شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (24) - بحرنة القصيدة

بلاغة علي أمير المؤمنين (ع) لا يبلغها المتكلمون ... مهما أوتوا من جوامع الكلم... الكلمات مطواعة في فمه ... يقول في إحدى مفردات بلاغته... من تردد في شيء أوتي حكمته ... جمع في هذه المفردات اليسيرات خلاصة التجارب البشرية ... وقدمها في عبارة بينة واضحة... الممارسة وكثرة المحاولة تجعل المستحيل ممكنا ... وتحول الممكن إلى واقع ... وتصنع من اللاشيء معجزات...أعمالنا تبدأ بدرجة بسيطة من الإتقان ... وتصعد حتى تصل إلى الذروة بحسب اعتناء صاحبها .


السلفيون يلاحقون مذهبنا بالتكفير والتضليل في كل جوانب الحياة ... تبعاً لهذه الحرب الشعواء على الطائفة الجعفرية أقدمنا أنا وحسن المعلمة على ثنائي آخر ... بقصيدة عكفت على إيضاح عقيدتنا في زيارة القبور ... والمكافحة عن مبادئ الطائفة وحقها في النهج الفقهي كما للطوائف الإسلامية الحق في ذلك ... قصيدة بعنوان ... بقى الإسلام يحمل فكرته ...


أوضحت القصيدة رؤية الطائفة وعقيدتها في زيارة القبور ... والهدف الأسمى من العمل ... ودحضت ما يرمي إليه مشوهو الحقائق من تزييف للمقاصد ... وتضليل وتعمية على نوايانا الحقة ...


وبات موكب أبناء الرسالة مؤهلاً لأن يصدر الرواديد الناشئة لموكب الكبار ... بدأنا نتلمس الموهبة البارزة في (حسين أحمد) ... ومن جانبه بعض الأصوات التي لو دأبت على الممارسة لتوصلت إلى خير النتائج ...


في أشرطة الماضي شواهد لا تحصى على ضعف الإعداد لدينا ... في قصائد منها يكون رجوع الرادود إلى لحن المستهل غير صحيحاً ... هناك خروج عن مسار اللحن ... مما لا يبقي للرادود فرصة للعودة بنفس اللحن ... الجميل في المسألة أن الجمهور مع خروج الرادود عن اللحن الأساس إلا أنه يعود للحن الطبيعي بيسر ... مما يعطيك الثقة بوجود مسدد لأخطائك ...


الجمهور في تلك الآونة مشبع بالخبرة ... يمتلك حساً ذويقاً ... وملكة فنية ... في مرّات عديدة يكون إيقاع الرادود غير منضبط إلا أن لطم المعزين منضبط مع علمهم بخطأ الإيقاع لدى الرادود ... ولهم آذان صاغية تتلقف الكلمات ... مثل هذا الجمهور يكون حافزاً للرادود لتنمية قدراته الأدائية إلى الأفضل ... ليستطيع مجانسة جمهوره في الملكة الفنية .


يتحرك الموكب في تلك السنوات ليكون محلاً لتقديم أطروحات لا تفرق عن منبر الخطابة إلا في الوزن واللحن ... في قصيدة أحنه شيعة علي ... نثور ما ننولي ... تفصيل وبيان عن الثورات الشيعية عبر التاريخ ... منذ الطف صعوداً إلى الزمن الحاضر ... الطرح العام مستوحى من كتاب تاريخ الشيعة للمظفر ...


بهذه القصيدة وقصائد سبقتها انتقلت القصيدة من طور اللحن الواحد إلى القصيدة المتعددة الأوزان ... لا تتجاوز أوزانها وزن وكسرة تتكون من ثلاثة أشطر ... هذا بعد أن كانت القصيدة تحمل لحن المستهل بلا أدنى فرق ...


في هذا العام 1407هـ ... سار عقرب التغيير إلى حركة جادة في خطوات واضحة ملموسة ... انتقل الموكب البحراني في السنابس لتأسيس شخصيته المتفردة ... راح يخلع من جسده ثوب النمط العراقي ... غير منكر فضله عليه منذ البداية ... واستعد الموكب البحراني للبس قميصه الجدير به ...


الفترات الآنفة تبدو اللهجة العراقية مسيطرة على القصيدة في مواكبنا ... كنا نقول (چتلوني) ولا نقول قتلوني ... و(چوچب) بدل كوكب ... وكثير من الكلمات التي لم نعتد على ممارستها في حياتنا اليومية ... البُعد عنها في ممارساتنا المعتادة يجعل الكلمة أجنبية في النفوس ...


استنفذت أرثي من مخزون الكلمات العراقية في المرحلة الأولى ... مرحلة الثمانينات ... وكانت المرحلة التأسيسية للتطوير اللاحق ... بالنسبة لي سعيت إلى بحرنة الألفاظ العزائية في القصائد ... بعض الكلمات لا يقبلها السامع أول ما يسمعها ... ولكنها بالتكرار تصبح مقبولة ... الكلمة المعاشة لها ذوق أفضل لدى المستمع والجمهور ... أما الكلمات التي يسمعها في الموكب فقط فهي تمثل لديه حالة مؤقتة...


ونحن على أهبة الاستعداد لخروج الموكب يوم التاسع من المحرّم ... أحضرت قصيدتي ... هاك يبني الإبه ... في فناء المأتم والموكب يتهيئ للخروج ما راعنا إلا أحد الشباب المتحمسين أقبل على الميكرفون واستلمه ... الكل يعلم أني سأكون رادود المسير لهذا اليوم ... أعيننا تدور في أحداقها ... نبحث عن الحل ... وماذا يُريد هذا الشاب ... الوضع كان مُلغماً بالتوتر والخوف ...


يبدو أنّ الشاب لا يجيد التحكم في أعصابه ... خرج الموكب ونحن في حيرة ... أحد الآباء الواقفين بجانبي اعتقد أننا برضانا رتبنا هذا الرادود ... رفع وجهه في وجهي وقال:أنتم تتحملون ما سيكون !... الموقف يبعث الوجل ... من يعلم ما سيقول هذا ؟... وماذا سيبوح لسانه على الملأ... المتحمسون كُثر ...


ما أنقذنا إلا الوقفة المحاذية لباب حسينية بن خميس الثاني ... تعهد الرادود مكي جاسم بجسمه الممتلئ عنفواناً ونشاطاً بإيقافه وإبعاده ... بعد تسليمه المكرفون للوقفة ... برفق أخذه مكي جاسم لخارج الموكب وأنهى الموقف ... تسلمت الميكرفون ورحت أقدم لحني وقصيدتي بكل ثقة واطمئنان ... للموقف دلالة على ضرورة المعالجة الفورية للمواقف المرتجلة الغير محسوبة ...


وبالتأمل شياً في محتويات أشرطة الماضي نجد الأداء السابق يتسم باستخدام الطبقة العالية ... طبقة جوب الجواب ... استخدام الأحبال الصوتية بهذه الطريقة يتعبها ويقعدها عن المواصلة ... ولا تعبر نصف الطريق إلا والكلمات لا تعبر الحنجرة بصوت مقبول ... إكمال الطريق بطبقة أقل من السابقة يُخفف من شحنة التعاطي المتفاعل من الجمهور ... وإكماله بالطبقة الصاعدة أمرٌ مستحيل صعب ...


هذه المشاركات أكسبتنا خبرة في استخدام الصوت بحذر وعناية ...نضع مخزوناً منه نستمر به لوقت حاجتنا ... سيما في موسم عاشوراء ... والمشاركات متتالية على بعضها ... ولا زلنا نذهب إلى موكب المنامة نشارك في العاصمة برفقة مأتم مدن ... يوم الأربعين ... مع ختام الموكب يدخل المعزون في صالة المأتم حيث يُنزع السجاد منها ... قدّمت وقفة كتبتها لجميل العرادي ...


عنَّ لي خاطرٌ أن أحاكي أداءه فيها ... قوم وانهض يا كفيلي بالله يحسين ... جاي ظعني ...استطعت التمكن من ثلاثة أرباع اللحن وفقدت السيطرة على الباقي ... ويبقى صاحب اللحن الأصلي ومؤديه هو الأقوى في الأداء لإلمامه بكل تفاصيل اللحن وتمرسه على التكيف معه ...


التجربة هذه تفيد بعدم ارتجال اللحن باعتقاد إتقانه والتحكم منه ... كثيراً ما تنقذ هذه الطريقة الموقف ... لكنها تدلّ على نقص في هندسة الموكب واستعداده ... الإعداد الجيد يوجب الاستعداد بالاحتياطات الجانبية ...


هذا الذي كان متوفراً لدينا لفترات ... قصيدة الليل احتياط لقصيدة النهار ... وقصيدة النهار احتياط لقصيدة الليل ... ويضاف إليهما قصائد أخرى في حالات ... كلما توسعت دائرة الموكب شهرة كلما ثقلت المسؤولية على كاهل القائمين بالموكب ... والنجاح يتطلب ثمناً باهظاً ووقتاً واسعاً وطاقات متنوعة.....

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع