شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (18) - تلكَ قصّة النُعوش

عَمدت الدُنيا على تجديد دمائها بين كل حين وحين ... فعلى مدى الأحقاب المُتتالية تمرّ وجوه وترى وضاءتها ثم تخمد جذوتها وتمر ... تلك سنّة دائمة في الأرض ... صعودٌ ونزول ... المُجدون في أماكنهم يسعون ليضعوا تغييراً فيما يستلمون يحول مواقعهم للأفضل ... الخمول يقتل المواقع كما يقتل أصحابه ... وبالهمم تنقل الجبال من أماكنها .


بناء على ما فات كانَ لِزاماً على المخلوق في كل مرافق حياته التعمير والإنجاز قبل أن تستبدله الدنيا بآخرين يكفرون بوجوده في موقع ما كانوا في زمنٍ ما ...


لا زالَ (جميل العرادي) مُبدعاً في الموكب ... مُتحملاً معنا أعباءه في الوفيات ... وفاة الإمام موسى الكاظم عليه السلام ... يختلف إحياؤها عن الوفيات الأخرى ... مُلابسات اغتيال الإمام لها وقعٌ خاص في الوجدان الشيعي ...


لأنه الإمام الوحيد الذي ماتَ في المعتقل ... تتبعته السلطة العبّاسية منذ بروزه كقيادة للعلويين ... وأصبحت تراهُ في خيالها يضعضع أركان دولتها ... وطبيعيٌ من دولةٍ تقوم على عدم احترام الحقوق أن ترى في المدافعين عن حقوق الضُعفاء خصوماً لها ...


أُودعَ الكاظم (ع) في سُجون الرشيد المُتعددة ... تتعدد وتتنوّع السُجون والهدفُ واحد ... أن يُخفُوا مآثرهُ عن الأسماع والأنظار ... على مدى سنواتٍ طويلةٍ رافق الإمام موسى الكاظم (ع) قُيودَ سَجَّانيه العبّاسيين ... حتى دسُّوا لهُ السُمّ وهو رهن معتقلهم ... بحياة هذا الشهيد السجين أصبحَ سُجناءُ الشيعةِ السياسيون يتّقوونَ ويتزودون من ذكراه مقاومة تُوهنُ القيودَ وترهقُ الجلادين ...


في ذكرى وفاته يخرج الموكب إلى جهة الشرق ... ثم تقام تمثيلة بسيطة يقوم فيها (السيد مرزوق العلوي) بدور الطبيب ... الطبيب الذي فحص كف الإمام حين أخرج مغللا في نعشه .... فأخبرهم بموته مسموما ... ثم يسير الموكب مُصدراً بنعش تحيطهُ القيود ... تعبيراً عن جنازةِ الإمام الكاظم (ع) حينَ أخرجُوها من السجن مُصفّدةً في الأغلال ...


ولا تجد أثراً للأغلال أثناء المواكب إلا في هذه المناسبة وفي ذكرى السجاد الأسير ... في ذكراه يلبس الحاج (عبدالني السجّاد) رحمه الله لباساً يُمثل به شخصية الإمام السجّاد (ع) ... وعلى جسده القُيود ... وهو على دابته ...


ولكثرة ما أجاد الحاج عبدالنبي دور الإمام الأسير السجاد ... الْتصق به اللقب ... وصارَ يُسمى بالسجّاد حتى توارث اللقب أبناؤه وأحفاده ... فنعم اللقب ونعمَ النسبة ... أجادَ تقمص الدور فأجادَ اللطف الإلهي عليه بلقب سيّد الساجدين ...


الموكب كانَ يؤدى بطريقةٍ تتمثل في حلقتين متتابعتين ... لكل حلقة مستهل منفرد عن الحلقة الثانية ... عندما تنتهي حلقة من ترديد مستهلها تُقدّم إشارة للحلقة الأخرى بالإنتهاء ... والإشارة عبارة عن كلمة (يا علي) ... حتى تُكمل طريق الموكب بهذه الطريقة وبدون نزع الملابس ...


في عام 1405هـ طوّرت الطريقة السابقة إلى موكب متكامل يبدأ من الداخل ويكمل مسيرة الموكب خارجاً بقصيدةٍ تامة .... كتبت قصيدة لجميل العرادي مطلعها ... ضجة وصوت الأملاك تنادي الله أكبر ... بهذا انتقل الموكب من مرحلة ترديد المستهلات إلى القصيدة التامة ... ويبقى النعش يتقدم الموكب بأغلاله كالمعتاد في ذكرى وفاة الإمام الكاظم (ع) ...


أمّا في ذكرى وفاة الإمام الحسن الزكي (ع) ... فعادة ما يبرزالنعش مُخرَّقاً بالسهام ... السهام المصنوعة من جريد النخل الطري ... تُصنع على هيئة سهام لها نصل وذيل كالريشة ... أحياناً يضع المصممون صبغاً أحمراً يوحي بإصابة رأس السهم لجسد الإمام الزكي (ع) في نعشه ...


يخرج النعش بتلك الهيئة تجسيداً لمظلومية الحسن الزكي (ع) ... حيث أمرَ مروان بن الحكم برمي نعشه بالسهام دونَ حياءٍ أو خجلٍ من رسول الله (ص) ... كل هذا حين حرضتهُ عبارة ... لا تدفنوا في بيتي من لا أُحب ....


في الوفيات الباقية يخرج النعش مكللاً بأعوادِ المشموم ... والرائحةُ النفاذه تعبق منه في الأرجاء ... المشموم بالذات ... لكوننا نعلم ونجد القبور في مقابرنا تُغطى بباقات المشموم ... وحين يعتني أهل الميت بقبر فقيدهم يترعونه بأوراق المشموم ... وعند كل زيارة يجلبون باقة جديدة يُضمخون بها تراب القبر قبل الجلوس عنده .


نحن نتعارف على تسميته بالمشموم ... أمّا اسمه في اللغة فيسمى (الحبق) ... ولكثرة ما ارتبط اسمه بقبور الموتى قلت في أحد الموشّحات ... جيبو لي مشموم باخلي اعلى قبره ... خطاب على لسان السيدة زينب (ع) حين وصلت إلى قبر أخيها ...


وفي أيام عاشوراء لا تستخدم النُعوش في حمل الأجساد ... تلكَ النعوش المطرزة بالقماش الفاخر ... في عاشوراء تُحمل الأجساد فوقَ تابوت بلا أطراف تُغطيه ولا سقف يحجبه ... لترى الأنظار ما نال تلكَ الجسوم من طعن وسهام ...


تختلف النعوش ... يختلف ما عليها ... يوماًَ ترى سهاماً ... ويوماً تحيطها القيود وآخر مكشوفة معراة ... ويبقى محتواها واحد ... ذواتٌ نذرت أنفسها لخط الله وتلكَ قصة النعوش ....

التعليقات (1)

  1. avatar
    أبوسلمان

    ذلك غيض من فيض وذلك تأريخ ناصع البياض مرهف الاحساس نقي الموقف والشعار خالص النية ؛ لذلك كان ما كان خلال سنوات قليلة وبوتيرة سريعة سرعة طي الأرض للصالحين كان التوفيق في الألحان والقصائد وووو وبرز من برز من المخلصين على مدى سنين متوالية حتى كان ما كان..!!!!!فالحمد لله على كل حال.

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع