شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (8) - رجل يغريك بالاعجاب

البحث عن أسباب النجاح مرهق ... يكلف جهداً مُضنياً ... عندما يسود الاعتقاد أنّ النجاح في زاويةٍ ما وتكتشفه في غير تلك الزاوية تُصاب بصدمة ... الصدمة تعني فشل المعايير في تحديد دعائم النجاح ... الباحث عن النجاح كالصياد ... يلقي خُيوطهُ في البحر ... بلا أيّ معرفة لما سيأتيه من صيد ... قد يُقدّر نوع الصيد لمعرفته بالمكان ... ومع ذلك يبقى تقديره رجماً بالغيب إلى أن يستخرج خيوطه من البحر ...


النجاح فردوس غائب نبحث عنه في خِضمّ المشاركات بين النص واللحن ... ما قد تعتقد ناجحا وسيلاقي قُبولاً يُخيب أمالك وتكون النتيجة فشلاً ذريعاً ... ويكون الأمل صريعاً تحت وطأة الحظ والتوفيق ... وما إن يصرع أمل حتى يحيي أملاً آخر ... نضعه جسداً نعبر عليه إلى النجاح ...


كثير من الشباب قدّموا محاولات لدخول سلك الإنشاد الحسيني دون فائدة ... يبحثون عن النجاح في الوقت الذي لا يملكون به عيناً لرؤية النجاح ... المؤهلات الأولية استعصت عليهم ... الصوت الحسن ومَلَكَة التحكّم فيه أوليات غير موجودة فيهم ... وبفقدان هاتين الميزتين ... تبطل أية محاولة لصنع الرادود...


الموهبة الحقيقية تستطيع تلمسها من المشاركة الأولى ... والمواهب الأخرى بحسب مستوياتها تتردد في التقدم أو التأخر ... ومن الطريف أيضاً حتى من تجاوزوا الثلاثين حينها داخلهم التطلع ليصبحوا رواديدا... إلاّ إنها محاولات غريق في بحرٍ لُجّيٍ ليس له من النجاح إلا الأحلام ...


يمكننا أن نغفر لهذه المحاولات في ذلك الزمن ... لبعده عن تقنية النظام الإداري المحكم ... ولشبه الفوضى السائدة في ترتيب المواكب ... حيث لا جهة إشرافية أو تقييمية تتابع الرواديد ... ولكن مالا يكون في صفحة الغفران أن يستمر هذا الأسلوب إلى الآن ... بمجرد أن أرى في نفسي الرغبة الملحة لأكون رادوداً أقتحم الصعاب وأمارس هذه المهنة ولو لم أكن من أهلها ...


هذا أمر يدعو للعشوائية والفوضى المضرة ...حتى صاحبنا موسى رأى في نفسه القدرة على ممارسة دور الرادود ... ذهبَ وأفرغ قصيدة ... يحسين بضمايرنه ... من الشريط وجاء وألقاها في موكب المسير ... وأتم المسير بالقصيدة ... في النتيجة اقتنع صاحبنا بأنه يحاول إطرابنا بنغمةٍ نشاز ... والحمدُ لله أنه كفانا شر سماع ذلك النشاز ...


البعض يحمل بين جنبيه شخصية مرحة ضاحكة ... حركاته تغري البسمات بالبروز من الأفواه ....وتعابيره تثير الضحك من مخابئه ... هكذا شخصيته لا يناسبها دور الرادود لتعاكسها معه ... الرادود يؤدي دورا جاداً ينافي لدور المرح ... وهل يستطيع المستمعون والمعزون تناسي الشخصية الأولى أثناء دور الرادود ... يبدو هذا أمراً صعباً ... ويعود على الموكب بما لا يحمد ولا يطاق ...


استمرت مشاركاتي مع الشباب والكبار على حد سواء ... في أول الليل مع الشباب ثم أعرج لأتم المهمة في مأتم السنابس ... الطاقة كانت حافلة نابضة ... أعد قصيدة للشباب وأخرى للكبار.... علي إتمام مالا يقل عن نصف الطريق لدى الشباب ... وثلثه مع الكبار ...


في مأتم السنابس رجل يغريك بالإعجاب ... بهدوء جوارحه وصمته الوديع ... (ملا عبدالعزيز مشيمع) صوت نشأ في أحضان المأتم ... منذ صباه تعلق بالحسين ... تعلم الخطابة بجهد شخصي ... وجعلها مهمة من قسمين ... قسم للمنبر ... وقسم للموكب ... في محرم الحرام بالذات يصبح جندي المهمات الصعبة ...


كل الليالي من السابع إلى العاشر من محرم وبإضافة العصر هو من يملؤها بقصائده وموشحاته ... لا يكل ولا يعبأ بالتعب ... له صوت رخيم شجي ... وأسلوب مميز يختص به ... مع إنه ألقى قصائداً لرواديد كثيرة ... هو يجيد تقمص أساليبهم ... لكنه تمكن من التفرد بأسلوبه الخاص.... وحين خروج الموكب هو أيضاً من يسد النقص.


نحن تجد فينا العنفوان والرفض والمجادلة والمشاكسة ... أما هو فلا تجد إلا الوداعة والقبول والرقة من جانبه ... ماتريد منه فخذه ... وماتعطيه من رغبة فلا راد لها ... أما إذا جاء دوره كرادود فتراه صوتاً صداحاً يفرغ مكنون صدره في ألحانه ... وتراه يزأر بصوته في ألحان البسالة يدبج فيها ملاحم الشجاعة العباسية والبسالة العلوية ...


فلا عجب إن رأيت كثيراً من المعزين طبعوا حبه في شغاف قلوبهم وتعلقوا بما يقدم لهم من رثاء جميل لذيذ ... وغير منسي من الذاكرة مانقل عن المرحوم الرادود (حمزة الصغير) حين زار البحرين ... استضافته قرية الديه في موسم عاشوراء ليحيي لديها مأساة الحسين ... حين سمع (حمزة الصغير) صوت (الملا عبدالعزيز) أبدى إعجابه بقدرته وموهبته ودعى لتقدير هذه الملكات في شخصه ...


كذلك الخطيب (سيد عدنان البكاء) أثنى على أدائه وحنجرته وتحملها ... قطع شوطاً طويلاً في مهنة الرادود ... كان الكبار من الآباء وممن يعتادون على زيارة كربلاء المقدسة والنجف الأشرف يجشمون أنفسهم عناء جلب أشرطة الرواديد الجديدة ... كانت القصائد تسجل على أشرطة أسطوانية تستوعب أكثر من عشرين ساعة تسجيل ... بعد عودتهم يلقون بثمار سفرتهم من أشرطة عند الملا ... وهو بدوره يفرغ الأشرطة ويحفظ الألحان ولربما تفنن في استبدال الألحان أو الكلمات حسب الحاجة .


في الثمانينات أصبح عطاؤه في ذروته العظمى ... ولم يكتف بنفسه فدائياً في موكب الحسين (ع) .... إنما حث أبناءه جميل وشاكر وفيصل ليتقدموا في هذا الركب ... ولقد مارسوا تأدية المهمة لسنين ... نعم بهذه الشخصية أي نفس لا يأسرها الإعجاب ...


إنما نحن لا نقدر من يعيش بين ظهرانينا إلا إذا واراه التراب ... وبتقادم فقدانه يصبح أغلى ... وفي الأكثر لا نملك تكريما سوى الرحمات ... فهي جهد العاجز ... أسفي كبير لكوني لم أكتب للملا سوى قصيدة واحدة أجرى تلحينها وألقاها ليلة السابع من المحرم قبل وفاته رحمه الله بسنوات ... يبو فاضل هاك العلم طب الشريعة..

التعليقات (2)

  1. avatar
    محمد

    حياتك كلها فناتك وهذ فتنك جديد من عندك

  2. avatar
    جعفر

    ماهذه الذكريات ابوعلي هل انت في الطرق للاعتزال والوقف عن خدمة أهل البيت

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع