شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (21) - قصائد لها أنفاس

في اللاوعي تكمنُ أفعالٌ كثيرة ... لا يمتلك الإنسان تأويلاً لها ... ولكن بقليل من المراقبة يتمكن الفرد من كبح جماح الأفعال الفالتة ... وبالمداومة والممارسة يجري التحكم في الحركات وردّات الفعل الصادرة من الذات البشرية ... وليس كل ردّة فعل يُترك لها العنان لتصدر كل مالا نرضى عنه في النتيجة ...


يعتادُ بعض اللاطمين المتحمسين على إصدار أصوات كثيرة ... هي أقرب للنشاز والإزعاج من كونها تفاعلاً ... التفاعل له ضوابط تجعله يسير في حدود لا يشذُّ عنها ... أما النشاز هذا فتصدر منه صرخات تأباها الذائقة السليمة ...


في منتصف الثمانينات بدأت وتيرة الألحان تخف من سرعتها ... قصيدة مثل ... يبو الحمله شجرى أولادك ينوحون ... أخذت دور الوسط في مستوى سرعة اللحن ... بمقارنتها بقصائد نهاية السبعينات ...


وفي هذه المرحلة يبدأ تأسيس السماع المُركّز للنص ... والتخلي شيئاً ما عن حركة الإيقاع السريع ... حركة الإيقاع السريع تجعل الذهن مشدودا للإيقاع دون الكلمة ... أما الإيقاع المتوسط فيُفعّل دور الكلمة ... ويجعلها أساسية في نفس المُتلقي ...


في ذكرى وفاة الإمام موسى بن جعفر (ع) عام 1405هـ جرى تركيب جهاز تردد الصوت (الصدى) لأول مرة في الموكب ... ظهر الموكب بهذا الجهاز حين ألقيت قصيدة ... تدري اشجرى لي ...بعدك يوالي ...


لم أكن متفاعلاً مع تركيب هذا الجهاز ... بل كنتُ مُعارضاً لاستخدامه بأشد حالات المعارضة ... لجهلي بفوائده ... ولعدم استيعابي لأهدافه ... رفض الجديد نزعةٌ تسير بنا إلى المعارضة عادة ... هذه النزعة هي السبب في تأخرنا ... بقيت لفترة لا بأس بها أرى في هذا الجهاز ضرراً على الموكب ... أرى فيه ضررا دون مبرر.


هذه التجربة علمتني عدم معارضة الجديد لأنه جديد ولم أعتد عليه ... صرت أستسخف نفسي عندما أعود لتك المرحلة بالذاكرة ... فليس هناك من داعٍ للمعارضة ...


صرت أحسب حساباً لكل أمر قبل البت فيه بالرضا أو السخط ... وترانا في كثير من الأمور هكذا ... نعارض ما نقبل ونسلم به في الختام ... ونتعصب له في تالي الامر ... كالمعارض الذي يُصبح قطباً في الحكومة التي عارضها في سابق أمره .


وفي هذه المناسية بدأت ترسيخ أقدامي في مجال الوقفات ... الوقفات في تلك السنين كانت على موعد مع البروز وأخذ عهدها الذهبي ... ذلك كان أول عهدي بها ...


الوقفة بما تُمثل من حالة وسطى بين قصيدة المسير والهوسة ... الوقفة تأخذ دور الرابط بين الحالتين ... الحالة المعتدلة من اللطم والحالة الشديدة منه ... مع الدخول في أول مطلع للوقفة تُخرج المعزي من جوٍ إلى جو أشد انفعالاً ... وتهيئه للدخول لجو الهوسة ...


في حالات كثيرة تتحمل الوقفة عبء إنجاح الموكب ... وتُغطي الخلل الموجود في قصيدة المسير ... وإذا ما كانت قصيدة المسير ناجحة فإنَّ الوقفة تُعزز نجاحها بقوتها أيضاً ... كثير من الوقفات تفوقت على قصائد المسير وبزتها نجاحاً ...


بهذا يكون لموكب المسير ثلاثة مُحركات ... القصيدة والوقفة والهوسة ... بعد أن كان يعتمد في سابق عهده القديم على الهوسة فقط ... يملأ فراغ الطريق بأكمله بها ... يقضي بها وقت المسير ... ويؤديها واقفاً ثمّ يستأنف المسير بها ...


ويبدو أنَّ الوقفة من نوع الهوسة في سرعة الألحان ... إلا أنَّ الهوسة تأخذ عدداً أكبر في اللطم ... يعزز رأيي هذا أنّ مُعظم ألحان الوقفات تكون مناسبة لجعلها هوسة ... وهذه نظرية قمت بتجربتها ونجحت ... لقد جرّبت تحويل عدد من الوقفات إلى هوسات ... وكانت ناجحة بما فيها من كسرات وذلك لتطوير الهوسة ...


ينقضي عام ويدخل عام ... وها قد جاء عام 1406هـ .... صدرت هذا العام بقصيدة... بحماك هاي الحرم ... بحماك هاي الخيم ... صوت العقيلة زينب تستنهض أخاها أبا الفضل ... هذه القصيدة لها وقعٌ خاص في جناني ... لا أزال أستعيد ذكراها وصوت الحاج (أبو أكبر) يملأ الموكب بكاءً وعويلا ...


هذه القصيدة بمقامها الشجي وبعد انتهاء الموكب ... وبعد تعب العزاء ... ألقيت برأسي على الوسادة وذهبت أقطع فيافي المنام ... استيقظت ليلا وأنا أسمع كأنَّ شريطاً يُدارُ وصوت القصيدة فيه ... ها هو جواب الجمهور يقتحم سمعي ... قلت يا الله هل هناك من يدير جهاز تسجيل في هذه الساعة ؟!...


بحثت ولم أجد شيئاً ... كأنما هو صوت بقي في الفضاء يردد ترديدة المستهل ولم يتلاشى من المحيط ... القصائد أيضاً لها أنفاس ... فأنفاس تلهب الفؤاد توجعاً وحرقة ... ولا تزول آثارها من النفس إلى بعيد المدى ... وبعضها كالسراب تراهُ بعيداً ... ولا يزال كذلك حتى يزول سريعاً ...


في اليوم الثاني جئت بوقفة ... يا بو الفضل يا الله گوم كل الخيم محروگة ... الحظ لم يعطها سعة لأكثر من موقع واحد فقط تُلقى فيه ... لكنها بقيت متشبثة بالأذهان ... في السنوات الأخيرة تنبهت للحنها في شريط شيخ حسين (ذكرياتي) بكلمات ... يحسين يابو الثوار بسمك الأمة تنادي .


خاطبته بشأنها ... قال أخذت لحنها من رادود من الدراز ولا يعلم مصدرها ... لا غرابة في ذلك ... في تلك السنوات كان الكثيرون يقصدون الموكب في السنابس ...


في ليلة الثامن من المحرّم قدمت داخل المأتم قصيدة ... وعقبتها بموشحات مرتجلة.... لم تكن الألحان مُعدة لها من قبل ... وإنما ارتجلتها في اللحظة والتو ... وهذه العملية تحتاج لجرأة في اقتحام الموقف ... وما كل رادود يستطيع التحكم في اللحن ... التجربة كانت ممتازة وأثبتت نجاحها ... ولكن لا نشجع عليها بعد تطور الموكب في مراحل متتالية ... القصيدة الأولى كانت ... الله يوم العرس يا فرحتي بيك ..

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع