شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (11 ) - من الجنوب إلى الشمال

عندما يكبر الشخص تتبدّل رؤيته للأحداث ... فما كنت تراه أبّان فترة المراهقة قد لا تراه صحيحاً وأنتَ تُناهز الأربعين ... فترة المراهقة فترة اكتساب تجارب ونضوج ... ونحن في تلك الآونة كفاكهة خضراء لا زالت لم يكتمل نضوجها ... وببلوغنا ما بعد العقد الثالث من العمر نعيد رؤانا في ما أسلفنا ... كثيراً ما نخطئها ونلومها ... ونوسع أنفسنا شجبا وغرابة مما صدر منّا ...


لا نجد طريقة صادقة نُشخّص بها اللحن الناجح ... تارة نعتقد بأنَّ القصائد ذات الأبيات العمودية مؤهلة للنجاح ... وأخرى على ما في اللحن من نفس جديد ... نُقلب الألحان وجهاً لآخر علّنا نجد مميزات النجاح ... ولا نجد شيئاً إنما هوَ التوفيق الإلهي ...


اللحن فن من الفنون ... يعبرك وتبقى مترنماً بجماله ... مأسورا بنغمه ... وبسكوت أو انشغال يغيب ولا تجد له أثرا ... يذوب كالشبح في الفضاء ... لا بُدَّ للحن من قيد تأسره به في وثاقك ... التسجيل الصوتي الحل الأمثل لعدم الهُروب من الذاكرة ...


كتبت (لحسن المعلمة) القصائد ولكثيرين أثناء ما كُنت أزاول الإنشاد في مأتم (عبدالإمام) ومأتم السنابس ... اتفقنا على قصيدة واحدة نُلقيها في المأتمين ... هو في مأتم بن خميس وأنا في مأتم السنابس ... ولم تشأ الأقدار نجاح هذا المشروع ... الفكرة راقية تبعث الأمل في التقارب بين المأتمين ... الشعراء قلّة وثلة نادرة في المنطقة في تلك السنوات ... أو لعله الخوف واراهم في جلابيبه ...


كتبت قصيدة أعطيتها للناشئ (علي المحرقي) ... أدربه على ألقائها في يوم السابع من المحرّم ... لم يكن يستوعب الطريق رادود واحد ... قد يتعاقب على إكمالها ثلاثة رواديد ... مطلع القصيدة خطاب من الإمام الحسين (ع) للعبّاس (ع) ... خويه راعي الشيم ... ألقى القصيدة في الثلث الأول من الطريق ... وعقّبت بعده بقصيدتي ...


أعترف أنَّ مطلعها كانَ صعباً بالنسبة لجمهورنا البسيط ... ولعلها من أكبر المشاكل أن لا يُراعي الرادود والشاعر المستوى المتواضع لثقافة الناس ... على صعيد المستهل ... الناس سيرددون المستهل ولا بُدّ من جعله مفهوماً وملفوظاً بسهولة ... أمَّا إذا كان على غير هذا ... فكل ما تعود به النتائج علينا صعب ولا نرتضيه ... كلما ساوق النص المستخدم في المستهل استيعاب الناس كلما كان ناجحاً ...


المستهل يقول ... يا ضيغماً يا نجماً ... سار ليمحو ظلماً ... راية محمّد رفّت ... وتسهيلاً للحفظ كتبت النص على قصاصات أوراق بحجم الكف ... ما يربو على خمسين ورقة وزّعتها على المُعزّين ... هذه الطريقة كانت سائدة آنذاك ... يستخدمها بعض الرواديد لتسهيل عملية نجاح القصيدة ...


طريقة لها في السلب كثير ...منها يعتاد الجمهور على الحفظ بالورق ولا يعمل حافظته بالطريقة المألوفة عن طريق تركيز السمع ... وتأخذ من الرادود جهداً ... وتشغل المعزّي عن العزاء بالانشغال بالقراءة ... فضلاً عن كونها طريقة لا يُفضلها الأُمّيون...


إيجابياتها أنها ترسخ في الناس النص صحيحاً ... فهم يقرأوونه مكتوباً ... ولا يتوهمون في النص أي خطأ يقودهم إلى اللفظ الخاطئ ... حيث أنّ هناك كثير من مطالع القصائد ترسّخت في أذهان المُرددين بخطأ لفظي ...


استمريت في تكرار المستهل على مسامع اللاطمين ... إلا أنّ النتيجة كانت قليلاً من الحفظ لا يتلاءم معَ الجهد المبذول من تكرار على الآذان ... وأوراق مكتوبة ... حتى لم يبق من الطريق إلا ثلثه وكأني أحاول تجفيف البحر ...


توقف الموكب بالقرب من الجبّانة (المقبرة) ... لتأدية دور الوقفة والهوسة ... عندما كنت نافذ الصبر حنقاً على إخفاقي في تحفيظ الجمهور ... أدرت رأسي للخلف ووضعت اللاقط في أقرب يد ورائي ... ووليت خارجاً من الموكب ... مُندسّاً في الأزقة عائداً إلى المأتم ... ملا (عبدالعزيز) رحمه الله قام بعبء إتمام الموكب ... لأنه جندي المهمات الصعبة الطارئة ...


انتهى موكب يوم السابع بنهاية مزعجة ... اعتبرها الكبار تمرداً من صغير لا ينبغي له الخروج عن الجادة ... وببساطة بريئة اعتبرت نفسي لم أجترح شيئاً يُذكر ... ولم أدرِ أنَّ فعلتي حرّكت الكبرياء في رؤوس القائمين على الموكب ...


جئت ليلة الثامن وكأن شيئاً لم يكن ... أحسب الأمور عابرة ... وإذا بأحدهم يقبل نحوي يزُف إليَّ خبراً ... جرى حجبي عن مُزاولة الإنشاد في الموكب ... قرار يحمل في جنبيه خلفيات مسبقة عن دوري ... لا يظهر من الحركة أنها تستحق هذا القرار المتعسف ...


مع افتراض كوني مخطأ ... كان الأجدر بهم الجلوس معي ... والاستماع مني لدوافعي ... وبين ما يرون فيه زللاً من جانبي ... وبعدها إن أرادوا اتخاذ القرار الصارم بشأني لربما كان لهم عذرهم ... ويبقى الكبار يفكرون بطريقة أنَّ الصغار المفروض أن يتصرفوا كالكبار ...ناسين أيام هم صغار كم أخطئوا مثلنا ...


أستطيع القول أنه قرار نقلني من معسكر الجنوب إلى معسكر الشمال ... من مأتم السنابس إلى مأتم بن خميس ... قرار لونني بلون معسكر تجاه معسكر في معركة لم أعش تفاصيل خلافها ... ولا ناقة لي فيها ولا جمل ...

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع