شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (25) - وها قد أقبل الموعد

السماء ترسم خطوط التوفيق ... بعكس ظنوننا أحياناً ... وعلى غير رغبةٍ منّا ... نبحثُ عنهُ في الشرق ... ويأتينا مِنَ الغرب ... موجود وليس محض صدفة ... الصُدف لا تتقن صنعَ شيء ... يدٌ غيبيةٌ تُحركُ السفينة لِتُبحر في مرفأ الجزيرة الوادعة ... الغيب مُتلطفٌ بنا دائماً ومتئد في خطواته نحونا ... إلا أننا عجلون ... ونودُّ قطف الفاكهةِ قبل أوان نضوجها ...


ما انتهت وفاة الإمام الرضا (ع) في السابع عشر من صفر من عام 1407هـ إلا والصوت منّي نافذ لا قدرة بي على تأدية حديث جانبي حتى ... أُحاولُ إظهارَ الكلمات ... فلا تظهر إلا بالعناء والمشقة ... الأوتار الصوتية منهكة متعبة ... البحّة باديةٌ عليها ... تنوعت محاولة العلاج دونَ جدوى ...


وصفوا لي رأس الفجل( رويد) المطبوخ ... وقالوا اشرب ماء النخج الدافئ ... وأشار بعضهم بشرب ماء النبات الحار ... كل الوسائل باءت بالفشل ... كل هذا استعدادا لتأدية قصيدة ليلة الأربعين ...قصيدة المسير...


لا يفصل وفاة الإمام الرضا (ع) عن ذكرى الأربعين إلا ثلاثة أيام ... ولم يتّضح برء لحنجرتي ... رافقني القلق ليل نهار لهذه الحالة ... ولا جديد ولا تحسن فيها ... انقضت الوسائل المادية كلها ... لم يبقَ إلا الوسائل الروحية ... توسلتُ بأهل البيت بفك أزمتي ليكون بمقدوري تقديم الخدمة لهم متشرفاً ... ولا من جديد ...


وجاءت ليلة الأربعين ... ولا بُدَّ من تقديم القصيدة بالصوت كما هو عليه ... ... بالقدر المُتيسر ... فعلاً طرحت فاتحة القصيدة ... يخوتي اتلقوني ... من اليسر راعوني ... ورحت أنتهي من المستهل إلى الأبيات ... حتى منتصف الطريق ... جاءت القصيدة بذلك الصوت المبحوح الباكي ... يحكي لسان حال القصيدة حقاً ...


ولو أردت جعل الصوت كهذا لما أمكنني ... حسبت حسابات ... وقدّرت اليد الغيبية تقديرات ... فكان الغيب هُو المهندس للأحداث بريشة الباري .
الصوت المُجهد حكى لسان حال السيدة زينب (ع) ... شاكيةً باكية ... ورسم في آذان المستمعين حقيقة العبارات المُقرحة ...


ومعََ أنَّ المستهل كانَ طويلاً إلا أن الجمهور استطاع إعمال حافظته وإبراز القصيدة بأشجى صِوَرها ... النصف الثاني من الطريق أكمله الرادود علي سهوان...


لهذه القصيدة ولحنها قصة .. مع إقبال كل عام جديد ... نستقبل شهر عاشوراء بجهدٍ متواصل في كتابة القصائد ... وتلحينها وإعداد جدول الموسم ... للداخل والخارج ... لكل الأيام من السابع حتى الثالث عشر ... اعتدت على إفراغ ما بقريحتي في أوزان أقترحها ... ثُمَّ ألقي ما بجعبتي من قصائد أمام الحضور ...


جميع الرواديد جُلوس في بيت الرادود حسن المعلمة ... أكثرهم يأخذ من القصائد ويعمل فنّه في ابتكار الألحان المناسبة ... الآخرون لديهم ألحان منجزة ... يُقدمونها للشعراء لصناعة النص ...


الرادود مكي جاسم أعطاني لحنه... لأكتب له نصاً لليلة العاشر ... وفي اجتماع آخر في بيتنا ... أعطيته القصيدة تامة ... العايلة وبالعاشر اتوادع احماها ... زينب ابكل الحرم مسئولة خلاها ... يا عزيزة علي ... صبري واتحملي ...


أبديت ملاحظتي للجميع ... هذه القصيدة كتبت وجهزت ... وقد بادرت بعمل لحن آخر لها ... أسمعتهم اللحن ... وتمّ سماع لحن مكي جاسم ... استقر رأي الأكثرية على أصلحية لحن مكي لليلة العاشر ...


تماشينا معَ رأي الأغلبية ... وشكرت الله على بقاء اللحن بحوزتي ... وإن لم أكن بخيلاً به ... لم أنجزه إلا لهبته ... أضمرت في نفسي إصراراً على استخدام اللحن ... منذ ذلك اليوم عرفت نفسي عنيداً ...


لا أعود عن خطوةٍ درستها وتيقنت من صحتها ... وها قد أقبل الموعد ... لا يليق لحن بهذه الشجاوة والعاطفة الفائضة إلا بهذه الليلة ... بعد إثبات التجربة أنَّ اللحن كان ناجحاً .. ثبت للجميع أنَّ في الألحان خفايا ... يستطيع المتمرس فيها اكتشافها ... ويستطيع قياس حجم ما سيأخذ منها ... وقوة ما سيعطي بها ... القناعة الشخصية للرادود لها دور كبير في حجم النجاح ... ولا ينبغي اهتزاز هذه القناعة لمجرد رأي عابر ... وإلا كانت خبرته في مهب الريح ...


في زماننا هذا أترحّم على تلك الجلسات العامرة بالتفاهم والتشاور ... في تلك الجلسة أيضاً في بيتنا يتم تسميع الألحان ... وتقييمها وتهذيبها ... إضافة وشطب وتمحيص ... جميع الحضور يُشاركون في رفع مستوى الموسم ...


بعد أن استمعوا للحن حسين سهوان بالكلمات التي كتبتها على لحنه ... ياشباب الفرح خله... أكّد معظم الحضور على ضرورة نقل القصيدة بلحنها لموكب المسير لا موكب داخل المأتم ... فعلاً تمّ نقلها وكانت ناجحة ...... شاهدي في الأمر أنَّ التشاور يؤتي ثماره على كل حال ... إن أصابت نتائجه أو لم تصب ...


وتتلو ذكرى الأربعين ذكرى وفاة الرسول الأعظم (ص) في الثامن والعشرين من صفر ... من نهضة المختار ... نأخذ هذي الأدوار ... أخوة ابدرب التوحيد ... نتعاون كلنا انريد ... قصيدة لحنها وسطي نصف شحناته مترعة بالإحساس العاطفي ... ونصفها الثاني وتر عام يؤجج الإنفعال ...


أبياتها تحمل دعوة لنبذ الفرقة والتشرذم ... دعوة للملمة الصف بين أبناء الدين الواحد ... لا شيعي ولا سني ... ولاكو تفريق ألوان ... ولا نزال في مواكبنا نُقدم دعوات التقارب والتآخي ... ونرفض البغض والشنآن ...


ثمّ صباحاً نذهب للعاصمة ... نشارك فيها ... وأعدت إلقاءها هناك أيضاً ... وهناك موقع مناسب لها أكثر من السنابس ... حيث تواجد غير المواطنين بكثرة ... وتواجد أبناء الطائفتين ... فوقعها أبلغ أين ما يكون غيرنا موجود ليتعرف على مسلكنا ومنهجنا في التعامل مع الآخرين .


في هذه السنة (1407هـ) جرت محاولة لعمل حجرة في ظهر حسينية بن خميس ... لتكون مقراً يقف فيه الرادود أثناء تقديم قصيدته ... سابقاً يقف الرادود بمُحاذاة الجدار ... يمر أمامه المعزون متجهين إلى يمينه ... مرات متعددة لا ينتبه المعزون لموقعه فيصطدمون به ...


أثناء وفاة الرسول (ص) كان الباب الخلفي مفتوحاً فقط ... جرى إيقافي على خشبة من الخارج ... وأُطلُ على الداخل من الباب ... إثناء إلقائي قصيدة ... تدري يبو ابراهيم ... طفلان واقفان خلف المأتم ... عند قبر الحاج أحمد بن خميس وابنه حسين بن خميس رحمهما الله ... الطفلان يلعبان غير عابئين بموكب داخل المأتم ... ورادود يقف بجانبهما يحتاج لصفاءِ جوٍ يُتيح له تقديم قصيدته ...


حين يسترسل الجمهور في جواب المستهل ... أنصرفُ للطفلين محاولاً ثنيهما عن اللعب ... وأعود أدراجي إلى الميكرفون باقتراب نهاية الجواب ... لاحقاً أقيمت حجرة يقف داخلها الرادود يُقدم قصيدته براحة بال ... لا المعزين تحتك أجسادهم به أثناء دورانهم .... ولا أطفال يشاغبونه ويُقلقون تسلسل أدائه في قصيدته..

التعليقات (1)

  1. avatar
    المعارض

    بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم و رحمة الله و بركاته الأستاذ الكاتب عبدالشهيد الثور تحية طيبة و بعد ، أودّ أن أشكرك لإطلاعك إيانا على تجربتك الغنية في الإلقاء العزائي ، و إسمح لي بأن أطرح بعض التساؤلات . 1- لمسة في قرائتي لسلسلة مقالاتك ، لوحة فنية ترسم ملامحها كلما كتبت ، و لكن بقية خلفية اللوحة فارغة تعطي القرائ تساؤل عنها ، فلقد كتبت يا عزيزي عن ولادة رادود من دون أن تذكر عن التجربة و نشاط الإلقاء الذي سبقه و عاصره في طفولته . 2- ذكرت نقطة إختلافك مع إدارة موكب مأتم السانبس و مازال أمر إستقالتك مبهم ! و كذلك الأمر في طريقة إشتراكك في عضوية مأتم بن خميس . 3- ذكرت الكاتب العصامي و لم تذكر الكتاب الذي كان يزاولون الكتابة في تلك المرحلة و يتنافسون مع عبدالشهيد الثور تنافساً شريفاً يتطلع خدمة أهل البيت . 4- متى دخلت تنوع الطرح في القصيدة العزائية ، حيث كانت القصيدة مكرسة لإضهار مصائب أهل البيت عليهم السلام . إن كتابة التاريخ تتطلب الصدق و الأمانة و الدقة حتى لو كانت المعطيات قد تسبب إحراج شخصي . شكراً مجدداً و أتمنى من إدارة الموقع أن توصل إستفساراتي للرادود عبدالشهيد الثور . و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع