شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (20) - كُلهنَّ جئنَ للمواساة

نجهلُ كثيراً منَ الخفايا ... ولا نعلمُ كنهها ... ولا نُحيطُ بملابساتها ... وليس لنا منها إلا الظاهر ... يتلبسنا الوهم أحياناً فيخدعنا ... ونذهب في طُرق شتّى نأول بها المواقف ... ولربما كان رأينا بعيداً عن الصواب ... ولا يتفق مع الحقيقة في حرف ... وفي زحام المشاهد يأخذ مشهد واحدٌ بألبابنا ... ويستولي على كامل مداركنا ويصادر المشاهد الأخرى عن أعيننا.


بدرجة الغليان من الحماسة صار الموكب ليلة وفاة الإمام الحسن الزكي (ع) ... وأنا أقدم قصيدة ... الله يساعدك يحسين ... تبچي ودمعتك بالعين ... الموكب ملتهب باللطم والفاعلية ... تفاجأ الجمهور بأحدهم يدخل فناء المأتم مشمراً عن ساعده ... مُخرجاً ورقة يُصاحبها قلم من جيبه الواسع الطويل ...


وضع الورقة على الجدار وراح يُسجل ملا لا يعلمون ما هو ... لم يكن إلا رجلاً لا تعده القرية في كامل قِواه ... ثوبه ذات جيبين طويلين ... أحدهما على اليمين والثاني على الشمال ... يستطيع تخبئة أشياء كثيرة فيهما ...لم يستطع أحد معرفة أسباب هيجانه ... إلا أنّ هيجانه جاء مع فوران حالة الموكب الحماسية حينذاك ...


مع تكرار ذهابنا للمنامة ... ومشاهدة مواكبها ... في مأتم الحاج عبّاس يوجد رادود فارع الطول ذو صوت أخَّاذ يسمى ميرزا ... أخذني بقصيدة قدّمها ... خل تكتب الأقلام ... خل تشهد الأيام ... اللحن لا يبارح فاكرتي ... يحاصرني من الجهات الست ...


وفي وفاة الإمام الحسن الزكي (ع) كتبت قصيدة على لحنه الآسر ... هذا الحسن معروف ... ما يعرف شنهو الخوف ... ناقشت فيها فلسفة صلح الحسن ... وكيفية تنازله عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان ...


التربية التي نشأ على أكفها الحسن الزكي (ع) لا تدع شكاً يتسلل للنفس بضعفه ... فهو الشجاع شبل الشجاع ... وهو التقوى وهو المكانة السامية بين المسلمين ... إلا أنَّ الظروف المحيطة بجيشه لا تسمح له بمواصلة الحروب والخروج بالخسائر المادية والمعنوية ...


أصحابه المخلصون قلّة ... الذين يقفون مع مواقفه مهما جرت الأمور بعكس ما يتمنون ... جيش الكوفة مُتخاذل عن نُصرة قضيته ... مُعاوية يدسُ الرشاوى لأقرب المقربين ... الصلح كما يُسمى هو الحل الوقتي لتلك المرحلة...


قصائد بمثل هذه المعالجة ترسخ العقيدة الإمامية بأحقية موقف الإمام في تلك المرحلة ... ولا يخفى ما للقصائد من تردد في الألسنة ... وبالتالي في طبع المفاهيم في النفوس ...ومن هناك بدأ مشوار القصائد الموضوعاتية ... قصائد تحمل مشروع مُعالجة موضوع مُعيّن تستوعبه من كل جهاته ...


تتوالى المناسبات وتكثر المشاركات بحسب حاجة المواكب ... لم يكن الرواديد بكثرة حينها ... ولا يتسنّى للكثير المشاركة ... بالنسبة لي وجود قلمي في جيبي يُوفر الفرصة أكثر لي ... لا أحتاج لشاعر أجري خلفه ويُتعبني بتأجيلاته ... متى ماأردت القصيدة سكبتها في اللحن ...


مُهمة ذات وجهين ... وجهٌ جميلٌ حسن يوفر الوقت ... ويعطيك ما تُريد في أقرب فرصة ... وكما تُريد من وجهة نظرٍ وتوجه ... الوجه الآخر متعبٌ وشاقّ ... يُكلفكَ بمضاعفة الجُهد ... جهد اللحن ... وجهد لفكرة القصيدة ...وجهد لصياغتها ... وللأداءِ دورٌ آخر...


في المراحل الأولى ... في السبعينات كان الرادود يضطلع بثلاث مهام ... مهمّة اللحن فعليه استخراجه ... ومهمة النص وعليه كتابته ... وإن لم يكن شاعرا ... فعليه تسطير الكلمات وتنظيمها لتستقيم في قصيدة ... ومهمة إلقاء القصيدة ... وكل ما فات فهو لهذه المهمة ... في تلك المرحلة بدأت مهمة الشاعر تنأى بنفسها عن كثير من الرواديد ... فعرفوا قدر أنفسهم ... وقدر الكلمة ...


تشدني طريقة المرحوم الملا عبدالعزيز رحمه الله ... وأجد كثيراً من ألحانه تُلامس روحي ... ربما لكوننا أنا وهو نلتقي عند سماع عبدالرضا النجفي كثيراً ... سمعته مرة يُلقي وقفة في مأتم السنابس شجية ... لا تون لا تون بطّل الونّات لا تون ...


بما يجري فيها من سحبة الصوت يجعل الرقة تتدفق من أحرفها ... صنعتُ لحناً بنفس الوزن ... يا علي يا علي أنتَ كافلها يا علي ... في وفاة الرسول (ص) ... في عام 1405هـ هي المحاولة الأولى لاقتحام عالم الوقفات ... عالم الوقفات ... فنٌ قائمٌ بذاته لا يُتقنه كثير من الرواديد ...


كتبت قصيدة للرادود حسين سهوان ... يا صاحب الأمر ... لمتى تظهر ... خرج بها الموكب في ذكرى وفاة الإمام العسكري (ع) ... بعد إتمامه لإلقاء المستهل ... حاول كثيراً الدُخول على الفقرات بما يُريد من لحن إلا أنه لم يُوفق ... وتشاء الأقدار أن تلقي بالمسؤولية عليَّ ...


كثيراً ما كنت أكتب قصائد على أوزان مُعينة وأحملها معي ... دونَ قصدٍ ولا ترتيب لإلقائها ... في تلكَ الليلة تشاء الأقدار أن تكون إحدى تلك القصائد في جيبي ...


اعتذر حسين سهوان عن مواصلة الموكب ... لفقدانه لحن الفقرات ... تقدمت وألقيت القصيدة ... من فرقة الوالي ... قلبي تمرمر ... لحن المستهل يتفق كثيراً مع أغنية لناظم الغزالي ... للأسف لم يكن الأمر مقصوداً ... لكنه جرى حيث لم تكن القصيدة مُعدة للإلقاء أصلاً ... إلا أنَّ لحن الفقرات بشجاه استولى على مشاعر المُعزين وحرّك فيهم التجاوب الوجداني ...


ومن خلال سماع الأشرطة لتلك الحُقبة المنصرمة تمرُّ في آذانك أصوات (رنين) النساء وهُنَّ يستقبلنَ الموكب أثناء مروره في الطريق ... لم أستقصي هذه الظاهره من أطرافها ... ولم أسأل عن سبب لهذه الظاهرة ... إلا أنَّ الظاهرة بذاتها تُترجم ذاتها ...


حين تصل أصوات الموكب وتعيها النساء الجالسات على جوانب الطريق ... يبعثنَ بأصواتٍ لها نغمة شجية تُعبر عن تفجعهنّ للذكرى ... وتدل على مواساتهنّ لأصحاب المناسبة ... لهذا لا تجد في تلكَ النسوة متفرجة أو متبرجة ...كُلهنَّ جئنَ للمواساة ... وهُنَّ بعكس ما تعودت عليه فتيات أيامنا هذه من زينة وعدم حشمة وعدم احترام للذكرى ..

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع