شارك هذا الموضوع

تجارب موكبية في سيرة رادود (6) - في مأتم الكبار

الصغار لا يبقون صغاراً إلى الأبد ... كما قال الإمام ... أنتم صغارُ قومٍ يُوشك أن تكونوا كبارَ قومٍ آخرين ... الصغار بتطلعهم لتقمص أدوار الكبار يعدون أنفسهم لحمل مسؤوليات الكبار ... وما تمتاز به مواكبنا هذا المزيج المُعقّد من العلاقات ... فالكبير إلى جانب الصغير يلطمان ... الصغير يُوقر الكبير والكبير يُعطي بدوره زخماً من التجارب للصغير ... يفرح الكبار بصوت الفتى الصغير لأول وهلة يُطل بصوته عليهم ... يستبشرون بموهبته ويُضفون عليه من تشجيعهم قوّة واندفاعا ...


بمعرفتي برياض يوسف أتاح لي فرصة المُشاركة في مأتم السنابس ... الارتباك يختلجُ في صدري ... الوقوف في حلقة الموكب بين الكبار كدخول الحُجرة المُظلمة ... تدخل في فراغ قاتم ... تجهل ما تُواجه ... بخبرة بسيطة تواجه طوفاناً من التجارب ... ولا بد من هذه التجربة لسلوك الطريق المؤدي إلى السؤدد ... ولا بُدّ من اقتحام الرهبة والفتك بشبحها الجاثم على أضلاعي.


في المأتم الآخر (مأتم بن خميس) الموكب ينطلق في وفيات صفر ... منها وفاة الإمام الرضا (ع) المسموم في خُراسان بعيداً عن مرأى أهله ومُحبّيه من السُلالة النبوية ... في هذه المناسبة ألقى الرادود (حسن المعلمة) قصيدة أعجبتني كثيراً ... القصيدة تنتقد الوضع القائم في القرية من تفرقة وغرس للضغينة بين الأخ وأخيه ... مستهلها يقول ... فكروا يسلام بحالة وضعنا ... ولمتى نبقى متفرق شملنا ... والرضا شفتون حاله ... والعدو يتّم أطفاله ...


وتحمل في ثنايا أبياتها هجوماً لاذعاً على المتوغلين في الشحناء ... فيها يقول الشاعر ... عمي وخالك أخوه من ديره ... لا يفرقنا البايع ضميره ... استهلاله لهذه الفقرة بعلاقتي النسب ... الأولى للمتكلم والثانية للمُخاطَب فيها دلالة على تقارب العلاقات في حقيقتها وإن باعدها الشيطان بما يجري من تناحُرات بين الإخوة...


نفس القصيدة ألقاها عصراً ... لم يكن من ضير في السابق إلقاء القصيدة ليلاً و عصراً ... سِيّما إذا كانت ناجحة جماهيرياً ... دارت القصيدة في خلدي وترنمت بها ... ذهبت (للأخ حسن المعلمة) ... لم تكن لي به معرفة سابقة ... كانت هذه القصيدة فاتحة المطاف في علاقة طويلة ورفقة مشوار مليء بالخدمة ... طلبت القصيدة منه ... أمهلني ريثما يستشير شاعرها ... (السيد عيسى شرف) بشاعريته الحية كتب القصيدة ... بعد استشارته لم يكن من مانع لديه ..


أخذت القصيدة نسختها باليد وأعدتها له في ورقتها الأصلية بخط شاعرها ... في مأتم السنابس لم يكونوا يحيون وفيات الأئمة في صفر ... هم مقتصرين على محرم وذكرى الأربعين ووفاة الرسول الأعظم (ص)والإمام علي (ع) ... المُقرر أن أشارك في وفاة الرسول الكريم... القصيدة في مطلعها بعد عن مناسبة وفاة الرسول... جعلتها كالتالي... والنبي شفتون حاله... ولمتى نبقى بجهالة ... بمحاولة بسيطة جعلتها هكذا... وبمعرفة متواضعة من قراءاتي هنا وهناك ... ومن خلال ذائقة السمع ... حرّكت شيئاً ما في النص لأهيئه لما أريد... والحاجة أم الاختراع... كثير من القصائد أجريت عليها معالجة بهذه الطريقة لأجعلها تستقيم لوزن أريده... أو لمعنى أنشده.


وألقيت القصيدة في جزء لا بأس به من طريق الموكب ... لم يكن الرادود حينها في هذا الموكب يستوعب الطريق كلها... من الممكن أن يكونوا أثنين أو ثلاثة يتتابعون في تأدية قصائدهم... بشيءٍ من الوجل أدّيت القصيدة وسط أجسام الكبار... وأنا فتى لم أتجاوز السابعة عشر بعد... تُحدجني الأنظار بأشعتها ... ولا أعلم أي أمر تؤول إليه قصيدتي...


أثنى الآباء الكبار على قصيدتي ... وأمطروني بالمديح الفائض ... لعل المدح هذا يبقي أضراراً وإن جاء بالمنافع ... فالنفس ذات خفايا ... على قارعها يقع حب الثناء والإطراء ... ولعلَّ التشجيع كان الدافع الأساس لهم ... امتطيت مديحهم في تكرار الموضوع لمرات متتالية ... صرت لا ألقي قصيدة تخلو من دعوة للتوحد وترك التشرذم ... غفلة من الجميع عمّت حيث لم يوجهوا لتنوع المواضيع في القصائد ... إنما كان هذا الموضوع بارزاً وآخذا بعقول الكثيرين.


من الغريب أن القصيدة ألقيت في موقعين يتمركز فيهما جُلُّ التناحر ... ولم تغير ولم تحرك راسخاً في النفوس ... ربما لقناعة كل طرف بعدالة طرفه ... ومن الطريف أن تُصبح القصيدة التي أنجحتني لدى موكب الكبار نقطة تعيير من الشباب الساخرين ... إذا أراد أحدهم استفزاز مشاعر الحنق لدي يناديني ... فكروا ... تذكيراً لي بصوتي حين أطلب من الجمهور ترديد المستهل ... قليل من الصدى يجد هذا الاستفزاز في نفسي ... القصائد الأخرى حملت نفس الموضوع تقريبا ... كتبتها بمقدرة بسيطة في مجال الشعر...


لم يكن الشعراء متوفرين حينها ... تحاشي الوقوع بين أنياب السلطة هو السبب ... ذهبت مع الأخ رياض للشاعر ملا علي الرضوي ... طرقنا بابه طالبين منه إتحافنا بشعر نلقيه في الموكب ... وهو الشاعر المعروف صاحب الديوان المطبوع ... وصاحب القصيدة التي ألقاها جعفر سهوان في الموكب ... لم لا أشكر ربي كل حين ... فلقد حقق آمال الخميني... قصيدة لاقت أعجاباً من الناس ... وهو لاقى عناء من السلطة أيضاً بسببها ...


تنصل من طلبنا بأعذار أدركنا وهنها ... الريبة تجوس في نفسه تجاهنا ... لا يعرفنا مسبقاً ويخشي عواقباً كعواقب قصيدته السابقة ... تعذّر بفقدان الصفاء الذهني ... وسد الباب في وجهينا ... وعدنا نُجرد أقلامنا الناشئة في تسطير الكلمات في الأوزان التي نريدها ... أو في تفريغ الأشرطة العراقية وإلقاء القصائد منها.


القصائد العراقية تُمثل رافداً كبيراً في تلك المرحلة ... لا يخلو موكب من الاعتماد عليها... ولقد كانت إنتاجاتها ثرية حينئذٍ ... لم يستول ِ حزب البعث عليها بعد ... ولم تمنع المواكب من تأدية واجبها..

التعليقات (1)

  1. avatar
    المعارض ، عضو في الصرح الحسيني

    بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم و رحمة الله و بركاته الأستاذ الكاتب عبد الشهيد الثور تحية طيبة و بعد ، أقرأ في سلسلة مقالاتك صورة ترسمها و لكن هذه الصورة مازالت ناقصت المعالم ، لأنك لم تذكر حالت الشيل في الحقبات الزمنية التي تتحدث عنها ، و لم تذكر نشاط موكب حسنية الحاج بن خميس و من هم القاؤمن عن الإلقاء و الشعر . أتمنى أن أرى صورة تذكرارية جميلة لقريتنا من خلال مقالاتك . و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع