شارك هذا الموضوع

حديث الجمعة: معنى قوله تعالى: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ﴾

حديث الجمعة: معنى قوله تعالى: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ﴾(1)
 
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد
 
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم وافتح علينا أبواب رحمتك وأنشر علينا خزائن علومك ومعرفتك.
 
قال تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا...﴾(2).
 
الحديث حول الآية المباركة يقع في محاور:
المحور الأول: معنى الظن:
الظن نوع من الادراكات الذهنية كما أن الاحتمال والشك واليقين كذلك، فهي جميعاً تشترك في أنها أحكام تُحمل على القضايا التي تنطبع في الذهن فحينما تنقدح في الذهن، قضية من القضايا العقلية أو الخارجية أو غيرها فإن الذهن إما أن يحكم على تلك القضية بأنها مظنونة أو محتملة أو مشكوكة أو متيقنة.
 
ومنشأ الحكم على القضايا بواحدٍ من هذه الأحكام الإدراكية الأربعة هو مرتبة وضوح القضية في الذهن، فإن كانت هذه القضية أو تلك من الوضوح بمستوىً لا يشوبه أيُّ ترددٍ وإن كان ضئيلاً فتلك القضية تكون متيقنة وذلك الوضوح هو المعبَّر عنه باليقين.
 
فاليقين هو الوضوح والانكشاف التام المُنتِج لإذعان النفس بصوابية هذه القضية أو تلك والجزم بمطابقتها للواقع.
 
ومثاله في الأمور الحسيّة هو اليقين بوجود الشمس واليقين بوجود الشجر والحجر، فقولنا (الشمس موجودة) قضية من القضايا الحسيّة  أي المُدرَكة بواسطة واحدٍ من الحواس وهو البصر.
 
فحينما تنقدح هذه القضية في الذهن نجد النفس مذعنةً بصوابيتها، ومنشأ هذا الإذعان هو أن مرتبةَ وضوحِ صدقها ومطابقتها للواقع لدى الذهن تامة أي أنّه وضوح لا يعتريه تردد مهما كان ضئيلاً، ذلك لأن وسيلة الوصول لهذا الوضوح هو المُدرَك الحسِي أعني البصر، فلأنَّ البصر من الأدلة الحسيّة القطعية كانت القضية المُستفادة عنه بمستوى اليقين.
 
ويمكن التمثيل لليقين للقضايا العقلية بقضية أنَّ الواحد نصف الاثنين وأنَّ الأربعة من الاعداد الزوجية وأن الخمسة لا ينقسم على اثنين، فهذه قضايا يقينية، ذلك لأن درجةَ وضوحها لدى الذهن تامة فهو لا يتردد في صوابيتها وصدقها ومطابقتها للواقع.
 
وباتضاح معنى اليقين يتضح معنى الظن في الآية المباركة، فالظن هو مرتبةٌ من الوضوح والانكشاف إلا أنها مرتبة لا ترقى لمستوى نفي الاحتمال، فالوضوح في حالات الظن ناقص والانكشاف في حالاته غير تام، لذلك لا تُذعن النفس بصوابية القضية المظنونة بل هي معه مترددة تحتمل الصواب والمطابقة للواقع وتحتمل الخطأ وعدم المطابقة للواقع.
 
إذنْ فكلُّ خبرٍ يحتمل المطابقة مع الواقع ويحتمل عدم المطابقة للواقع فهو خبر مظنون، وكل قضية أو نظرية محتملة الصواب ومحتملة الخطأ فهي قضية أو نظرية مظنونة.
 
غايته أنَّ احتمال الصواب والمطابقة للواقع قد يكون راجحاً وقد يكون مرجوحاً، وقد يكون احتمال كلٍّ من الخطأ والصواب متساويين.
 
والمناطقة يُطلقون عنوان الظن على الصورة الأولى، وهي التي يكون فيها مستوى الاحتمال راجحاً، فإذا كان احتمال الصواب راجحاً كان الصواب مظنوناً، وإذا كان احتمال الخطأ هو الراجح كان الخطأ مظنوناً.
 
ويُطلق المناطقة على الاحتمال المرجوح عنوان الاحتمال أو الوهم، ويطلقون على حالة التساوي بين الاحتماليين عنوان الشك.
 
أما الآية المباركة فاستعملت عنوان الظن في الحالات الثلاث، فكل ما لا يكون يقينًا فهو ظن سواءً كان الاحتمال هو الراجح أو هو المرجوح أو كان الاحتمالات متساويين.
 
المحور الثاني: الظنُّ السيء والظنُّ الحسن:
 
الملفت في الآية المباركة أنَّها لم تنه عن مطلق وإنما أمرت بالاجتناب عن الكثير من الظن ووصفت بعض الظن بأنَّه إثم، وهو ما يعبِّر عن أن بعض الظن ليس مبغوضاً ولا يترتب عليه إثم، فما هو الظنُّ الذي يترتب عليه الإثم وما هو الظنُّ الذي لا يكون كذلك؟
 
والجواب هو: إنَّ الظن بمستوياته الثلاثة التي ذكرناها ليس مبغوضاً في حدِّ نفسه وبقطع عن متعلَّقه أي بقطع النظر عن القضية المظنونة، فهو إنما يكون مبغوضاً ومستقبَحاً بلحاظ متعلَّقه، فحينما تظنُّ بمؤمن سوءً فذلك من الظنٍ المبغوض والمُستقبَح، أما حينما تظنُّ بالمؤمن خيراً مثلاً فهذا من الظنّ المحبوب لله تعالى، فالظن المنهيُّ عنه في الآية المباركة هو ظنُّ السوء بمَن لا يليق به ذلك بحسب ظاهر الحال. فما يليق بالمؤمن مثلاً هو اجتناب المحرمات، لذلك يكون الظن في ارتكابه لمحرمٍ من المحرمات من ظن السوء. فالآية المباركة تنهى عن هذا النوع من الظن وتصفه بالاثم، ومعنى ذلك أنَّ كلَّ احتمالٍ يطرأ في الذهن ويكون مفاده نسبة أمر مُسيءٍ لمَن لا يليق صدور السوء عنه يجب عدم التعويل عليه وترتيب الاثر إزاءه من تشهيرٍ أو اهانةٍ أو إعراض أو غير ذلك بل يلزم المؤمن طردُ هذا الاحتمال عن نفسه ما أمكنه ذلك وعدمُ السعي لتأكيده وايجادُ المبررات والمحامل المُفضية لتفنيد هذا الاحتمال وتبديده.
 
وهذا هو معنى قول أمير المؤمنين (ع) "ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولاتظنَّن بكلمةٍ خرجت من أخيك سوءً وانت تجدُ لها في الخير محملا".
 
وهو معنى ما ورد عنه الرسول الكريم (ص) "اطلب لأخيك عذراً فإن لم تجد فالتمس له عذراً".
 
فظنُّ السوء وان كان في أعلى مراتبه نظراً لقوة أماراته التي نشأ عنها فإنه مما لايصحُّ التعويل عليه، فلا مبرر شرعاً لاتهام أحدٍ بسوء بعد هذه الآية المباركة إلا ان تكون التهمة من الوضوح بمستوىً لايكون معه تردد وان كان ضئيلاً، وحينئذٍ لايكون الإنسان المؤمن في فسحةٍ من اتخاذ أيِّ موقفٍ شاء بل يلزمه اعتماد الضوابط المقرَّرة شرعاً لمثل هذه الحالات.
 
وبما ذكرناه يتضح منشأ التوصيف في الآية المباركة لبعض الظن بالإثم، إذ أنَّ ثمة ظناً لايكون اثماً بل هو محبوب لله تعالى نظراً لما يترتب عليه من آثار تُساهم في تقويم البناء الاجتماعي، وهذا النوع من الظن هو ظنُّ الخير والصلاح بمَن لا يليق منه إلا ذلك.
 
لذلك حضَّ القرآن على هذا النوع من الظن، قال تعالى: "لولا اذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا افك مبين"
 
فالقرآن الكريم في هذه الآية المباركة يحضُّ المؤمنين على انْ يظنَّ بعضُهم ببعض خيراً وان لا يُصغي أحدُهم لتهمةٍ اشُيعت على أحدٍ منهم بل عليهم ان يبادروا لوصف كلِّ تهمة لمؤمنٍ أو مؤمنةٍ بالإفك والبهتان.
 
وقد ورد أنَّ منشأ نزول هذه الآية المباركة هو أنَّ بعض الناس اتَّهم إحدى نساء النبي (ص) بالفاحشة، وهي السيدة مارية القبطية أم إبراهيم (ع) فأشاعوا هذه التهمة، فاستاء رسول الله (ص) من ذلك أشدَّ الاستيلاء، فأمر عليًا (ع) بأن يذهب بالسيف فيقتل الرجل الذي اتُّهم بالفاحشة مع السيدة مارية (ع) ولم يكن أمرُ رسول الله (ص) بذلك جدَّيًا وإنما كان لغرض اظهار كذب هذه الشائعة ونفي التهمة عن هذه السيدة المظلومة.
 
لذلك قال رسول الله (ص) لعليٍّ (ع) حين بعثَه وقد سأله علي (ع) فقال له: يا رسول الله أكون فيما أمرتني كالسِّكة المحمَّاة على النار أو الشاهد يرى ما لا يراه الغائب، فقال له رسول الله (ص) بل الشاهد يرى ما لا يراه الغائب.
 
فأقبل علي (ع) وسيفه في يده فرآه ذلك الرجل المسمَّى بجُريح ففزغ من علي (ع) فصعد نخلةً كانت قريبة منه حتى بلغ رأسها وانكشفت حينذاك عورة جُريح فتبيَّن أنه ممسوح، ليس له ما للرجال فقال له علي (ع) انزل فإنك آمن على نفسك، فأخذه علي (ع) إلى رسول الله (ص) فأوقفه بين يديه، وقال يا رسول الله إنَّ جُريحاً خادم ممسوح فولَّى النبي (ص) بوجهه إلى الجدار وقال لجُريح اكشف عن نفسك لمن اتَّهمك حتى يتبيَّن كذبهم ويحهم ما أجرأهم على الله ورسوله.
 
نستكمل الحديث فيما بعد إن شاء الله تعالى
والحمد لله رب العالمين

التعليقات (1)

  1. avatar
    0o فهد طراده o0

    نشكر سماحه الشيخ محمد صنقور على المحاظرات القيمه ....و نتمنى له التوفيق الدائم ....

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع