شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (13) - أجد حنظل الخُصومة

الاستفادة من تجارب الآخرين مصباحٌ لا ندفع ثمنه من جُيُوبنا ... الآخرون يدفعون الثمن ونحن نستمتع بالضوء ... وإن زعم جاهل اعتماده على نفسه دون الاستعانة بفوائد التجارب فذلك غرور مصيره إلى إضاعة الوقت ... لا نحتاج إلى برهان لنثبت غرق من لا يُجيد العَوم إذا سقط في الماء ... البشرية مجمعة على توارث الخُبرات من جيل ٍ إلى آخر ... وأنَّ الماضي يؤسس الحاضر ... والحاضر لَبِنَة في بناء المستقبل ...


جاسم ضحّى بدمه ... قصيدة من قصائد الإيقاع السريع ... إيقاعها لا يستوعب أكثر من ثانية بين الإيقاعين ... وقعها كالحركة العسكرية ... ولحنها يختم كلمة (جاهد) بتغريدةٍ تخرج من أقصى الحنجرة ... وكانت قصيدة أبرزتني للجمهور ... وأعطتني ثقة مضاعفة ...


ومع كثرة ترددي على سماع قصائد الرادود (عبدالرضا) ألقيت قصيدة داخل المأتم مستهلها ... لا يفجعوني ... وهو مطلع قريب من مطلع قصيدة (لعبدالرضا) ... استخدمت نفس اللحن ونفس الأسلوب .


كما هو معتاد لدى العراقيين ألقى (عبدالرضا) قصيدتين بنفس اللحن ... للقاسم واحدة وللأكبر الثانية ... هذا أمرٌ مستساغٌ لديهم ... وقد يكررون اللحن لمرّات ... ما دامَ فاعلاً ويوصل شحنات تفاعل في تموجاته ... لدينا الأمر مختلف ... قليل من يكرر اللحن بقصيدة جديدة ... نجد في تجديد الألحان تألقاً وخروجاً من شرنقة الجمود ...


ونجدُ في طاقاتنا مُتّسعاً لإعطاء المزيد ... حتى لو كان الجديد ضعيفاً إلا أنه بإعطائه الفرصة يمكن أن يكون قوياً ... وبرأيي متى ما تعاضد الجمهور على إنجاح شيء ما فسيكون ناجحاً لا ريب .


ولم نفتئ نستكشف الطاقات المخفية ... وقع اختيارنا على (عبدالله المعلمة) شقيق (حسن) لنقدمه رادوداً واعداً ... وبالفعل كتبت له قصيدة ... هكذا قال الإمام ... للأمام للأمام ... وأعقبتها بقصيدة على وزن ... جاسم ضحّى بدمه ... بمطلع يقول ... يا حسين العلى يبن فاطم ...ولا شكّ أنه كان موهبة قوية لو استمرّ في تأدية القصائد ...


كتبت له قصيدة ... ثار الأكبر سوى بالطف مجزرة ... وقصيدة أخرى من قصائد الحماس ... نصر نصر بيده الرايه ورافع صوته ... بيده الرايه ويتقدم ... ورافع صوته وما يهتم ...


هذه القصيدة أثارت حنق أحد كبار السن من أقربائه الإداريين ... كشّر في وجهه غاضباً وقال: إذهب ولا أريد رؤيتك في الموكب ... كانت الخشية من أعين الأمن الساهرة على ما يصدر من ميكرفونات مواكبنا ...


وما تعبت كفي من تسطير القصائد له وحثه على المشاركة في مأتم السنابس ... رغم سعيي هذا أصابع الاتهام لم تزل تلاحقني ... وبعد تلك الردة صرت خصما وهميا ... مع أني لا أحارب أحداً ... كنت برفقة بعض الرواديد نحضر مأتم السنابس كالمعتاد ... نقف ونلطم مع موكب الداخل إلى حين يأزف وقت موكب بن خميس نمضي ...


زعموا أني أحرض المشاركين على عدم المشاركة ... وما أظرفه من زعم ... إلا أن يكون دفعي لرادود للمشاركة وإسنادي له بالقصائد تعتبر تحريضاً بعدم المشاركة ...مضحكة التهم الباطلة... لا تتيح لمغفل تصديقها ...


مرة كنا حاضرين كالمعتاد ... ولا أنسى أنها ذكرى الأربعين ... أحدهم تبعنا من البوابة الكُبرى للمأتم وأصبح ظلا يرافقني .... مع أنّا كنا في الليل ولم تكن الشمس بارزةً حينها ...الحركة كانت ملفتة جداً ... وتبعث الغرابة ... الظاهر أنها إرهاصات أزمة ... أخذت تتفاعل وتكبر بعيداً عن ردّات فعل ٍ مني ...


في الأيام الباقية من السنة نُمارس دور قراءة الأدعية من خلال سمّاعات المأتم الثابتة ... كل ليلة لفرد منا نحن الممارسين لتأدية الأصوات على أسماع الناس ... ومن خلال نشاطنا في مشروع التدريس المقام في المأتمين ... ببركة جهود الأستاذ أحمد الإسكافي رحمه الله ...


من الصحيفة السجادية نقرأ تهجدات (زين العابدين) (ع) ... ومناجياته المشهورة ... يوماً ما كنت جالساً بانتظار حلول وقت القراءة ... فتح أحدهم باب قاعة المأتم ... توجّه إليّ بالخطاب ... سمّاني باسمي وعقّب قائلاً ... لا تُمارس أي نشاط في المأتم ...


يكفي الموقف للتعبير عن نفسه ... ولا يحتاج لتأويلات وفلسفة ... هُوَ الإقصاء التام ... وتحويلي إلى عدو ... ولكني مع مراهقتي لم أكن مؤهلاً للدخول في معركة الخُصومة ... ذلك لطبيعة تركيبتي في الموادعة ... والنُفور من العُنف ... وأصبحت الخصومة حنظلاً أجده في ريقي كلما تنفست ... إلى أن خفت حدّتها ...


وكعادتنا مع رفقة الموكب نتجول في مواكب العاصمة ... نرصد أعدادها ونستمع لألحانها ... وإذا ما وقع في مسمعنا لحنٌ استحسناه لم نجد ضيراً من صياغة النص في قالبه وإعادة تأهيله لموكب السنابس ... ويستوعب مرورنا بعض القرى كذلك ...


وتتالت المشاركات داخل مأتم بن خميس كأنما الوقت كان يضبط دقائقه بين الإنتقال من موقع لآخر ... حصلت على نصيب الأسد في الموكب ... في وفاة الإمام الحسن الزكي (ع) قدّمت قصيدة تبدأ ... يا حسين الحسن مسموم ... قلبه متفطر ومالوم ...


لحنها من الألحان النادرة ... يجمع بين العاطفة والحماس ... وهاتان صفان يندر تواجدهما في لحنٍ واحد ... الألحان إمّا عاطفي بحت مُجرّد من الحماس ... وإمّا مستوعب لخفقات الحماس مُلغياً العاطفة من أوتاره ...


أصل اللحن أخذته من قصيدةٍ (للملا عبدالعزيز) ... ألقاها في مأتم السنابس وفاتحتها تقول ... شيد الإسلام حيدر... قرع اللحن في نفسي مواقع الإحساس ... وصار يختلجُ في أعماقي ... وما هدأ حتى تجسّد في قصيدةٍ لرثاء الزكي (ع) ...

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع