شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (16) - محض تجارب وتكهُنات

لكلِ منتج صاحبُ إنتاج يعمل على تطويره ... الإنتاج لا يمكن أن يتقدم في الجودة دون تحسين ... الجودة حسنة مطلوبة في كل الأعمال .. هي العطر الزكي المتضوع حول العمل ... وهي الذكرى الحسنة من كل عمل ... فتحية حارة للمجهدين أنفسهم لتقديم أرقى الجودة ... حتى المعاملة تدخل الجودة فيها ... الكلمة الطيبة تأسيس لمبدأ الجودة ... اللطف في معالجة الأمور خطوةٌ في هذا الطريق ...


في الثامن من المحرّم الحرام ليلاً عام 1404هـ ... عليَّ تقديم قصيدة في موكب المسير .... بدأ الموكب وبدأت في ترتيل المستهل ... يبدأ المُعزُّون يتحركون مشياً ... على يميني أحد الآباء الكبار سمع المستهل ... بالتأكيد لم يرق له ... ينهض مع الثوّار ويصلح بوضعه ... كبارنا يمتعضون من المفردات الناتجة عن تصريف ثورة ...


جميعها مفردات مرعبة تبعث على القلق ... كعادتهم في ذلك الزمن الضيق ... غافلين عن دورهم في إقامة مراسم تعزية لشهيد قام بثورةٍ ضدَّ حكومةٍ فاسدة ... كأنّهم في غيبوبة ... بل إنهم يعرفون الحسين بتلكَ الدمعة المتساقطة من أجفانهم ... ولا شأن لهم بثورته ونهضته ورفضه ... الفهم القاصر وما أدراكَ ما الفهم القاصر .


بدأ اللاطمون يوقعون كفوفهم على إيقاع المستهل ... سمعت الكلمات مباشرةً في صيوان سمعي ... أهذه قصيدة ؟!... قالها كالرصاصة وقعت عليّ ... مع إطلالة القصيدة مواجهة ... لم أحملها على محمل يعيث في نفسي إحباطاً وتثبيطاً ...


ألقيتها خلف ظهري ورحت أقدّم قصيدتي بكل ثقة ... ولو أني حملتها وبقيت أستعيدها طِوال طريقي لكانت سبباً في إفشال عزيمتي وانتصار اليأس على إرادتي ... وبما صنعت كانت النتيجة قصيدة من القصائد الناجحات ...


لهذا أقول .. الجمهور يصنع الرادود بإعطائه الفرصة تلوَ الفرصة ... والرادود الكفؤ لا يمكنه النجاح في أوساط جمهور يبرز له سيف التوهين والنقد ... فإذا رأيت رادوداً ناجحاً فهناك خلفه جمهور يُجيد التشجيع... ومتمكن من تنمية قُدُرات رادوده ... وهذا هو دور الجمهور الأول... أن يصنع الرادود حتى إذا ما اكتمل سار لصنع آخر ...


في يوم التاسع أنشدت قصيدة ذات قافية واحدة ... هيَ والله الشهادة ... وليس خطأ أن أنقد النص وأظهر ما فيه من ضعف ليكون دليلاً للمتطلبين الطريق الصحيح ... القافية تتردد بين كلمات مثل (الشهادة) و(عبيده) وواضحٌ ما في الكلمتين من مُفارقات واختلاف في نظام القافية .... أهل القافية لا يقبلون إلا بكلمة من نفس الوزن ... الأولى تظهر فيها الألف والثانية تبرز فيها الياء ...


وفي أرض الموكب وعلى تلك الرُبى الواسعة تتسع المدارك ... وتتفتق المواهب ... أحد الرواديد الناشئة شجّعناه على هذا الطريق ... ولكن أصابع التردد تسحبه للوراء ... يُعاني من مشكلة ... هو ألثغ ولا يتمكن من لفظ حرف الراء بسهولة ... مما اضطرني أن أكتب له قصيدة يلقيها في داخل المأتم ... القصيدة بأكملها مُجردةٌ من حرف الراء ... المهمة سهلة إلا أنها تحتاج إلى عناء وتأن ٍ في انتقاء الكلمات .


(حسين سهوان) أيضاً بدأ معي في نفس المرحلة ... كتبتُ له مجموعة قصائد بحسب ألحان وأوزان هو طلبها ... منها ... سنرى من ينتصر ... هو أم جيش الكفر ... في داخل المأتم .... أما بالخارج فلقد كتبتُ له أيضاً عدداً لا بأس بهِ ...


منها ... يا بشير يا نذير ... الهدف الأوحد الأكمل هو إخراج الموكب صحيحاً بجهودٍ متظافرة ... البذل متنوع ومُتبادل ... لا نجدُ شحاً في نفوسنا ... ولا حسداً في قلوبنا ... ولا نجدُ إلا توادداً وأنفاساً تتنافس في تقديم المزيد .


في ذكرى وفاة الإمام الرضا (ع) أعددت قصيدة بعنوان ... الرضا مات بخيانه قتلته أهل البدع ... جزء يسير من الطريق سرت باللحن كما أريد ... وبطبقة الصوت المطلوبة ... وعند المنتصف فقدتُ السيطرة على طبقة الصوت ... لم أتمكن من إخراج اللحن من نفس الطبقة الأولى ... كلما حاولت لم أتمكن ...


لم أتمكن إلا من تقديم اللحن بطبقة القرار ... وهي طبقة تقتل التفاعل الموجود في اللحن ... التحكم في الحنجرة فن ... ليس كل صاحب صوت يتمكن منه ... والإمساك بزمام طبقات الصوت ملكة وقُدرة تكتسب بالممارسة ... حينها كانت الخبرة لدي ولدى الرواديد من حولي قليلة شحيحة ... أن تكون في الموقف ذاته أمرٌ مُحرج...


كل ممارساتنا في الموكب محض تجارب وتكهنات ... لا نمتلك إثباتات مسبقة نعتمد عليها ... ولم نتلقَ دروساً من سابقين ... ولا توجيهات من ممارسين ... طبقة الصوت من الممكن بل من المؤكد أنها تنقل القصيدة من مستوى لآخر ... طبقة تجعل القصيدة في وضع اعتيادي ... وطبقة تلهب كيان المستمع والمشارك بالفاعلية .


المدة الفاصلة بين وفاة الإمام الرضا (ع) والأربعين ليست إلا ثلاثة أيام ... ليلة الأربعين التقيت الرادود (جميل العرادي) ... منذُ أن كان صغيراً اقتصرت مشاركاته على موكب الزنجيل ... لم يشارك في موكب اللطم ... وبقصد المزحة الأخوية والملاطفة قال:إذا احتجت لي للموكب فأرسل لي... أنا في موكب الزنجيل ...


وبدأ موكب المسير بقصيدتي ... من اليسر جيتك يبن أمي يا مظلوم ... وبدأ واضحاً فلتان زمام التحكم بالطبقة ... صرت أرفع صوتي بدرجة النشاز ... الطبقة التي لا تبقي من جمال وفاعلية الصوت شيء ... لقد بدأت البحة في الصوت وبدى تشنج الحبال الصوتية ... وكنت ألحظ أحد المعزين اللاطمين يشير لي بتخفيض الصوت بحركات من أصابعه.


ولكن الأمر مقدر بإرادة ربانية ... وكما نطق الصدق على لسان الرادود جميل ... بعثنا له رسولاً يطلبه على الفور ... سلمته الميكرفون مقراً بعدم مقدرتي على المواصلة ... وأكمل ثلثي الطريق بقصيدة من أروع القصائد العراقية ... إهنا ياجابر صار ... حرق الخيم والنار ... ماتنطفي جمرتها ... وبصوت لا يختلف عن الأصوات العراقية المفعمة بالجمال إلا الجنسية البحرانية ...


هناك كانت الإرادة الإلهية حاضرة ... لتوجد كفاءة أخرى سيكون لها دور بارز في الموكب ... أما تجربتي مع الصوت فأعطتني حافزا لأتحكم في طبقات الصوت ... وأتجنب الوقوع فيما وقعت فيه في مناسبتين متتاليتين....

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع