شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (14) - إعداد ذاكرة اللحن

الذاكرة مَخزنٌ واسع ... يتّسع للكثير مما تُفرزه الحياة ... من صغائرها وكبائرها ... في هذا المخزون تلاقي كل ما اقترفت من كلماتٍ وأفعال ... وكل ما اقترفه الزمان بحقك ... كل ما تعتقد زواله وذهابه موجود فيها ... تحتاج لشفرات لاستخراجه ... نعتقد بفناء بعض التفاصيل ... لكنها لا تعدم ولا تزول ...


هي في الذاكرة الخفية لحسنا ... نحتاج لجُهدٍ وتنسيق لاستخراج ما نُريد... ونحتاج لتنظيم في الحفظ لنتمكن من الحصول على ما نريد وقت ما نريد ... وبضياع شيء ما منها ندخل في دهاليزها المُعقّدة ... ولا نجد ما نريد إلا بشق الأنفس ...


الألحان تحتاج لحافظةٍ واعية مُدركة لتحفظ تفاصيلها ... نصنع اللحن ونجري تسجيله في شريط ... حيث نعيد تكراره على الأذن ... وهي بدورها تحمله للعقل الباطن يحفظ تفاصيله ... في الأيام الأولى من تلك المرحلة ... صرت أضع نصاً وألحنه بأكثر من لحن ثُمَّ أختار أجملها... لتكون فرصة التلحين حقيقية ...


الإعتماد على أول ما تفرزه الموهبة عادة ما يكون ضعيفاً ... أيضاً في ابتكار الألحان هُناكَ إبداعٌ ومَلَكة وفنٌ وإلهام ... من أدمن صُنع الألحان ليس كمن يتردد عليه بين فترات مُتباعدة ...


في وفاة الإمام الحسن الزكي (ع) من عام 1403هـ أعددت قصيدة بمطلع يحكي لسان الحال عن الإمام الحسن (ع) يقول ... حرموني العدا ياحسين ... فجعوني العدا ياحسين ...


بعد خروج الموكب ونهوضه من الهوسة استرسلتُ في الاستعداد لإلقاء المستهل ... شغلت نفسي بتوجيه الجمهور للموكب ... فرَّ اللحن من حافظتي ... تفاجأت بنفسي أنشدُ لحناً لا يحملُ عُذوبة اللحن الأصلي ... وإن لم يكن سيئاً ... أنقذني من الموقف أنَّ الموكب يتوقف بعد خُطوات وجيزة لتأدية الهوسة ... أثناء تأدية الهوسة استعدت في ذاكرتي اللحن الأساسي ...


بعد نهوض الموكب استأنفت الإلقاء بلحني الحقيقي ... التجربة بحد ذاتها مع بساطتها إلا أنها مُخيفة ... مخيف أن تفقد ما أجهدت نفسك في حفظه ... ومخيفٌ أن تحرك الموكب بلحن يقودك ولا تقوده ... ومطلوبٌ منك تأديته طول الطريق وليس بين توقفين ...


الجمهور ليس من شأنه ما تبذله من عناء في حفظ اللحن ... هي إذن مهمة الرادود ... وعليه إيجاد الطُرق المُثلى للوصول إلى النتائج الأفضل في مجال الحفظ ... ولِكل مَلَكَتهُ في هذا المجال ... البعض بطيء الحفظ لتصادم أنماط الألحان في ذهنه ... والبعض بمجرد السماع لمرة أو مرتين يتمكن من حفظ اللحن ... وهم قليل ...


ولعمري نحن لا نملك صفحة نوتة كالموسيقيين .... تُسهل علينا الوصول للحن دون هذا العناء ... ولكن لا بُدَّ من إيجاد الطريقة السهلة لهذا الأمر ...
أيام تلك أعطتنا تجارباً كثيرة ... كُنّا نلقى القصائد بالسليقة ... دون وعي لمواقع الكلمات في النحو العربي ... وهذا ما كان يسبب اضطراباً في المعنى أحياناً ... فترى أحدنا يتردد بين نصب الكلمة ورفعها ... تارةً يرفعها وأخرى ينصبها ... يبحثُ عن الصواب في الوجهين ... وهي تجربةٌ على الرواديد الجدد تجاوزها ...


وللأسف لم يكن هناك من يُوجّه ويُصلح هذه الأخطاء ... كأنما كُنّا في غيبوبةٍ عن لغتنا ...وكثيراً يصدر منا استخدام القصائد الفصحى ... أحياناً كثيرة أيضاً نمزج بين اللهجة الدارجة والفصحى ... وهو ما يروق لبعضهم تسميته (بالتشجير) ...


تفنن وبراعة في دمج النوعين في نص واحد ... يُعطي للهجة الدارجة مساحتها من تقديم النص الدارج ... ويقدم النص العربي بألفاظه المضبوطة شكلاً ... وفي العربية ما ليس في الدارج من بُعْدِ المعنى وسعة المعاني ... وفي الدارجة ما ليس في العربية من استيعاب الحالات الشعبية أكثر ...


فلو استوعبها الشعر الفصيح تبقى الكلمات عاجزة عن مُحاكاة واقعية الكلمات الشعبية ... بهذا النوع تستكمل القصيدة مراحل قوّتها في الشعر الحُسيني ...


أبَّان تلكَ السنين الغابرة لم يكن إحياء وفاة الإمام الحسن العسكري (ع) إلا عملاً حديثاً ... استحدثه الشباب مُنذُ فترةٍ وجيزة فقط في مأتم (عبدالإمام) ... ألحَّ الشباب على إحياء وفيات الأئمة (ع) كاملةً ... أوّل ما تأتي وفاة الإمام الحسن العسكري (ع) في الثامن من ربيع الأول ...


وفي ربيع تخرج الناس من أحزانها ... مولية إلى الأفراح ... إلا أنَّ الشباب خرجوا لإحياء المناسبة لطماً ... ولما كان الحدثُ غريباً على المنطقة ... فتحَ أحدُ الكبار نافذة حُجرته مستطلعاً ما يجري في الخارج ...


سأل الشباب ما الأمر؟ ... وما هذا الموكب ؟. أجابوه بأنها وفاة الإمام الحسن العسكري (ع) ... أغلقَ نافذته وهو يقول ... دعوا هذا نحن في ربيع ... ربيع للأفراح ... ومرّت السنوات وأصبحت المواكب تُحيي وفيات الأئمة (ع) كاملة ..

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع