبيض مع سُكّان العالم الجديد سواء في أستراليا أو في الأميركتين، فأدرك العالم أجمع كيف بُيِّضَت حضارة الغرب كما تُبَيَّض الأموال اليوم .


 


قبل أسابيع اعتذرت الحكومة الأسترالية عن «الإساءات» التي ارتكبتها الحكومات التي تعاقبت على الحكم الأسترالي بحق سكان البلاد الأصليين (الآبوريجينال) . حينها قال رئيس الحكومة كيفن راد أمام البرلمان إن حكومته تعتذر للقوانين والسياسات التي تسببت بـ «الأسى العميق والمعاناة والخسارة» لسُكّان أستراليا الأصليين وأنه وحكومته يأسفان لذلك ! . بطبيعة الحال فإنني لست في وارد المُرافعة عن 460 ألف آبوريجيناليّاً تَوَسّدوا القارة منذ ستين ألف سنة، لكنني أملك الحقّ في السؤال : كيف انتقى السيد راد كلمة «إساءات» وهو يعلم أنها لا تتناسب أبداً مع ما قام به المهووسون بالبارود ضد السُكّان الأصليين منذ العام 1788 ولغاية 1970، وبالتالي فهو كلام يحمل من الإساءة أكثر مما يحمل من الإحسان والإقرار بالذنب، لأنه بالتأكيد لا يُعوّض عن ظفر طفل سِيق لمذبح سياسة «الأجيال المسروقة» حين كان الأطفال يُنتزِعُون من أحضان أمهاتهم بدعوى الاندماج (واحد من بين كل ثلاثة انتزع من عائلته بمجموع 13 ألف طفل) كما أن على السيد راد ألا يُفاضل بين اعتذاره وبين رفض رئيس الحكومة الأسترالية السابق جون هوارد طيلة عقد من الزمن الاعتذار لأفراد الأجيال الضائعة، بل عليه أن يخجل لأنه لم يقل للعالم إن الفرق العُمري بين السُكّان الأصليين وغيرهم من الأستراليين البيض لا يزال متجاوزاً السبعة عشر عاماً في بحر جيل واحد، وعليه أن يخجل مرة ثانية لأنه لم يقل إن نصف مليون إنسان من مجموع سكان أستراليا الأصليين لا يزال نصيبهم هو الفقر وارتفاع معدل الوفيات والإدمان على المخدرات والكحول والبطالة، وأن أكثر من واحد من كل أربعة آبوريجيناليين مصابون إما بمرض السيلان أو الزهري، وعليه أن يخجل مرة ثالثة لأنه لم يقل إن الرجل الأبيض قد احتلّ جزيرة تسمانيا وأباد ثلثي أهلها إبان القرن التاسع عشر، ونَشَرَ الأمراض وضَمّخَ الأرض بالمجاعات ودنّس الأخلاق، عليه أن يخجل مرة رابعة لأنه لم يقل للعالم إن أصحاب الحضارة والمدنية قد استعملوا الأطفال ذوي الست سنين والنساء سُخرة لجرّ عربات النقل في الغابات والمناجم الخطيرة، والتعمّد في قتل شيوخ القبائل وحرقهم أمام مُريديهم، والتهجير القسري إلى الجانب الغربي، عليه أن يخجل مرة خامسة لأنه لم يقل للعالم إن السُكّان الأصليين لم تَزِد مطالباتهم المالية عن 870 مليون دولار تتقسّم على 460 ألف آبوريجينالياً (1891 دولاراً لكل فرد فقط !) في حين ألزَم مجلس الأمن الدولي ليبيا بأن تدفع عشرة ملايين دولار لكل ضحية من ضحايا طائرة بان أميركان المئتين وسبعين أي بمجموع نقدي تجاوز المليارين وسبعمئة مليون دولار. إن الاعتذار من دون التزام مادي أو أخلاقي هو ترف سياسي واستحلاب للقضية، وقبل ذلك كلّه استهجان بالضحايا، وإجبارهم على الإيمان بالنسيان أكثر من الذاكرة .

التعليقات (1)

  1. avatar
    المعارض

    بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم و رحمة الله و بركاته الأستاذ الكاتب محمد عبدالله تحية طيبة و بعد ، لقد قرأت مقالك و لتسمح لي بأن أسلط الضوء على مواقف رئيس الوزراء الأسترالي أزاء الأعتذار الذي قدمه إلى السكان الأصليين لأستراليا ( الآبوريجينال ) ، لكي نكتب التاريخ بأمانه . إن الأبوريجينال سكنوا قارة أستراليا مثل ما تفضلت منذ أكثر من ستين ألف سنة ، و هم سود البشرة متميزون عن الأفارقة بأنفهم العريض و شعرهم المسرح ، و الغريب في أمرهم أن المستكشف البريطاني الكابتن جيمس كوك حينما وصل إلى هذا البلاد سجدوا له لإعتقادهم أن الرجل الأبيض هو إله ! ، و لم يعثر كابتن كوك على بيوت لهؤلاء البشر حيث كانوا يسكنون الكهوف ، و أما على مستوى الصناعة فليس لديهم حتى ثياب تغطيهم عدى العورة ، و يعتقدون ان الشمس هل الأب و الأرض هي الأم ، و الكل الزوج و الزوجة يمتلكان صفات الألوهية بالتكاثر ! . لقد قتل المستعمر البريطاني الأبوريجال الأسود ليجعل هذه البقعة الأرضية الثرية قارة بيضاء ، و لكن لم يستطع أن يقتل أكثر من خمسة ملايين نسمة ، و لكن سياسة بريطانيا مع مرور الزمن تغيرت و جلب من بريطانيا كل المحكومين بالإعدام المجرمين لكي يعمروها و يتخذوا منها سكناً و السبب الآخر لكي يخلصوا بريطانيا من حثالة المجتمع . أخذ البريطانيون يعون أن الأبوريجينال واقع حال و يجب التعايش معهم ، فأرادوا أن يدمجونهم في امجتمع و يعلمونهم اللغة و يمدونونهم فكان الحل الأمثل في رئيهم هو إستهداف الأطفال الذين يسهل تشكيلهم عن البالغين المتمسكين بعاداتهم القبلية ، و نجحت هذه الطريقة إلى حد ما . أصبح تقديم الإعتذار من قبل الحكومة الأسترالية إلى الشعب الأبروجينال شبه برتكول يجب على كل حكومة تخلف سليفتها ، و الحكومة الأسترالية السابقة من حزب الأحرار برآسة جون هورد التي حكمت أكثر من عشرة أعوام إحتفضت باقرار لإعتذار كورقة رابحة في الإنتخابات و لكنها فقدت هذه الورقة مصداقياتها بمرور الزمن ، و لكن لم يكن هذا الوعد على قائمة الوعود في الأجندة السياسية لدى حزب العمال - الحكومة الأسترالية الحالية - برآسة كيفن راد ، بل كان سحب الجيش الأسترالي من العراق ، بالفعل قامت الحكومة ما إن تسلمت زمام الحكم قدمة خطة تدريجية للإنسحاب من العراق للسلطة العراقية و الأمريكان . و قد يكون إعتذار الرئيس الأسترالي للشعب الأسترالي الأصلي حدث تاريخي لأنه لم يستخدم كورقة إنتخابية بل إيماناً منهم بأن الأستراليون الدخلاء يجب عليهم أن يعتذروا من سكان أستراليا الأصليين ، و لقد قدمت الحكومة خطة لإعادة بناء المناطق السكانية للأبروجينال و إعادت تأهيلهم و منحهم مخصصات مالية و أولويتهم للوظائف الحكومية و دخول الجامعات ، و كل هذه خطوات إيجابية يجب على السكان الأصليين أن يقتنوها ، و لكن لو زرنا مناطقهم لوجدنا أنهم شعب مازال يسكن الكهوف و ينام في البراري و يرفض التمدن فما هو الحل ، لا لإغراآت مادية تنفع و لا طريقة سرقة أطفال من أحضان أمهاتهم نفعة ! . و هل يعتذر الحكام العرب عن الظلم الواقع على شعوبهم العربية ، أذكر فقط إعتذار الرئيس جمال عبدالناصر حينما خسر الحرب مع إسرائيل و كان على إثرها إحتلال لصحراء سينا بسسب سوء إدارة الجيش ، حيث لم يؤمن الجيش المصري بغطاء جوي مما سهل على الطائرات الحربية الأسرائيلية أن تنال من الجيش العاري في الصحراء ، فأقال عبدالناصر رئيس الجيش و صاحبه الحميم عبدالحكيم عامر ثم إستقال إلا أن الشعب المصري تظاهر لكي يعدل عن الإستقالة ففعل . أكتفي بذلك و شكراً لك و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع